البابا يعود إلى «خلوته» وسط «مليونية حب»

كتب: عماد خليل, يوسف العومي, هشام ياسين الثلاثاء 20-03-2012 18:14

شيّعت مصر الثلاثاء بكل طوائفها البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، من الكاتدرائية المرقسية بالعباسية وسط دموع وعويل وصراخ لعشرات الآلاف من الأقباط الذين حضروا لكنهم لم يتمكنوا من الدخول نظراً لاشتراط المقر البابوى الحصول على تصريحات خاصة للدخول فى سابقة هى الأولى من نوعها، فيما دعا البابا شعبه فى وصيته الأخيرة التى تُليت خلال الجنازة إلى فعل الخير وألا يدعوا العالم يضلهم.

وقام الأساقفة بتلاوة الصلوات على جثمان البابا شنودة بحضور أكثر من 110 أساقفة للكنيسة، أعضاء المجمع المقدس من داخل وخارج مصر، إلى جانب حوالى 500 قس ووفود أجنبية من كنائس إثيوبيا وسوريا ولبنان والفاتيكان واليونان وألف مرتل وشماس، وتبادل الأساقفة قراءة مقاطع من الإنجيل وتأملات دينية فى الموت من أقوال آباء الكنيسة الأولين، حسب طقس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حيث اتشحت الكاتدرائية بالسواد ولافتات التعزية.

وحسب الطقوس المسيحية تمت الصلوات والتابوت مفتوح ووجه البطريرك الراحل مكشوف، ويعد التابوت الذى وضع فيه البابا هدية من الأنبا «برنابا» أسقف روما تكريما للراحل وهو مصنوع من خشب الأبانوس، ومرسوم عليه صورة السيد المسيح، ومكتوب عليه اسمه وتاريخ رسامته، ويعد تحفة فنية حقيقية، حيث سيدفن البابا بملابسه الكهنوتية الرسمية البيضاء الخاصة بالصلاة «وكأنه يُزف إلى عرس السماء».

وفى بداية القداس قام بطريرك إثيوبيا الأنبا باولص بتلاوة صلوات جنائزية خاصة باللغة الأمهرية على جثمان البابا شنودة الثالث، تعبيرًا عن الارتباط التاريخى بين الكنيستين القبطية والإثيوبية.

وألقى «باولص» كلمة باللغة الإنجليزية قال فيها إن «البابا شنودة أحد رموز المسيحية، تعلمنا منه الكثير، وجئنا لا لكى نصلى عليه وإنما لنطلب صلاته من أجلنا، وعزاؤنا أنه فى أحضان القديسين». كما قام بطريرك السريان الأرثوذكس مار زكا عيواص الأول بتلاوة صلاة وألحان كنسية باللغة السريانية.

ووصف البطريرك السورى وفاة البابا بأنها خسارة فادحة. وقال إننا نأمل أن يعوض الله الكنيسة القبطية خيرًا، مبلغًا تعازى أحبار الكنيسة السريانية وداعيًا بالرحمة للبابا شنودة.

وترأس القداس الجنائزى الأنبا باخوميوس، القائم مقام بشؤون الكنيسة، فى تمام الخامسة صباحاً بقداس خاص للأساقفة عقب تسبحة لشمامسة الكنيسة فى الثالثة فجراً، واستمرت حتى الحادية عشرة حيث تم السماح لمن يحمل دعوة خاصة فقط من الأقباط.

وقد بكى كل من بالكاتدرائية عند تلاوة كلمات البابا شنودة إلى شعبه فى صورة وصية قائلا: «أسألكم يا أولادى الأحباء احفظوا الأمانة.. أحبوا بعضكم بعضا محبة حقيقية.. افعلوا الخير.. لا تدعو العالم يضلكم.. لا تتوانوا فى خدمة الله.. احفظوا ألسنتكم من الوقيعة.. احفظوا أجسادكم طاهرة للرب.. اصنعوا مخافة الله.. ويشهد الله يا أولادى أننى لم أخف عنكم من كلام الله شيئًا ولم أنم قط وهناك ملامة بينى وبين واحد منكم».

بعد وصية ونصائح طويلة طلب البابا أن يصلى له الجميع وأن يقيم الله راعيًا صالحًا جديدًا يرضى الشعب ويسوسه، وبعدها وجه الأنبا بيشوى الشكر لمصر كلها ولكل من حضر من دول العالم.

ثم حمل الأساقفة والكهنة جثمان البابا شنودة إلى سيارة خاصة ومنها إلى مطار ألماظة ليتم دفنه فى دير الأنبا بيشوى فى مقبرة خاصة مصحوبا بكل الدعاء أن يجازيه الله خيرا عما فعله من أجل مصر والبشرية جميعا.

وشهد شارع رمسيس بالعباسية حالة من الفوضى إثر خروج جثمان البابا شنودة من الكاتدرائية، حيث ارتفعت أصوات الصراخ وعبارات الوداع، بينما اقتحم الآلاف الحواجز الحديدية للحاق بسيارة البابا، ولم تتمكن قوات الأمن من السيطرة على الموقف، ونشبت اشتباكات أثناء منع الأمن سير الأقباط خلف البابا ما أسفر عن حالات إغماء وسقوط السيدات والأطفال.

وخرجت سيارة الإسعاف التى تحمل جثمان البابا بسرعة شديدة خوفا من اعتراض الآلاف لإيقافها لإلقاء نظرة الوداع، وكانت السيارة محاطة من الجوانب بسيارات مدرعة وأمن مركزى ويسبقها من الأمام 4 موتوسيكلات ومثلها من الخلف.

