عندما تغادر محطة مترو «السادات» فإن أول ما سيصادفك في طريقك هي تجمعات الباعة الجائلين، بعضهم يفترش الرصيف، والبعض الآخر يقف خلف منضدة يعرض عليها بضائعه، وكلما توغلت أكثر في شوارع وسط البلد كلما زادت أعداد الباعة، وتنوعت بضائعهم، واختلفت طرقهم في لفت أنظار المارة لما يبيعونه.
فاض الرصيف بما عليه من بضائع، فأصبح طبيعيًا أن ترى الباعة وقد احتلوا شريطًا محاذيًا للرصيف من جانبي الطريق، في مشهد لم يعتده المارة في تلك المنطقة كثيرًا قبل عدة شهور مضت.
يقول صالح محمد، أحد الباعة، في محل عطور بشارع طلعت حرب: «قبل الثورة كانت ظاهرة الباعة الجائلين محدودة في وسط البلد، وكانت أماكنهم معروفة ومحددة، البعض كان يتواجد في بداية شارع طلعت حرب من ناحية ميدان التحرير، والبعض الآخر كان يتواجد في تقاطع شارعي شريف مع قصر النيل، هذا»، بالإضافة إلى الباعة الذين ينتشرون عند مداخل محطات المترو ويبيعون السلع الرخيصة، خاصة في منطقة محطة مترو الإسعاف وتقاطع شارعي ٢٦ يوليو مع رمسيس».
ويصف «محمد» الوضع بعد الثورة قائلاً: «فجأة تحولت وسط البلد إلى سوق عشوائية كبيرة، انتشر فيها الباعة بشكل لا يمكن تخيله، بدأ الأمر في ميدان التحرير ومع تكرار المليونيات والمظاهرات توافد باعة الأطعمة وبعض السلع الرخيصة والتذكاريات إلى الميدان ومنه انتشروا إلى داخل شوارع وسط المدينة، فأصبح من العادي جدًا أن نرى عربة كشري أو كسكسي في ميدان طلعت حرب».
ويكمل: «مع مرور الوقت وترسخ حالة الانفلات الأمني التي تعيشها مصر، أصبحت ظاهرة الباعة الجائلين أكثر انتشارا، فبدلا من بعض باعة الملابس الذين كانوا يحتلون بعض النواصي بشارع طلعت حرب، أصبح شارع طلعت حرب كله عبارة عن مكان لتجمع الباعة الجائلين الذين يبيعون ملابس شبابية، ومع مرور الوقت احتل الباعة الأرصفة ثم احتلوا أجزاء من حرم الطريق حتى أصبح من المستحيل ركن سيارة في الشارع، أو مرور سيارتين متجاورتين، ووصل الأمر ليلة عيد الفطر الماضي إلى توقف حركة المرور تماما في الشارع».
ما يرويه محمد جعل أصحاب المحال في شوارع وسط البلد أمام موقف صعب، فمن ناحية احتل الباعة واجهات محالهم وغالبا ما يبيعون سلعا بأسعار أرخص من نظيراتها في المتاجر التي اضطرت مع الوقت إلى المنافسة على احتلال الأرصفة، والبيع بأسعار مشابهة لأسعار الباعة الجائلين.
يقول «سيد»، أحد الباعة في محل ملابس بشارع طلعت حرب: «صاحب المحل قال إنه لن يستطع دفع رواتبنا، كنا ٥ بائعين أخبرنا أنه سيبقي على اثنين فقط وسيطرد ثلاثة، فاخترنا أن نأخذ بضاعة من المحل ونبيعها على الرصيف المواجه له بسعر أقل قليلا من سعر المحل، على أن يكون لنا نسبة من المبيعات.. وهكذا الحال في أغلب المحلات بوسط البلد».
الباعة الجائلون.. إمبراطورية يحكمها رجل أعمال
عالم الباعة الجائلين في «وسط البلد»، وإن كان يظهر عليه الفوضى، إلا أنه منظم للغاية من الداخل، «سالم» نادل بأحد مقاهي شارع ٢٦ يوليو كان مفتاحنا لاختراق ذلك العالم، حين دلنا على بعض الشخصيات المهمة التي تسيطر على عالم الباعة الجائلين بـ«وسط البلد».
يقول سالم: «شارع ٢٦ يوليو بالكامل يقع تحت هيمنة أحد رجال الأعمال الأقوياء الموجودين بسوق التوفيقية، والذي يتاجر بقطع غيار السيارات، ورجل الأعمال هذا وبمساعدة ابن عمه وجيش من البلطجية يفرضون سيطرتهم بالكامل على شارع ٢٦ يوليو، ويعملون على تنظيم الباعة فيه ويفرضون عليهم إتاوات يومية، مقابل الحماية والسماح لهم بافتراش الأرصفه وبيع السلع».
