الشافعي.. الإمام الشاعر يؤسس «دولة الفقه»

كتب: ماهر حسن الجمعة 17-08-2012 23:36

 

هو القائل:

دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء

ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء

وكن رجلاً على الأهوال جلدًا وشيمتك السماحة والوفاء

والقائل:

ولرب نازلة يضيق لها الفتى ذرعًا وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج

هو الإمام الشافعي، الفصيح اللسان، البليغ الحجة، ولأنه عربي اللسان، والدار والعصر، وعاش فترة من الزمن في بني هذيل، فكان لذلك أثره الواضح على فصاحته ومعرفته الموسوعية في اللغة والأدب والنحو، فضلا عن دراسته المتواصلة، واطلاعه المستمر، حتى أضحى يرجع إليه في اللغة والنحو، كما أن أشعاره لا تزال مجرى الأمثال، حيث تفيض بالحكمة وأيضًا بالموعظة الحسنة وله ديوان كامل في شتى أمور الحياة، وفي هذا قال الإمام أحمد بن حنبل: كان الشافعي من أفصح الناس، وكان مالك تعجبه قراءته، لأنه كان فصيحاً.

عن مكان وتاريخ مولده، هناك ثلاث روايات، الأولى تقول إنه ولد في غزة، والثانية أنه ولد في عسقلان، والثالثة أنه ولد باليمن. يروى عنه أنه قال: ولدت بغزة سنة 150 هـ يوم وفاة أبي حنيفة، فقال الناس: مات إمام وولد إمام، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين.

وهكذا، فالشافعي ولد في بلد غريب عن موطن قومه بمكة، وتوفي أبوه وهو رضيع، لترعاه أمه «الأزدية»، وينشأ يتيمًا وفقيرًا، ولم يكن أمام الأم إلا أن تعود به إلى مكة، وعمره عامان. في المدينة المكرمة، حفظ القرآن، وهو لا يزال حدثًا صغيرًا. قال إسماعيل بن يحيى، سمعت الشافعي يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، والموطأ وأنا ابن عشر سنين. وسرعان ما اكتشف متعته في دراسة اللغة والأدب والشعر، وبرع فيها كلها، جامعًا بين الحسنيين.. الشعر والفقه.

اسمه كاملاً، أبوعبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد بن يزيد بن هاشم بن عبد المطلب.

رحل الشافعي من مكة إلى بنى هذيل، وعاش بينهم 17 سنة، فهم أفصح العرب، ليكتسب منهم فصاحة اللسان، ثم انصرف بهمة لطلب الحديث والفقه من شيوخها، فحفظ الموطأ، وقابل الإمام مالك، فأعجب به وبقراءته. نصحه مالك: يا بن أخي تفقه، وبشره: يا محمد اتق الله فسيكون لك شأن عظيم.

ويبدو أن الترحال الدائم كان محببًا للشافعي، فقام برحلات كثيرة، كان لها أكبر الأثر في علمه ومعرفته، فمن بني هذيل عاد إلى مكة، ومنها للمدينة، ليلقى فيها الإمام مالك بن أنس، وبعد وفاة الأخير، رحل إلى بغداد، ثم عاد إلى مكة، ثم إلى بغداد، ومنها خرج إلى مصر.

في مديح الترحال، قال:

ما في المقام لذى عـقـل وذى أدب من راحة فدع الأوطان واغتـرب

سافر تجد عوضـا عمن تفارقــه وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النَّصب

إنى رأيت ركـود الـماء يفســده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب

والأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب

والشمس لو وقفت في الفلك دائمة لملَّها الناس من عجم ومن عـرب

والتِّبرُ كالتُّـرب مُلقى في أماكنـه والعود في أرضه نوع من الحطب

فإن تغرّب هـذا عـَزّ مطلبـــه وإن تغرب ذاك عـزّ كالذهــب

يقول ابن خلكان: «الشافعي خرج من بغداد سنة 198هـ إلى مصر، فوصلها في سنة 199هـ، وقيل سنة 201هـ، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة 204هـ».

كان رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن. فإذا طلعت الشمس قاموا، وجاء أهل الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه. فإذا ارتفعت الشمس قاموا، فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر. فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف.

ويعد الشافعي، صاحب المذهب المسمى باسمه، المؤسس الحقيقي للفقه وأصول الدين، حيث وضع الأسس العلمية ومناهج البحث، محدداً «الخطوط الحمر»، مقبلاً على النص مقابل الرأي.

وروى عن مسلم بن خالد أنه قال لمحمد بن إدريس الشافعي، وهو ابن 18 سنة: أفت أبا عبدالله، فقد آن لك أن تفتي.

كان الشافعي مشهورًا بتواضعه، وخضوعه للحق، تشهد له بذلك مناظراته ودروسه ومعاشرته لأقرانه ولتلاميذه وللناس. وفي هذا يقول الحسن بن عبدالعزيز الجروى المصرى إن الشافعي قال: ما ناظرت أحدا، فأحببت أن يخطئ، وما في قلبي من علم، إلا وددت أنه عند كل أحد، ولا ينسب لي.

وقال: أشد الأعمال ثلاثة، الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف. وقيل إنه كان يختم القرآن، في رمضان، 60 مرة، كل ذلك في صلاة. ومما قاله الشافعي عن شهوة الطعام، ما يوافق ما قاله لقمان لابنه: والله ما شبعت منذ 16 سنة إلا شبعة طرحتها، لأن الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.