«هؤلاء الذين سرقوا البنوك، وبأموال الشعب قتلوا شرف الشرفاء، أقصد أنهم قتلوا الشرف نفسه، فلم يعد للشريف أى فضل ولا معنى. أبالسة يكسرون عيون الكرماء.. يطاردون عزة النفس حتى لا يبقى فى الدنيا عزيز واحد يذكرهم بأنهم كلاب ولاد كلاب».
الجملة السابقة أنطقها خيرى شلبى لسان إحدى شخصياته فى رواية «نسف الأدمغة»، لكنها لم تكن إلا إحدى الحيل الدقيقة للهجوم على فساد النظام السابق، فالرجل لم يكن يخشى فى الحرية عين الرقباء، ومنذ ظهور نجمه الأدبى فى أوائل السبعينيات، كان عملاقًا حرا فى عصر قصرت فيه القامات، لم يلتفت إلى المصادرة والقمع والتضييق، ولم يخضع لسلطة أو مساومة من أى نوع، ترك الأديب الراحل كلمته بوضوح صارخ، قبل أن يرحل عن العالم.
فى شهادته عن الحرية، نشرتها مجلة «فصول» فى خريف 1992، يسرد خيرى شلبى التجليات الكثيرة لقمع الحريات فى المجتمع، بداية من موقف أبيه عندما علم برسوبه فى السنة الثانية بمعهد المعلمين العام، فجمع كتبه فى «كومة كبيرة» ثم أشعل فيها النار، يقول «خيرى»: «صحيح إن أبى قد أشعل النار بطريقة فنية بارعة، أخمدت اللهب قبل أن يتعدى كتابين أو ثلاثة من الكتب المهترئة، وصحيح أيضًا أنه استجاب لمن أبعدوه عن النار، ليقوموا بإطفائها، لكن الطريف أنه صرخ فيهم عندما حاولوا إطفاءها بالماء، ونصحهم باستخدام التراب، ليسهل تنفيض الكتب الناجية، كان المشهد، فى حد ذاته، مروعًا، وكان كفيلا بوضع المتاريس بينى وبين الكتب الأدبية طوال سنى الدراسة على الأقل».
بعد طرده من بيت أسرته، اشتغل «شلبى» فى أعمال كثيرة بهدف جمع ما يكفيه من مال يستطيع به شد الرحال إلى القاهرة، فاشتغل فى مهن كثيرة كالنجارة والسمكرة والحدادة، وعمل مكوجياً وبائعاً فى محل، وبائعاً سريحاً، وترزياً، متخيلا أنه بذلك يجمع ثمن حريته، لكن ما إن تطأ قدماه أرض القاهرة، حتى يوقن أنه هرب من قيود أبيه إلى قيود أخرى أكثر صرامة وأشد وطأة، وفى المدينة الكبيرة رأى المجتمع الذى لا يقيم وزناً للحرية، ولا يصنع كاتباً حراً بالضرورة.
يقول: «هذا المجتمع لا يساعدنى على أن أكون حراً، بل هو ينمى فىّ مشاعر العبودية والاستسلام لقهر القواعد، والقوالب الجاهزة، والأيام المكرورة المتشابهة، وما يحركها من أوهام وخرافات اكتسبت شرعية أشبه بالقدسية، إنه مجتمع يقتلنى إن جاهرت بالغضب، تسحقنى دبابات شرطته إن تظاهرت معبرا عن احتجاجى، تفصلنى سلطته الرئاسية المتغلغلة إن لم أتواءم مع مزاج الطبقة الحاكمة، التى لا يعنيها أن أصبح شريداً بلا عمل، طالما أن هناك العشرات من ذوى المزاج المرن جاهزين لشغل وظيفتى، يعترضنى أمنه الصناعى عند كل باب، حتى باب الدار التى أفنيت فى خدمتها عمرى، يفتح رقيبه عينيه على كل لقطة أتفوه بها، ترفضنى شلله، تمجنى أذواقه، تلفظنى ناقلاته، لا تمنحنى حتى مكاناً على السلم، شوارعه نفسها تضج بى، تطردنى سيارات فارعة لا تنتهى إلى الأرصفة، فتلفظنى الأرصفة بأكشاكها المنصوبة لاصطياد كل قرش فى جيبى».
هنا تكتمل المعاناة الدرامية للأديب الآتى من بعيد، من الحقول والبراح الذى لا تحده حدود، من أرض المواويل، إلى المدينة الكبيرة بشوارعها القاسية، وعذابها المرير: «على إذن أن أظل سجين وضع اقتصادى متدن، سجين إرادة الآخر: المعلم، المدير، المدرب، المشرف، المفتش، الواعظ، الشلة، الطائفة، الحزب، التخبط السياسى، ألاعيب اللصوص والتجار، مروجى الإشاعات والموضات... على إذن أن أتحول إلى صفر على الشمال».