ويتابع: «العصبيات القبلية لها دور أيضا في تنظيم الباعة، فمثلا شارع ٢٦ يوليو مقسم إلى مناطق، بحيث يحتل أبناء كل منطقة أحد تلك المناطق، فبداية الشارع من ناحية صيدلية الإسعاف وحتي دار القضاء العالي مخصص لأبناء منطقة الصف بحلوان والقري المحيطة بها، وهم يبيعون سلع رخيصة كالمنتجات الطبية المقلدة والصواعق الكهربية، يأتي بعدهم أبناء محافظة الفيوم الذين يحتلون المنطقة من دار القضاء العالي وحتي تقاطع شارع شريف مع ٢٦ يوليو، ويبيعون «الإكسسوار الحريمي» ولعب الأطفال، وهكذا فإن أبناء كل منطقة يفضلون العمل متجاورين لتوفير درجة أكبر من الحماية».
المعلومات التي أطلعنا عليها سالم واجهنا بها بعض الباعة في شارع ٢٦ يوليو. في البداية أنكروا، ولكن مع طرح أسماء رجل الأعمال وابن عمه الذين أطلعنا عليهم «سالم» بدأ الباعه في التجاوب معنا، قال أحد الباعة الذي رفض ذكر اسمه، خوفًا من بطش البلطجية «هم يفرضون علينا إتاوات باهظه حسب حجم البضاعة والمكان الذي نحتله وثمن البضاعه، فالبائع الذي يحمل صندوقا صغيرا والذي يتجول في الشارع يدفع ٣٠ جنيهًا في اليوم، وهي أقل إتاوة تُدفع وتصل في حالات «الفرشات» الكبيرة إلي ما يزيد على ٢٠٠ جنيه في اليوم، ولا يمكن لأحد الاعتراض علي الدفع، فمن يعترض مصيره الضرب والاستيلاء على بضاعته».
يكمل البائع «ليس لدينا اختيار آخر، فلا أحد يريد الجلوس في الشارع ليبيع السلع التي نبيعها، لكن انسداد أبوب الرزق في وجوهنا دفعنا إلى ذلك، ولا نملك خيارات أخرى. وما نتحصل عليه بعد كل ذلك لا يسد حاجاتنا الأساسية إلا بصعوبة شديدة».
أسواق اليوم الواحد
تفاقم أزمة الباعة الجائلين في وسط المدينة وانسداد أغلب الشوارع الرئيسية، دفع أجهزة محافظة القاهرة إلى شن حملات أمنية في الأيام الماضية لإزالة الإشغالات التي يشكلها الباعه الجائلين، لكن كان لابد من توفير مكانا لأكثر من ٧٠٠٠ بائع جائل في محافظة القاهرة، حسب الإحصائيات الحكومية.
وفي تصريحات صحفية أكد اللواء سيف الإسلام، نائب المنطقة الغربية عن محافظة القاهرة، أن «المحافظة لديها تصور كامل لتسكين هؤلاء الباعة الجائلين فى أسواق حضارية وباكيات تم إنشاؤها لهذا الغرض، وذلك حفاظاً على البعد الاجتماعي ومصادر الدخل لهؤلاء المواطنين».
وأضاف «سيف الإسلام»، أن هناك خطة لنقل الباعة الجائلين من المناطق المزدحمة ومناطق وسط البلد إلى مناطق خاصة بهم، «حيث سيتم فتح مجموعة من المواقع والسويقات أمام الباعة الجائلين لعرض بضائعهم»، لافتا إلى أنه ستتم مصادرة البضائع التى يخالف أصحابها التعليمات أو الأماكن المحددة لهم، مؤكدا على أنه لن يسمح بالتواجد العشوائى خارج هذه الأسواق، وأنه سيسمح للباعة الجائلين بالتنقل من سوق إلى سوق، وفقا لمواعيد تشغيلها.
من جهتهم، يرفض الباعة فكرة أسواق اليوم الواحد التي طرحتها المحافظة، فيقول محمد السيد بائع جائل بشارع طلعت حرب «كلام المسؤولين كلام خيالي فأولا المواقع التي قالوا أنهم وفروها لنا لا تتسع لكل عددنا بأي حال من الأحوال، كما أن فكرة سوق اليوم الواحد فكرة ليست ذات فائدة في القاهرة، فأسواق اليوم الواحد كنا نشاهدها في بلادنا في الأرياف فقط، أما في القاهرة فليس من المعقول أن يتنقل الزبائن والباعة بين الأسواق حسب الأيام، كما أننا لا يمكننا العمل ليومين أو ثلاثة في الأسبوع فقط ونمكث في بيوتنا باقي أيام الأسبوع».
ويضيف محمد «المسؤولون لا يزالون يفكرون بنفس الطريقة التي كانوا يفكرون بها قبل الثورة، يبحثون عن المسكنات فقط ولا أحد يفكر بنا بجدية، ولا أحد منهم يتفهم أننا بشر ولدينا أسر نعيلها، فنحن لا نعمل هكذا من قبيل الرفاهية، فلكل منا أسرة تحتاج أن تعيش، وتأكل وتشرب».