فى عام 1959، ثار الأزهر مطالبا بوقف نشر حلقات رواية «أولاد حارتنا» فى جريدة الأهرام، وكتب الشيخ الغزالى وقتها تقريراً عن الرواية يتهمها بإهانة الدين الإسلامى والأنبياء، وكان سبب الثورة مقالاً - يُحسب كاتبه على تيار اليسار - نشر فى إحدى الصحف أشار إلى أن شخصيات الرواية دينية، ورغم استكمال نشر الحلقات فإنه تم منع نشر الرواية فى مصر، ولم تطبع إلا مؤخرا.
فى عام 1978، ثار الماركسيون والليبراليون ضد نجيب محفوظ عندما أعلن موافقته على زيارة الرئيس السادات إلى القدس، بل صدر بيان بمقاطعة أعماله بأنواعها فى جميع الدول العربية، وتبارى النقاد بمختلف ميولهم فى مهاجمته، لدرجة أن منتجى السينما كانوا يحذفون اسمه من الأفلام.
فى عام 1988 فاز محفوظ بجائزة نوبل، وألف الشيخ عبدالحميد كشك كتاب «كلمتنا فى الرد على أولاد حارتنا» رمى فيه محفوظ بالكفر والإلحاد، واتحدت التيارات الإسلامية ضده، ووصل الأمر إلى إهدار دمه، مما أدى إلى محاولة اغتياله عام 1995.
واليوم وصلت التيارات الإسلامية إلى الحكم، الرئيس مرسى من الإخوان، ومعظم مجلس الشعب المنحل من الإسلاميين، وصدرت تصريحات سلفية تصف أدب محفوظ بـ«الحرام»، فهل يعاد اغتيال محفوظ، وهل تُمنع روايته، رغم أن أول من كتب عن محفوظ هو الشيخ والمفكر والأديب سيد قطب، بل هو السبب المباشر فى تعريف الناس بقيمة إبداعه؟
والسؤال الأهم: من أين أتى محفوظ بكل هذا الإنتاج والخصوصية المصرية والإبداع الذى لم يسلم يوما من المديح والسب على حد سواء؟ تكمن الإجابة فى سنوات التكوين الأولى.
عاش نجيب فى حى الجمالية الشعبى 9 أعوام من حياته، بعدها انتقلت أسرته إلى حى العباسية الأكثر تمدنا الذى عاش فيه 24 عاما، وتركه عندما تزوج. كان أصغر إخوته، لذلك كان ملتصقا بأمه، وكان يفصله عن أصغر أشقائه أكثر من 9 أعوام، لذلك فهو لم يلعب مع إخوته «4 بنات وولدين»، ولم يعرفهم بشكل طبيعى فى منزل الأسرة لأنهم جميعا تزوجوا مبكرا، لذلك لم توجد علاقات أخوية كاملة بينه وبينهم.
كانت والدته «فاطمة إبراهيم» لا تعرف القراءة ولا الكتابة، لكنها كانت «مخزن ثقافة شعبية». كانت تصطحب «نجيب» لتزور مسجد الحسين، وحجرة المومياوات فى المتحف المصرى، ودير «مارجرجس»، كما ورث عشقه اللانهائى لحى الحسين الذى كان يزوره، مثلها، حتى بعد انتقالهم إلى العباسية.
كان فى بيت الأسرة «فونوجراف»، وكانت معظم الأسطوانات للشيخ سيد درويش الذى كانت تحبه أمه، بينما كان والده «عبدالعزيز إبراهيم» يحب الاستماع إلى المنيلاوى وصالح عبدالحى، وكان صوته حلوا، فقد كانت تطلب منه إحدى الجارات الغناء عندما تتشاجر مع زوجها.
كان يذهب مع والده للاستماع إلى الشاعر الشعبى الذى كان يغنى على الربابة فى المقاهى، وذهب معه إلى المسرح مرتين، إحداهما مسرحية لنجيب الريحانى، والثانية مسرحية لعلى الكسار، فاقتنع بموهبة الأول فى التمثيل، وأحب سرعة بديهة الثانى وقلدها، كما شاهد وهو ابن 5 أعوام أفلام شارلى شابلن فى سينما «الكلوب المصرى» فوقع فى غرام السينما. كان والده موظفا، ملتزما ومنظما، وكان يرتدى نوعين من الملابس، فى الشتاء بدلة وفوقها بالطو، وفى الصيف الجبة والقفطان.
كان يعود من العمل، يصلى ويقرأ القرآن، ويجلس بالساعات صامتا، ثم يتناول والعشاء وينام. انتقلت هذه التفاصيل إلى حياة نجيب الذى كان يسير على نظام يومى صارم، كما كان يجلس بالساعات يراقب الناس من المقاهى التى انتقل له عشقها من والده.
دخل نجيب المدرسة وعمره 9 أعوام، ومع ذلك ظل تلميذا متفوقا حتى تخرج فى قسم الفلسفة فى جامعة القاهرة. كان حريصا على المذاكرة، ولم يمنعه لعب كرة القدم - فقد كان لاعبا مميزا - من التفوق فى الرياضيات والعلوم واللغة العربية، وقرأ فى الفلسفة والأدب المترجم، وكان وفديا مثل والده. وتسبب ظن سراى الملك فى أنه مسيحى فى حرمانه من بعثتين إلى فرنسا، لكنه اعتبرها أكبر خدمة، لأنه ما كان ليكتب بهذه الخصوصة المصرية الخالصة.