«أبوالريش» قرية أسوانية احتمت بالجبل.. فجرفتها السيول

الجمعة 29-01-2010 00:00

ظلت الحياة طوال 30 عاما تسير بحلوها ومرها. يوم عمل وكسب قوت للأسرة، ويوم آخر يكون راحة «إجبارية» لأن الرزق لم «يناد» على صاحبه فيه..

وبين هذا وذاك تواصلت حياة كثير من أهالى قرى محافظة أسوان طوال السنوات الماضية، إلا أن «السيل» يأتى بما لا يشتهى البشر، فالبرغم من قسوة المعيشة فى هذه القرى، سواء بسبب العيش فى أحضان الجبال بما فيها من مخاطر طبيعية وجيولوجية، أو بسبب ضيق ذات اليد، فإن معظم أبناء هذه القرى- وهم للعلم لا يعملون بالسياحة فى بلد السد وكلابشة وفيلة- ظلوا يعيشون حياتهم دون «تهديدات» أو مخاطر، ونسوا أو «تناسوا» أن «غضب» الطبيعة قد يأتى فى أى وقت دون سابق إنذار، خاصة أنهم لم يجدوا من يضع علامة «ممنوع البناء».

فى رصد لصندوق تطوير العشوائيات، التابع لمجلس الوزراء، لقرى محافظة أسوان غير الآمنة التى تهدد حياة سكانها فى أى وقت لأى سبب سواء كان جيولوجياً أو سيولاً أو حوادث قطارات أو منازل متصدعة أو تلوثاً بيئياً وذلك ضمن الخريطة القومية لمحافظات مصر، تم وضع 10 من القرى والعزب، ضمن هذه الدرجات وإن كانت تختلف فى درجة خطورتها، فهناك قرى تأتى فى المرتبة الأولى من حيث خطورتها على حياة سكانها، وصنفها الصندوق برقم (1) وهى المهددة بمخاطر السيول والجيولوجيا وحوادث القطارات، وأخرى فى المرتبة الثانية، رقم (2)، والمهددة للحياة بسبب العناصر الإنشائية، حيث تم إنشاء مساكن على تربة غير ملائمة للبناء، وهى التى تتسبب فى تصدع المبانى،أما المرتبة الثالثة (3) فهى التى تهدد الصحة العامة من افتقاد مياه نظيفة وصرف صحى وتلوث صناعى أو أنشئت تحت شبكات ضغط عال.

ووفقا لمصدر مسؤول فإن قرية أبوالريش التى أضيرت فى السيول منذ 10 أيام، ومنيت بكارثة، لم تكن ضمن القرى التى رصدها الصندوق فى البداية، إلا أنه تم تحذير مسؤولى المحافظة من خطر السيول والطبيعة الجيولوجية لهذه المنطقة منذ شهر يونيو الماضى، ولم يتحرك أحد.

وحظيت قرى وعزب مدينة أسوان بـ«نصيب الأسد» فى رصد المناطق العشوائية التى تهدد حياة سكانها، حيث تم رصد 7 عزب، بدرجات مختلفة، وجاء مركز البصيلية بحرى فى المركز الثانى حيث تم رصد قريتين، أما كوم أمبو فجاءت فى المركز الأخير بعزبة واحدة، ومن هنا جاءت جولتنا لرصد مخاطر هذه القرى التى سبق أن رصدتها «الحكومة» من قبل، على أن نبدأ بآثار وحجم الدمار الذى خلفته السيول فى أبوالريش، وماذا ينتظر أهالى باقى القرى خلال الأيام والشهور والسنوات المقبلة، خاصة أن جولتنا كشفت عن «انتظار» أهالى هذه القرى حدوث كوارث أخرى، إما كـ«توابع» للسيول، أو بسبب أى حدث «آلهى» آخر، خاصة أن هناك من يقوم بالبناء فى هذه القرى، دون وجود «رادع» أو اهتمام من مسؤولى المحافظة.

الوصول إلى أبوالريش صعب للغاية فمعظم سائقى التاكسى رفضوا اصطحابنا إلى داخل القرية، ومن وافق على ذلك طلب منا مبالغ كبيرة، فهى منطقة «خطر»، على حد تعبير أحد السائقين، إلا أن أحدهم وافق أخيرا نظير مبلغ زهيد من جانبنا وهو 15 جنيها، على الرغم من أن القرية لا تبعد عن مركز أسوان سوى بضعة كيلو مترات، واصطحبنا الرجل الذى أكد أن المكان أصبح يقصده السائحون ليس كمزار ولكن لمؤازرة أهله بعد الكارثة التى حلت به، وهو ما لاحظناه بالفعل فى بداية القرية عندما شاهدنا اثنين من السائحين ينزلان من أعلى البيوت التى «تذوب» فى أحضان الجبل، فى تاكسى خاص.

