لم يكن محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجى الشهير بالـ«بوصيرى» يدرك خلال رحلته من قرية «دلس» بالجزائر، إلى القاهرة فى النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادى، أنه خلق فقط ليكتب «قصيدة الكواكب الدرية فى مدح خير البرية»، الشهيرة بالـ«بردة».
وعندما أتم دراسة السيرة النبوية، وكتب هنا وهناك، وامتزجت روحه بالسيرة العطرة قال البوصيرى عن سبب كتابته للبردة: كنت قد نظمت قصائد فى مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أصابنى شلل نصفى، فقررت كتابة قصيدتى هذه متشفعاً بها إلى الله حتى يعافينى، وكررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت، ونمت.
فرأيت النبى ومسح على وجهى بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدتُ فى نهضة، فقمت وخرجت من بيتى، ولم أكن قد أعلمت بذلك أحداً، فلقينى فقير من الفقراء فقال لى: أريد أن تعطينى القصيدة التى مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: أى قصائدى؟ فقال: التى أنشأتها فى مرضك، وذكر أولها وقال: والله إنى سمعتها البارحة وهى تنشد بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعجبته وألقى على من أنشدها بردة. فأعطيته إياها. وذكر الفقير ذلك وشاعت الرؤيا.
محمد سيد الكونين والثقليـن.. والفريقين من عرب ومن عجمِ
نبينا الآمرُ الناهى فلا أحدٌ.. أبر فى قولِ لا منه ولا نعم
هو الحبيب الذى ترجى شفاعته.. لكل هولٍ من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به.. مستمسكون بحبلٍ غير منفصم
فاق النبيين فى خلقٍ وفى خُلُقٍ.. ولم يدانوه فى علمٍ ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمسٌ .. غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ
وواقفون لديه عند حدهم .. من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
فهو الذى تم معناه وصورته.. ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسم
منزهٌ عن شريكٍ فى محاسنه.. فجوهر الحسن فيه غير منقسم
وربما لم يولد الشيخ عبدالعظيم العطوانى سوى لينشد بردة البوصيرى، حيث حفظها منذ طفولته فى صعيد مصر وأنشدها بكل الطرق التى أنشدت بها، حتى ذاع صيته وارتبط بها، فصارت البردة تعرف بعد البوصيرى بصوت العطوانى، وصار العطوانى يعرف بمنشد البردة، وقد رفض الشيخ العطوانى، رغم شهرته التى جابت الآفاق بالبردة، أن ينتقل إلى القاهرة لينال شهرته إعلامياً واكتفى بشرائط الكاسيت والتسجيلات التى حملت صوته الندى مادحا خير البرية، وكذلك انتقال كبار مريديه إليه لينشدوا خلفه حباً للرسول، ومن أشهر من أنشد خلفه الشيخ محمد متولى الشعراوى والشيخ محمد عبده يمانى، وزير الإعلام السعودى الأسبق.
وربما يبتسم البوصيرى كلما أنشد العطوانى أبيات قصيدته الشهيرة دوناً عن غيره، لأنه أيضاً ولد لها فقط، وإذا كانت السيدة أم كلثوم قد غنت نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقى وألهمت بها الملايين، فصوت العطوانى بالبردة ذاتها قادر على أن يصل بإحساس المستمع إلى أن يشم رائحة الرسول فى الجنة.