لكن «خيرى» لم يكن ليرضى بذلك أبداً، إذ راح ينشد الحرية، حتى ولو كانت فى المقابر وسط الأموات، بعد أن وجد نفسه منفيا من كل التجمعات الشللية والتنظيمات العلنية أو السرية، ومن المهرجانات والمؤتمرات المفبركة، ومن الصحف النفطية، ودور النشر العراقية واللبنانية التى نشرت لكل من هب ودب، وحيث لا خبرة له بالعمل السياسى، تتيح له المتاجرة بالشعارات والمواقف، واللعب على التناقضات القائمة بين الأنظمة العربية، وحيث لا قدرة له على أن يكون بهلوانا مدهشا قادرا على كتابة الأدب الأملس الذى لا يغضب أى حاكم أو يثير حفيظة أى ممول.
ويبرر الأديب الراحل لجوءه إلى الأموات، بقوله: «وجدت أنه لا بد من العزلة التامة حماية للبقية الباقية من نفسى التى ألهبتها جروح الإحباط، ولدغات المرتزقين المدافعين عن مواقعهم، ونهش الكلاب التى تتوهم لمرآك أنك قادم لتأخذ قطعة العظم من أفواهها، فتنقض عليك بمخالبها، نفسى التى أمضتها الجهالات والضلالات المزدهرة، وروعتها الخرائب المتخفية مؤقتا وراء حدائق الورد الصناعى المتقن الصنع، وأرهبتها القنابل الموقوتة المختبئة تحت أنقاض الأبنية الحميمة التى انهارت فى زمن الانفتاح المزعوم». ويعقد «شلبى» مقارنة بين الأحياء الذين هجرهم، والأموات الذين استأنس بهم، واصفا رفاقه الجدد بأنهم «المطهرون حقا، لا يفرضون على صحبتك شروطاً، لا يتبرمون منك، لا يبتزونك، لا يقدمون لك الإرهاب فى مقابل الإغراء من أجل الصمت والتدليس، لا يثرثرون، وصمتهم الجليل ملىء بالأنس المطمئن إلى راحة أبدية على مبعدة خطوة أو خطوتين يفعم النفس بمشاعر الزهد فى العرض الزائل، والسمو إلى كل باق، كما يفحم النفس بحضور القوة الإلهية العظمى صاحبة فصل الخطاب النهائى فى هذه اللعبة الكونية كلها».
وعلى الرغم من انتقاداته للمجتمع، ووصفه له بأنه «مُدرب على الخضوع التام، والتلقى، والتبعية، والاستهانة بالإبداع وبالفكر» فإنه يعود ليؤكد أن «العائش الآن فى هذا الواقع ليس هو الشعب المصرى، إن الشعب الحقيقى منفى فى مكان مجهول، هو غائب، ما فى ذلك شك، لعله يبحث عن حريته فى مكان ما، فى زمان ما، وهو ما أتوجه إليه بالكتابة حيث يكون، أتوجه إليه حراً إلا فيما هو خارج عن إرادتى، وأعتقد أن الكتابة الصادقة المتمتعة، بحرية فى الرأى، وانطلاق فى الرؤية هى الطريق الوحيد للالتقاء بالشعب المصرى، فبحث الشاعر عن حريته هو فى الواقع بحث عن الشعب المصرى الحقيقى».
هكذا كان يؤمن عم «خيرى» إيمانا مخلصاً بالحرية، من أجل الكتابة والإبداع، لا المزايدة فى ندوة هنا أو أمسية هناك، كان يربط مصير حريته بحرية المجتمع، «لست إذن، مع ذلك، بالكاتب الحر، لسبب بسيط، هو أن المجتمع نفسه لم يحقق لنفسه الحرية بعد».
لكن الحرية التى كان يدفع باتجاهها دائماً تحققت أخيراً، وقد رآها بعينيه الثاقبتين فى ميدان التحرير، قبل أن يموت بأيام، اختار الكاتب العجوز الرحيل فى هذه اللحظة، وكانت مشاهد الثورة تؤكد أنه قد أصبح حراً الآن، لذا يمكنه الرقاد بهدوء، بعد أن أدى ما عليه كاملاً، مودعاً الشوارع والمقاهى والأحلام والكتابة، من أجل عالم آخر وسط رفاقه الأبديين.