وفى الطريق إلى القرية وجدنا «شادراً» كبيرا مكتوباً عليه «مركز إغاثة المنكوبين»، أقامه أحد أبناء المحافظة «القادرين»– على حد تعبير البعض– والمعروف بأعماله الخيرية لأهالى القرى، وقد «فاحت» منه رائحة طعام تفتح «الشهية» حقا. أمام الشادر كان يقف أكثر من «تروسيكل»، وهى الموتوسيكلات الخاصة بنقل البضائع الصغيرة، يأخذ كل واحد منها عددا كبيرا من العلب البلاستيكية المليئة بالأرز وقطع الدجاج بجانب علب أخرى بها خضراوات مطبوخة، ومع العلب كان يتم توزيع عدد من أرغفة الخبز البلدى «أبو 5 قروش»، وقد وقف كل «مندوب» من الأسر المنكوبة ومعه الأسماء المحتاجة من الرجال والسيدات والأطفال والشيوخ، ليأخذ « نصيب» كل فرد على حدة وكانت هذه هى وجبة الغداء،

أما وجبة الإفطار فكانت تتكون من جبن أبيض مثلثات وحلاوة طحينية ومربى، وفور أن لمحنا أحد مندوبى هذه الأسر جاء إلينا مهرولاً وقال: «إنتو عايزين تروحوا أبوالريش.. ده إحنا متبهدلين خالص»، واصطحبنا الرجل بالفعل حتى أول القرية.

«محدش بيسأل فينا.. لا محافظة ولا غيره.. ما فيش غير أهل الخير».. هكذا بدأ «عواض» وهو أحد المتضررين من السيول، على الرغم من وقوع بيته فى أول القرية. كان التأثر واضحاً عليه تماما، خاصة أنه أقام خيمة له ولأسرته المكونة من زوجته وأبنائه الثلاثة ووالدته الصماء، بعد أن تهدم منزله تماما ولم يبق منه سوى بعض «الجدران» وبقايا أوان وملابس «تشهد» بأنه كان هنا بيت يعيش فيه بعض الناس، وقال: «بعد السيول لم نجد من يسأل عنا من المحافظة، أو أى أحد من المواطنين ولم يأت المحافظ (بارك الله فيه) سوى فى بداية وقوع الكارثة، ولم نشاهده بعد ذلك هو أو مسؤوليه»، نافيا أن يكون المسؤولون قد حذروهم منذ عدة شهور بوقوع السيول، وأنهم عرضوا عليهم منازل بديلة.

تركنا «عواض»، وتجولنا فى بداية القرية التى بدت عليها الكارثة، التى تركت آثارها على « جدران» وأرضيات و«نفوس» أهلها البسطاء للغاية، ولاحظنا وجود تناقض غريب بين المنازل وبعضها، فالقليل منها– وإن كان ينذر بالخطر أيضا– تم بناؤه بالطوب الأحمر والأسمنت، ويؤكد الأهالى أن هذه المبانى لـ«القادرين» فقط، أما الكثير من مبانى القرية– المتبقية بعد السيول– فجميعها مبنى بالطوب اللبن والطين وصخور الجبل وأسقفها من «جريد النخل».

وبعد مرور نحو عام على صدور قانون البناء الموحد، الذى قيل إنه سيقضى تماما على العشوائيات التى تهدد حياة المواطنين، ووضع بنودا خاصة للقرى والنجوع والعزب، فإن هذا القانون لا يزال غائبا عن قرى أسوان، فهناك كثيرون ممن يقومون بالبناء فى المناطق الخطرة وغير الآمنة دون إيقافهم بـ«القانون» مع وجود «البديل».

وتبدو منازل القرية– المتبقية بعد السيل– وكأن الجبل يحتضنها فى هدوء، ليحميها من شىء ما مجهول، إلا من «غضبه» هو، الذى لا يعرف أحد وقته، فعدد كبير من أهالى هذه القرية ذكروا أنها لم تُبتل بالسيل منذ أكثر من 30 عاما، وهو ما جعلهم يعيشون فى اطمئنان، خاصة أن الكثير من البيوت مبنية منذ نحو قرنين دون وجود ما ينذر بخطورتها– على حد تأكيدهم– وهو ما جعلهم «يتشجعون» ويبنون «بيوتا» جديدة بسيطة منذ نحو 30 عاما، إلا أن بناءهم هذه المرة جاء فى «غفلة» لسنوات طويلة فى مجرى السيل ولم يحذرهم أحد من مخاطره حتى نسوا هذا الأمر تماما، ليتذكروه فقط مع سيل «الثلاثاء الأسود».

التناقض الذى لاحظناه فى بناء البيوت جعلنا نسأل المواطنين عن سبب بقائهم فى هذه البيوت التى تبدو «هشة» وقد تقع فى أى وقت ما، فقال أحدهم: «نحن أرزقية، أى رزق يوم بيوم، ولهذا لا نستطيع بناء بيوتنا بالطوب الأحمر والأسمنت، ومادمنا مخالفين فلماذا قامت المحافظة إذن بتوصيل الكهرباء والمياه إلينا، وتحاسبنا بنفس الشرائح العالية، حتى إن بعضنا يدفع فى الشهر الواحد ما يقرب من 80 جنيها؟».

