أُرسلت أولى البعثات المصرية إلى جنوب السودان، فى عهد الملك فاروق الأول، الذى كان لقبه الرسمى وقتها «ملك مصر والسودان»، كان الملك يسير على نهج جده محمد على الذى يدرك قيمة بلدان منابع النيل، فانتظمت البعثات تحت مسمى «الرى المصرى». وكانت أولى النقاط التى وصلت إليها البعثات هى مدينة «ملكال»، عاصمة ولاية «أعالى النيل»، التى أصبحت تابعة لدولة جنوب السودان، مع الانفصال.
تحتل بعثة الرى المصرية فى «ملكال» مساحة تقدر بنحو كيلو متر مربع، تمتد من شمال إلى جنوب المدينة، بمحاذاة «النيل الأبيض»، و700 متر مربع من شرقها إلى غربها، تمثل أكبر وأفضل المواقع على النيل الأبيض، فى المدينة.
تعود ملكية هذه المساحات الهائلة لـ«الرى المصرى»، بموجب عقود أبرمت أثناء الاحتلال الإنجليزى للبلدين، مصر والسودان، إلا أن هذه المساحة بدأت بالتناقص شيئا فشيئا نتيجة غياب المصريين وتراجع دورهم على مدار العقود الخمسة الماضية، فبدأ السكان بالاستيلاء على أراضٍ ومبانٍ تابعة لـ«الرى المصرى».
أقامت الحكومة المصرية فى عهد فاروق، فى «ملكال» مقرا دائما لها، يضم 64 استراحة، ومبنى لمقياس النيل ومرسى نهرياً، ومصنعاً للثلوج، وآخر لحفظ الأسماك، وورشاً للصيانة ومدارس صغيرة لتعليم الحرف، وعيادة طبية تقدم العلاج بالمجان للسودانيين.
والعقود أشرفت بعثة «الرى المصرى» التى تكونت من عشرات المهندسين والعمال والإداريين، على قياس منسوب مياه النيل وتقليل فاقد الأمطار، وفى الوقت نفسه السعى لتحسين مستوى معيشة السكان، مما أحدث طفرة تنموية بحسب ما يقوله سكانها الذين عاصروا هذه الفترة، فأنشأت مستشفى لخدمة الأهالى ومدارس لتعليم الأطفال وتم إرسالهم للقاهرة أو الخرطوم لاستكمال دراستهم.
يقول «براشوت»، 87 عاماً، من قبيلة «شلوك» الذى يعمل لدى بعثة الرى المصرية منذ 60 عاما، إن البعثة كانت تقوم بأعمال كثيرة لا ترتبط فقط بالنيل، بل كان الأطباء المصريون يعالجون هذه الأنحاء.
وأضاف: أول محطة لتوليد الكهرباء، وأحدثت البعثة القديمة تقدما وتطورا فى التعليم والصحة العامة هنا، لكن العقود الثلاثة الماضية شهدت تراجعا كبيرا لدور مصر، وقد شهدت هذه المنطقة صراعا مسلحا طويلا فى السنوات العشر الماضية، إلا أن البعثة المصرية لم تنسحب بشكل تام.
«ملكال» هى عاصمة ولاية أعالى النيل، الحدودية بين الجنوب والشمال، وهى نقطة التقاء فروع النيل، من بحر الجبل وبحر الغزال وغيرهما، لتكوين «النيل الأبيض»، الذى يغذى نهر النيل بنحو 15% من المياه، التى تصل إلى الخرطوم لتلتقى مع «النيل الأزرق»، ليكونا معا شريان الحياة الذى يصل إلى بحيرة ناصر جنوب السد العالى بمصر.
غالبية أنشطة البعثة المصرية توقفت بسبب نقص التمويل، مثل كل الورش، ومصانع الثلج، ولم تعد للصحة المصرية أى دور، فالمدينة بلا أطباء بينما تنتشر فى موسم الأمطار أوبئة كالملاريا وغيرها.
ما إن تسقط الأمطار، حتى تغرق الطرق الطينية وتتقطع أوصال المدينة، فلا يسير فيها أحد إلا قليلا، وتتكون البرك والمستنقعات، لتغلق الطرق، فمحطة توليد الكهرباء تراجعت بكفاءتها نتيجة لإهمال من الجانب المصرى وعدم صيانتها.
تبلغ مساحة ولاية «أعالى النيل» نحو 78 ألف كيلو متر مربع، أراضيها خصبة للزراعة. فى أسواق المدينة لا تجد سوى بعض الخضروات المستوردة، وصلت عبر مرسى نهرى بسيط وسط النيل، وتباع بـ«الحبة»، وأحيانا لا تتوفر كميات كبيرة تكفى لسد جوع السكان، بينما يحصلون على الماء مباشرة من النيل، دون معالجة، مما يخلف نسباً عالية من الإصابة بالتيفود.