وخرج الآلاف خلف السيارة فى مسيرة إلى مطار ألماظة وسط بكاء شديد وهرولة للوصول إلى السيارة لإلقاء نظرة الوداع، مرددين هتافات أبرزها «اوعوا تكونوا حتمنعونا.. نمشى فى جنازة أبونا»، «بابا شنودة يا حبيب يا رافع الصليب»، «بابا شنودة يا مليح .. يا اللى اختارك المسيح».

وفى هذا الزحام الشديد تعذر على الأساقفة والمطارنة اللحاق بسيارة البابا شنودة لاستقلال الطائرة العسكرية ومرافقته إلى دير الأنبا بيشوى، حيث لم تتمكن سيارات الأساقفة من الخروج من الكاتدرائية فى ظل التكدس من جانب المشيعين، وفى الوقت نفسه بدأت قوات الجيش والأمن المركزى فى الانسحاب من داخل الكاتدرائية والمناطق المحيطة بها لإعطاء مساحة لسيارات الإسعاف فى الدخول لنقل المصابين.

وفى مطار ألماظة تجمع الآلاف أمام قاعدة ألماظة الجوية لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان البابا شنودة قبل نقله فى طائرة عسكرية إلى وادى النطرون، حيث قامت قوات الأمن المركزى بعمل طوق أمنى على القاعدة، بداية من شارع الطيران بمدينة نصر وحتى كوبرى المطار. وبلغ عدد جنود الأمن المركزى الذين اصطفوا لتأمين موكب نقل البابا نحو 10 آلاف مجند، فيما طافت تجمعات شبابية تحمل مجسمات عليها صورة البابا شوارع مصر الجديدة، ووصلت إلى مدخل قاعدة ألماظة الجوية.

فيما اعتلى عدد من الشباب المسلمين والمسيحيين الأشجار الموجودة أمام القاعدة فى مشهد لم تشهده مصر من قبل، كما ضمت الحشود عدداً من النساء المنتقبات اللاتى حرصن على توديع البابا ومشاركة الأقباط أحزانهم.

وقبيل وصول جثمانه إلى وادى النطرون دقت الأجراس الحزينة بدير الأنبا بيشوى استعداداً لاستقبال جثمان البابا شنودة الذى تم نقله عبر طائرة حربية، وخيمت حالة من الحزن الشديد على الدير، ودخل عدد من الرهبان فى نوبة بكاء حزناً على فراقه.

وكانت محافظة المنوفية أعلنت حالة الطوارئ بمدينة السادات استعداداً لمراسم دفن البابا شنودة الثالث بدير الأنبا بيشوى بمدينة وادى النطرون التابعة لمحافظة البحيرة، ونظراً لقرب مدينة وادى النطرون من مدينة السادات تم إعلان الطوارئ بجميع مستشفيات مدينة السادات، وتكثيف الخدمات المرورية والأمنية بالمدينة، كما تم منع الإجازات فى هذه الجهات، وذلك نظراً لملاصقة مدينة السادات لوادى النطرون، مقر تشييع جنازة البابا.

وعندما هبطت الطائرة العسكرية التى تقل جثمان البابا شنودة فى المهبط المخصص والواقع على بعد نحو 4 كيلومترات من دير الأنبا بيشوى كان فى استقبال الطائرة محافظ البحيرة وقائد الشرطة العسكرية حمدى بدين الذى رافق وعدد من قيادات القوات المسلحة ورجال الدينين الإسلامى والمسيحى الجثمان من القاهرة.

ووصل جثمان البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، إلى مدفنه بدير الأنبا بيشوى بصحراء وادى النطرون بعد رحلة حلق بها فى السماء لمدة 25 دقيقة، وهو زمن الرحلة التى استغرقها الجثمان من القاهرة. وبدأت مراسم دفنه بالدير الذى يبعد مسافة 115 كيلو متراً من القاهرة بقيام الآباء والأساقفة الضيوف مع الرهبان من الدير والأديرة الأخرى بحمل الجثمان على الأكتاف ثم تمت تلاوة الصلاة الربانية وبعض آيات الكتاب المقدس والطواف به داخل الدير على أنغام الكنيسة الجنائزية حتى دخل إلى مثواه الإخير ليوارى الثرى فى القبر الذى أعد خصيصاً لذلك.

والمقبرة تقع فى الجهة المقابلة للكنيسة الأثرية داخل الدير وقباب القبرة مزينة بالرسوم القبطية، ويحيط المقبرة مجموعة من النخيل وأشجار الزينة مثل الفيكس تاكندا و«الفيكس نتدا» والجهنمية كما يوجد بالقرب من المقبرة أقدم بئر مياه، وتسمى بدير الشهداء.

وتبلغ مساحة المقبرة الخاصة بقداسة البابا داخل الكنيسة المقدسة نحو 250 مترا فى 160 مترا، وتم تزيينها بالرخام من الداخل والخارج، ودفنه داخل المقبرة مرتديا كامل ملابسه الكهنوتية البيضاء المحلاة بالصلبان وكأنه ذاهب ليكمل خدمته فى السماء ولابس الصليب وفى يده عصا الرعية بالإضافة إلى أيقونة العذراء مريم.

وقد احتشد الآلاف على أسوار الدير والدير المقارب له «دير السريان» وفوق الأشجار رافعين صور قداسة البابا وحاملين الكاميرات فى محاولة لالتقاط صور المشهد الجنائزى لمحاولة لالتقاط الصورة الأخيرة للجثمان، وسط دقات لأجراس الدير تعبر عن الحزن.