(1)
يوم بعد يوم، ومن خلال متابعتى للكيفية التى ندير بها قضايانا وملفاتنا المختلفة يزداد يقينى بأمرين، أولا: إننا لا نعطى للعلم والمعرفة وللدلالة المفاهيمية للأمور الأولوية والاهتمام.. ثانيا: إن هناك بيئة داخلية تتضمن عناصر لها مصالح أن تبقى الأمر الواقع على ما هو عليه.. وهو أخطر ما يهدد الدولة الحديثة التى تحدثنا عنها الأسبوع الماضى.. وينطبق هذا الأمر على كثير من مناحى حياتنا.. منها التعاطى مع قضايا الحريات عامة، ومن ضمنها الحريات الدينية.. كيف؟.. لنأخذ هنا زيارة اللجنة الأمريكية للحريات الدينية إلى مصر فى الشهر الماضى مثالا نموذجيا.. كيف؟.
(2)
بداية، أذكر أن كاتب هذه السطور هو صاحب المؤلف الوحيد باللغة العربية (الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط منذ قانون الرعاية المذهبية الصادر وقت الإمبراطورية العثمانية إلى القانون الأمريكى للحرية الدينية).. وعلى مدى القسم الثانى من الكتاب (من ص 81 إلى ص 156) عرضنا تفصيلا للقانون الأمريكى للحرية الدينية، الذى أطلقته جماعة دينية متشددة أمريكية بعنوان «بيان إثارة الوعى» فى يناير 1996، ومع تزايد ضغط اليمين الأمريكى: الدينى والسياسى على الكونجرس بمجلسيه، تمت الموافقة على القانون فى صورته الدينية بالرغم من أن هناك مشروعا اقترح أثناء المناقشات حاول أن يخفف من المرجعية الدينية للقانون وإضفاء الصبغة المدنية عليه بعض الشىء (مقترح دون نيكلز) والاستناد للمرجعية الدولية لا المرجعية الأمريكية دون غيرها..
وأقر القانون فى 1998، ملزما الرئيس الأمريكى مشتركا مع الكونجرس بتشكيل لجنة مستقلة للحرية الدينية، وإصدار تقريرين للحرية الدينية حول العالم سنويا: الأول فى مايو من كل عام تصدره اللجنة، والثانى من قبل السفير المتجول المسؤول عن الحرية الدينية التابع للخارجية الأمريكية الذى يصبح عضوا فى اللجنة دون أن يكون له حق التصويت.. والقانون يتضمن 15 عقوبة سياسية واقتصادية، ويقسم الدول تبعا لتصنيف خماسى دقيق يعتمد مفهوما للاضطهاد باعتباره حالة مستمرة ومنظمة (وليس بحسب المادة 18 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان بحسب دون نيكلز).
(3)
صدر كتابنا فى فبراير 2000 أى منذ عشرة أعوام بالضبط، ودأبنا على الكتابة الدورية حول الموضوع مع كل زيارة للجنة، وأخذنا ننبه إلى خطورة القانون وما يتضمنه، واقترحنا واقترح غيرى الكثير فى محاولة حل الإشكاليات العالقة، ولكن لا حياة لمن تنادى، حتى سنة 2004 ثم امتنعنا، لشعورنا بغياب الجدية فى مواجهة الأمر.. وتكفى الإشارة إلى أنه حتى تاريخه وهو ما توضحه تصريحات من تلاقيهم اللجنة أو من تطلب تعليقاتهم لا نعرف هوية اللجنة (فتارة اللجنة برلمانية، وتارة حكومية، ومرة تتبع المجتمع المدنى، أحد المسؤولين يصفها بأنها تابعة للكونجرس) وعدم معرفة بأن هناك تقريرين يصدران كل عام، وبالتالى فهم الدلالات المفاهيمية لما تتضمنه التقارير عن مصر وما يترتب عليها، ولا ينسحب حديثى على الوقائع والأحداث.
(4)
بيد أننا لم نمتنع عن المتابعة.. فما الذى تضمنه تقرير 2004 واعتبرته نقطة تحول آنذاك وما الذى جد اليوم فى 2010.. فى 2004بدأ التقرير يستخدم تعبير «المجموعات الدينية فى مصر» Religious Groups، فمصر تتكون من مجموعات دينية بشكل عام تنقسم مسيحيا إلى مجموعات مسيحية Christian Groups، وإسلاميا إلى مذاهب، وعليه تم إدراج الشيعة.. كما يستخدم التقرير تعبير الأقليات الدينية ويدخل تحته الأقليتان اليهودية والبهائية.. كما بدأ الحديث عن الإخوان، وبالرغم من إدانة التقرير لماضيهم واستخدامهم العنف إلا أنهم يذكرون تحرش الحكومة بهم.. وأخيرا صدر تقرير 2004 وهو يعتبر مصر فى قائمة الدول التى تقع تحت المراقبة Watch List، .. ما دلالة ذلك؟
(5)
لم ندرك كلنا بدون تمييز أن مصر التى يتحدثون عنها هى مصر المجموعات الدينية وليس مصر الجماعة الوطنية القادرة على استيعاب الاختلافات بين مواطنيها.. ووقعنا فى فخ الحوار على أرضية مصر المجموعات الدينية من جهة، كما كان هناك فى الداخل ما يدعم ذلك على حساب مصر كل المواطنين بوعى أو بغير وعى. إن هناك فرقا جوهريا بين أن تصل الحقوق إلى الجميع كمواطنين وهم نشطون فى المجال العام والسياسى ونحن مع ذلك بالمطلق..وأن نمنح أو لا نمنح الحقوق لأفراد ينتمون لمجموعات دينية ومذهبية ونقبل الحوار على هذه الأرضية.. بيد أن الطرح الأول يتطلب عدم وجود انسداد سياسى أو بلغة أخرى حرية سياسية ومدنية بالمطلق،
أما الطرح الثانى فإنه لا مفر من أن يعود الفرد إلى جماعته عازلا نفسه عن الإطار الجامع كى يناضل من أجل حقوقه الدينية. لم نعرف أن القاعدة فى الاجتماع الإنسانى هى الاختلاف، حيث راق لكل طرف أن التقرير يتحدث عنه ولم يدرك أن عليه فى المقابل أن يقبل الحرية للآخرين سواء مذهبيا فى داخل الدين الواحد، أو بين الأديان.. والنتيجة أننا وصلنا إلى 2010.. ونستكمل الحديث الأسبوع القادم.