وقال مصطفى عثمان، الذى كان يقوم بمساعدة إخوته وأبناء عمومته فى نقل متاعهم من منزله الذى تهدم تماما، ليستقروا فى منطقة أخرى، قد تكون خطرة أيضا، بعيدا عن المياه التى غمرت المنزل ولم تجف بعد: «نحن نعمل رعاة أغنام، أى ليس معنا أموال لكى نقوم ببناء منزلنا مرة أخرى، حتى الغرفة التى بنيتها ظللت أعمل فيها لمدة 5 سنوات، فكلما كان معى أموال كنت أشترى الأحجار من الجبل أو أكسر بعضها، وعندما أرزق بأموال أخرى أشترى الأسمنت وهكذا، حتى جاء السيل ليأخذ أحلامى مع الغرفة التى بنيتها، التى كنت أعرف أنها غير آمنة، ولكن هل وفرت المحافظة بيوتا لنقلنا من هذا المكان، ووفرت لنا فرصة عمل ورفضنا؟».

الهدوء و«الرزانة» والمفردات اللغوية السليمة، التى كان يتحدث بها مصطفى، جعلتنا نعاود سؤاله عن مؤهله، ولماذا لم يبحث عن فرصة عمل أخرى غير رعى الأغنام، فقال: «أنا حاصل على دبلوم تجارة، ولدى شهادة خبرة كهرباء من القوات المسلحة بعد تأدية الخدمة العسكرية عام 98، وتقدمت أكثر من 3 مرات لمديرية الرى بالمحافظة بلا فائدة».

ومع تواصل رحلتنا فى القرية، كانت آثار السيول الثقيلة تتضح أكثر أمامنا، فالبيوت متهدمة والأوانى وأغراض المعيشة منتشرة فى كل مكان. سألنا أحد الأهالى عما إذا كانت المحافظة قد عرضت عليهم الانتقال فى منازل أخرى بعد الكارثة فأكدوا أن ذلك لم يحدث، مستدركين أن «العرض» كان منذ عدة سنوات، على أن يكون الانتقال فى غرفة واحدة وصالة، وهو ما رفضوه تماما لضيق المساحة مع زيادة أعداد كل أسرة.

تبعات السيول ظهرت أكثر بعد الكارثة، ومنها الآثار «النفسية» التى جعلت أهالى القرية – وإن كانوا يتحملون جزءًا من الخطأ– يشعرون بأنهم «المهمشون فى الأرض»، خاصة عندما قال جرجس إن «إعانة» الشؤون الاجتماعية للأسر تعطى بـ«المزاج» والمحسوبية، على الرغم من تهدم منزله ونومه هو أسرته خارج المنازل. أما رومانى تادرس فقال: «نحن لا نريد أكلا أو شرابا، نريد فقط مأوى نعيش فيه، فنحن الرجال ننام خارج بيوتنا ليلا، ونترك النساء والأطفال فى الداخل، على الرغم من قلقنا من وقوع الجدران والأسقف المتبقية فى أى وقت».

«العمار فى سنين.. والخراب فى ثانية».. هكذا بدأت سماح شلبى- إحدى المتضررات- كلامها، مؤكدة أنهم مهددون بوقوع أحجار الجبل عليهم أو باقى الجدران، متسائلة عن كيفية تعويضهم عن الأضرار التى لحقت بهم.

وإذا كان بعض أهالى «بلد السد» فى أبوالريش اختاروا أن يناموا فى العراء وسط «أطلال» بيوتهم وحطامها، بالرغم من خوفهم الشديد من وقوع كارثة أخرى، فإن منهم من يتخذون من مركز شباب القرية مكانا لإقامتهم «الإجبارية» فى «الخيام» بعد أن تهدمت بيوتهم تماما، إلا أنهم أبدوا دهشتهم بسبب نقلهم من إحدى المدارس التى نقلوا إليها بعد وقوع الكارثة مباشرة، إلى مركز الشباب الذى يعانون فيه من انتشار الثعابين والسحالى– على حد قولهم- وأصبحوا ينامون فى الخيام داخل المركز دون وجود «حمامات» نظيفة يقضون حاجتهم فيها.

وقالت «تهانى» بعيون تملؤها الدموع تخشى أن تنساب أمام «الغرباء»، إنها تعانى من مرض القلب وزوجها يعانى من الكبد، وإن النوم فى العراء يهدد صحتها، ومع ذلك لم يهتم بها أحد ومنحوها «شريط برشام واحد» لا يناسب حالتها. وعلى الرغم من أن أهالى أبوالريش يؤكدون أن «الله تعالى» كان رحيما بهم فى السيل، حيث كان هناك تحذير إلهى قبل وقوعه عن طريق الرياح والمطر الشديد، مما جعلهم يخرجون من بيوتهم التى تقع فى مجرى السيل تماما، إلا أن وجودهم هناك لايزال ينذر بالخطر، بالرغم من أنهم لايزالون يرفضون العيش خارج «منطقتهم» الجبلية والحصول على أراض لبنائها، خاصة أن البناء يكلف الكثير– على حد قولهم- ولا تزال المحافظة تتجاهلهم وتبحث عن كيفية التعويضات للخسائر «البسيطة» التى منيت بها القرية.