عندما علم بنيتنا زيارة مقابر قرية شباس عمير، حيث يرقد جثمان الأديب الراحل خيرى شلبى، أصر على الذهاب معنا لقراءة الفاتحة على روحه، قدمه لنا صبرى أنور السنهورى، شقيق زوجة خيرى شلبى، باعتباره الصديق المقرب إلى الكاتب الراحل منذ أيام الطفولة، وكان دائما يقول عنه إنه «خيرى شلبى الذى لم يذهب إلى القاهرة».
طوال الطريق كان عبدالصمد أبوسليمة، (73 سنة)، مدير عام فى التربية والتعليم سابقا، يترحم على الراحل، بأنفاسه المتقطعة، فيما يسير بخطوات بطيئة متكئا على عصاه، فى اتجاه المقابر، وبعد العودة، جلسنا فى بيت السنهورى، نستمع إلى ذكريات «أبوسليمة» مع رفيق طفولته وشبابه خيرى شلبى.
يقول: «موته أصابنى بنكبة لم أشعر بها فى أى وقت مضى، فلم يكن بالنسبة لى مجرد صديق، بل كان يمثل بالنسبة لى الأمن الثقافى»، فى إشارة إلى أن الكاتب الراحل كان «معيناً لا ينضب» بحسب قوله، يلجأ إليه فى أى معلومة يحتاجها، «باختصار كان دائرة معارف حية».
ويبتسم أبوسليمة وهو يعود بالتاريخ إلى أكثر من 60 سنة مضت، متذكرا الطفل خيرى شلبى، وهو يقلد صوت المذيع «ديمترى لوقا» أثناء تقديمه مسلسل «سمارة» فى الإذاعة، «كان الراحل يحب تقليد الأصوات، فيجمع أطفال القرية حوله، ويحكى لهم بصوت مفخم ما قرأه من قصص أو روايات».
ويضيف: «توطدت العلاقة بينى وبين الراحل بسبب نهمنا المشترك للقراءة، ومن خلاله عرفت أن هناك كاتبا يسمى (دون كيشوت)، وقرأنا معا رواية (الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوى، وجميع أعمال جورجى زيدان، وألف ليلة وليلة، وغيرها من الأعمال المشهورة».
ويتابع: «فى مدرسة عبدالله النديم الابتدائية، عندما أصر مدرس اللغة العربية على ضرب خيرى بـ«الفلكة» بسبب اعتقاده أنه سرق موضوع الإنشا، إذ لم يكن الأستاذ يصدق أن طفلا فى مثل عمره يستطيع أن يكتب بأسلوب يليق بكاتب مقتدر، بالفعل انهال المدرس ضربا على قدمى خيرى، ولم ينقذه سوى الأستاذ محمد حسن ريشة، الذى كان يعرف بموهبته ويشجعه، وبينما كان مدرس العربى مصرًّا على استكمال عقابه للطفل، اقترح عليه (ريشة) أن يترك التلميذ ليعيد كتابة موضوع الإنشا أمامه، وبالفعل جلس خيرى وأعاد كتابة موضوعه، وخرج بشكل أفضل من سابقه».
يقول أبوسليمة: «بعد رسوب خيرى فى السنة الثانية بمعهد المعلمين، نشبت خلافات بينه وبين والده، اضطر معها الراحل إلى ترك بيت أسرته، والعمل فى مهن كثيرة من أجل توفير المال الذى يستطيع به السفر إلى القاهرة، وكان يعود من العمل لينام فى مسجد القرية»، ويصمت الرجل، وتظهر على وجهه ملامح الأسى، قبل أن يستطرد: «سبحان الله.. الناس اللى كانت شايله جثمانه عشان يصلوا عليه فى جامع القرية، وضعوا نعشه فى نفس المكان الذى كان ينام فيه، وكأنه بيرجع لنقطة البداية قبل أن يغادر القرية إلى العاصمة».
ويتابع: «سافر خيرى إلى القاهرة وانقطعت عنا أخباره، حتى وصلنا منه تلغراف يخبرنا فيه بأن عملا له سيتم بثه فى الإذاعة، وتجمع أهل القرية حول المذياع فى اليوم والموعد اللذين حددهما خيرى، ليفاجأوا بصوت طه حسين يقول: (كنت مقاطعاً للإذاعة بسبب رداءة ما يُعرض من أعمال، إلا أن الأخ خيرى شلبى أقنعنى بالعودة) وعلم أهل القرية وقتها أن خيرى هو من كتب سيناريو رواية الأيام للإذاعة».
يعلو صوت «أبوسليمة» متفاخرا بصديقه القديم، عندما يتذكر عودته إلى القرية، والزفة التى أقيمت له احتفالا بنجاحه، بعد أن كان، فى نظر الفلاحين، «شاباً أفسده الأدب»، حتى إن جميع عائلات البلدة، تمنت أن يكون زوجا لإحدى بناتها.
«أبوسليمة» الذى كابد تجربة الأسر خلال مشاركته فى حرب أكتوبر، يحكى عن مفاجأة أسعدته وساهمت فى رفع روحه المعنوية أثناء احتجازه فى أحد السجون الإسرائيلية، يقول: «كان السادات وزوجته جيهان يشرفان بنفسيهما على ما يتم إرساله للأسرى عبر الصليب الأحمر، ومن ذلك كراتين الوجبات التى كانت تأتى ملفوفة بورق الجرائد، وكان الهدف من ذلك أن يلم الأسرى بأخبار الجبهة الداخلية فترتفع روحهم المعنوية».
أما المفاجأة التى أسعدت «أبوسليمة» فهى عثوره على قصة قصيرة لخيرى شلبى فى جريدة «الأهرام» بعنوان «رقائق ثلج أسود»، وكأنه كان يريد توصيل رسالة مفادها أن الانتصار سيكون بمثابة البداية للصحوة العربية، يقول: «بعد أن قرأت القصة تغير حالى تماما، وارتفعت روحى المعنوية، وشعرت أنه لم يشأ أن يتركنى وحدى حتى وأنا فى أرض العدو، وحيدا أعيش مرارة الأسر».