لم تكد ليبيا الخارجة من حقبة استبدادية صعبة دامت حوالى أربعة عقود تتنفس هواء الحرية، وفور مرور عام على «الثورة الليبية» برزت إشكالية جديدة بعد إعلان «برقة» إقليماً فيدرالياً ذا حكم ذاتى، كما كان سائداً منذ ما قبل نجاح ثورة الفاتح عام 1969 على يد العقيد الليبى الراحل معمر القذافى.
وادعى زعماء مدنيون فى إقليم برقة فى شرق ليبيا فى وقت سابق أن الدعوة إلى نظام فيدرالى هى «محاولة لمنع تقسيم ليبيا أو انفصال أى إقليم»، مع العلم بأن هذه المنطقة تحتوى على غالبية نفط البلاد، وجاء فى الإعلان أن الإقليم يريد نظاماً فيدرالياً تتمتع من خلاله الأقاليم التاريخية «برقة وفزان وطرابلس» بقدر كبير من الاستقلال عن حكومة طرابلس.
وأمام مخاوف التهميش فى الشرق، وكابوس التقسيم فى الغرب، لم يأخذ الكثيرون فى ليبيا دعوة القلة إلى الفيدرالية على محمل الجد عند ظهورها إلى العلن قبل حوالى أسبوعين فى خبر إذاعته إحدى المحطات الفضائية، حتى إن البعض صنف الخبر فى خانة أخبار كاذبة كثيرة سبقته، فيما رآه البعض الآخر فقاعة إعلامية، إلا أن الأيام القليلة التى سبقت موعد المؤتمر شهدت تصاعد وتيرة الدعوة، التى يعتبرها البعض طوق نجاة للتخلص من تهميش عانته مدن الشرق فى ظل مركزية تفرض عليهم تبعية لطرابلس (الغرب).
وبينما يبرر الساعون والمؤيدون لتكوين هذه الفيدراليات خطوتهم بالفشل الذريع للدولة المركزية وسياسات المجلس الانتقالى الليبى الاستبدادية وتهميش ما وصفوه بالكيان الشرعى فى شرق ليبيا، يرى محللون أن دعوات الانفصال عن الدولة المركزية فى طرابلس تحمل بصمات التحريض الأمريكى للاستفادة من ثروات هذا الإقليم الغنى بالنفط، وهو الهدف الأساسى الذى قام من أجله الغرب بالتدخل فى ليبيا.
ونقلت صحيفة «الوطن» الليبية عن مراقبين قولهم إن مشروع الاستعمار الغربى بقيادة الولايات المتحدة لتقسيم ليبيا انتقل من الخطط المرسومة على الورق إلى أرض الواقع، وإن إعلان برقة كفيدرالية منفصلة هو خطوة على طريق رسم خارطة جديدة لمنطقة المغرب العربى وتجزئتها إلى عدة دويلات يسهل السيطرة عليها فى حين يعبر آخرون عن مخاوفهم من بداية حرب أهلية تفتت البلد ليس إلى ثلاث كونفيدراليات فحسب بل إلى مدن وقرى وقبائل وجهات.
وأمام هذا المشهد، هدد رئيس المجلس الوطنى الانتقالى، مصطفى عبدالجليل، بـ«استخدام القوة» لمنع تقسيم ليبيا، داعيا أهل برقة النفطية إلى الحوار. وقال عبدالجليل «لسنا مستعدين لتقسيم ليبيا (...) ونحن نستطيع ردعهم ولو بالقوة». وقال «عبدالجليل»: «أدعو إخوتى فى برقة كما يسمونها الآن للحوار»، مشيرا إلى وجود «مندسين ومن أزلام (الزعيم الليبى الراحل معمر) القذافى الذين يستغلونهم الآن» بينهم.
كما اعتبرت جماعة الإخوان المسلمين الليبية، فى بيان لها، أن الرغبة فى تطبيق النظام الفيدرالى فى ليبيا يمكن أن تكون خطوة فى اتجاه التمزيق الكامل للتراب الليبى كما حدث فى السودان مؤخراً.
ونقل موقع «المنارة» الإعلامى عن الجماعة قولها إن «المصالح الجهوية أو الطموحات الشخصية الضيقة التى تستهدف المراهنة على التوجه الفيدرالى ستكون عامل ضعف للدولة الليبية وتجعلها لقمة سائغة للتدخلات والاختراقات الخارجية». وأوضحت أن «فترة النظام الفيدرالى الذى عرفته ليبيا بعد الاستقلال جاء بعد حالة من التفرق، وكان خطوة مرحلية إيجابية فى اتجاه بناء الدولة الليبية الموحدة كليا، وهو ما تحقق فعلا عام 1963 واستقبل شعبنا حينها قرار التوحيد الكامل بكل سرور وترحاب».
كما اعتبر نائب مندوب ليبيا فى الأمم المتحدة، إبراهيم الدباشى، إعلان برقة إقليماً فيدرالياً، «سلوكا تعبيريا لمواطنين ليبيين فقط»، متوعدا باتخاذ إجراءات ردعية إذا أقدم هؤلاء المواطنون على أعمال تمس بوحدة الدولة المركزية، بحسب ما نقله موقع «الخبر» الجزائرى. وفى أول حادثة علنية تظهر بعد إعلان منطقة برقة إقليماً فيدرالياً شهدت مدينة بنغازى الثلاثاء مناوشات بين سكانها الرافضين للفيدرالية وآخرين مؤيدين لها، وحمل الرافضون للفيدرالية الذين تجولوا فى عدد من الشوارع الرئيسية فى المدينة، التى كانت «عاصمة الثوار» قبل سقوط نظام القذافى، أعلام الاستقلال وهم يرددون الهتافات التى تؤكد وحدة ليبيا كاملة، معتبرين إعلان برقة إقليماً فيدرالياً خطوة نحو تقسيم ليبيا.
ونقل موقع صحيفة «الأخبار» الليبية عن شهود عيان تأكيدهم أن مؤيدى الفيدرالية اضطروا إلى التراجع والتفرق أمام تزايد أعداد المتظاهرين الرافضين الذين قدر عددهم بأكثر من 5 آلاف شخص، وخصوصاً بعدما تصاعدت حدة المناقشات بين الطرفين وتبادل الشتائم بينهما.
وردد المتظاهرون الغاضبون من إعلان الفيدرالية الذين توجهوا إلى ساحة التحرير شعارات «الوحدة الوطنية... لا شرقية ولا غربية»، مؤكدين أن بنغازى والمدن الشرقية كافة لن تكون فى صف «النظام الفيدرالى» وستكون مع وحدة ليبيا دولة ديمقراطية واحدة.
من ناحيتها، اعتبرت وكالة «سانا» السورية الرسمية أن ليبيا تسير على خطا السودان وتستكمل مشروع قوى الاستعمار الغربى الساعى لتفتيت البلاد العربية واستغلال ثرواتها، تحت ستار فيدراليات تهدد وحدة أراضيها وتنذر بدخولها دوامة من العنف والحرب الأهلية كـ«أولى نتائج الديمقراطية المزعومة التى رسمتها لها الولايات المتحدة الأمريكية».