عبر محاولات متعددة بدأت منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وبأشكال تغيرت عبر الزمن، حدد قضاة مصر هدفهم الأسمى في تحقيق استقلالية القضاء ومنع تغوّل أي سلطة أخرى عليه. ذهب مشرّعون وجاء مشرّعون، غاب حكام وأتى آخرون، وعايشت البلاد ثورتين وعدة حروب، حتى نظام الحكم نفسه تغير باختلاف الأزمنة، ورغم ذلك بقي الهدف واضحًا: «إستقلال السلطة القضائية».
العصر الملكي
الحديث عن استقلال القضاء يرجع إلى أيام الملكية: العصر الذهبي لاستقلال المؤسسة القضائية.
آنذاك استند القضاة في مجهودات تحقيق استقلالهم إلى ما ورد في الفصل الرابع من «دستور 1923»، بدءًا من المادة 124 وحتى المادة 131، وهي المواد الخاصة بتنظيم عمل القضاء.
نص الدستور في هذه المواد على «استقلال القضاة وعدم وجود سلطة لأحد عليهم وعدم جواز عزلهم»، وأكد على أن أعضاء النيابة يكون «تعيينهم بالمحاكم وعزلهم وفقًا للقانون»، وشدد على «علانية الجلسات إلا إذا أمرت المحكمة بجعلها سرية».
أما أول قانون لاستقلال السلطة القضائية، فقد صدر عام 1943 حاملا رقم 66. عُرف هذا القانون باسم «قانون استقلال القضاء»، وقد أكدت مذكرته الإيضاحية أن «الاستقلال هو الأصل بالنسبة للقضاء»، وحذرت أن كل مساس بهذا الأصل «من شأنه أن يعبث بهيبة وجلال القضاء»، وأن كل تدخل في عمل القضاة من جانب أية سلطة من السلطتين الأخريين «يخل بميزان العدل ويقوض دعائم الحكم».
وقد تشددت مواد قانون 1943 في توفير الضمانات لاستقلال القضاء إداريًا وماليًا، لدرجة أن تحديد مرتبات القضاة بجميع درجاتهم كان يتم وفقًا لجدول تم إلحاقه بالقانون منعًا للاستثناءات، مع التأكيد على عدم جواز تحديد راتب القاضي بصفة شخصية وعدم جواز معاملته بشكل استثنائي بأية صورة.
وعلى هذا الأساس، لم تشهد مصر الليبرالية – 1923-1952 – مذابح للقضاة أو محاولات ذات شأن من السلطة التنفيذية لاحتواء القضاة أو إخضاعهم. وهو ما دعا كثير من الكتاب والمؤرخين إلى التغني بالعصر الليبرالي كنموذج ينبغي أن يُحتذى في احترامه للقضاء وأحكامه.
العهد الناصري
شهدت محاولات استقلال القضاء بعد ثورة يوليو انتكاسة كبرى. فقد صدرت في الأعوام التالية على الثورة عدة قوانين، منها القانون «188 لسنة 1952» والقانون «56 لسنة 1959» والقانون «74 لسنة 1963» التي عدّلت بعض أحكام قانون السلطة القضائية لسنة 1943، بالإضافة إلى القانون 43 لسنة 1965. وقد جنحت كل هذه القوانين إلى منح صلاحيات إضافية للسلطة التنفيذية على حساب استقلال السلطة القضائية. من ذلك مثلا عدم تحصين كل القضاة من العزل، حيث تم قصر الحصانة على بعض القضاة من درجات وفئات معينة دون غيرهم. ومن ذلك أيضًا إقرار تبعية النيابة العامة إلى وزير العدل ومنح وزير العدل سلطة ندب القضاة.
ويذكر المستشار طارق البشري في كتابه «القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء» أن ثورة 52 سلكت مع القضاء «ما يمكن أن نسميه أسلوب الإحاطة والاقتطاع، دون أسلوب السيطرة المباشرة والإلحاق الصريح» موضحًا أن الثورة «ارتكنت إلى الإحاطة بالقضاء وإبعاده عن التأثير فيما ترى الدولة أنه يمس سياستها. وجرى هذا الإبعاد عن طريق منع التقاضي بالنسبة للمسائل التي ترى الدولة أنها ذات أهمية سياسية بالنسبة لها، وكذلك إنشاء المحاكم الخاصة بالنسبة للقضايا التي ترى أن لها أهمية سياسية خاصة لها».
ولم تشأ الحقبة الناصرية أن تطوي آخر صفحاتها قبل أن تشهد صدامًا بين رجال السلطتين التنفيذية والقضائية، صدامًا يكاد يكون الأعنف حتى اليوم، وذلك في مذبحة القضاة التي دارت وقائعها عام 1969، والتى أسفرت عن فصل مائتي قاض وإعادة تشكيل الهيئات القضائية.
وقد أتت مذبحة 1969 كعقاب للقضاة على تصويتهم لتيار الاستقلال في انتخابات «نادي القضاة» في نفس العام. إذ شعر النظام، وعلى رأسه جمال عبد الناصر، أن هناك من داخل أوساط القضاة من يريد مناطحة سلطته المطلقة من خلال نقد تكبيل الحريات والدعوة إلى الديمقراطية.
عصر السادات
تغنى دستور 1971 باستقلال القضاء ونص على عدم جواز التدخل في أعماله وعدم قابلية رجاله للعزل. وبالفعل فإن عددًا من مؤرخي القضاء المصري يؤكدون أن عصر السادات شهد عودة جزئية لاستقلال القضاء، وإن كان بدرجة أقل مما كان سائدًا قبل يوليو 52.
لكن رغم ذلك، فإن قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 – الذي استمر العمل به ساريًا مع تعديلات حتى الآن – وسّع سلطات وزير العدل فيما يختص بالسلطة القضائية، بدءًا من منحه حق الإشراف على المحاكم والقضاة، إلى إعطائه الحق في تشكيل المكتب الفني لمحكمة النقض، إلى منحه سلطة ندب القضاة والمستشارين «بموافقة مجلس القضاء الأعلى»، إلى إقراره لنظام تخصص المستشارين، إلى إضطلاعه بتنظيم الخدمات الصحية والاجتماعية للقضاة، هذا إضافة إلى المواد الخاصة بالنيابة العامة التي تنص أن رئاسة أعضاء النيابة تكون لرؤسائهم ثم الوزير.
وبلغ بسط القانون الأخير لسلطات الوزير على السلطة القضائية حد أن يعود الإشراف المالي والإداري على حصيلة إيرادات المحاكم إلى النيابة تحت رقابة وزارة العدل، إضافة إلى ما أقرته أربعة مواد بالقانون، هي المواد «45، 78، 79، 121»، بأن تكون تبعية إدارة التفتيش القضائي لوزارة العدل.
ورغم ما جرى على هذا القانون من تعديلات بموجب القانون رقم 35 لسنة 1984 والقانون رقم 142 لسنة 2006، إلا أن الوضع لم يتغير كثيرًا. فقد جعلت هذه القوانين من موافقة مجلس القضاء الأعلى على إجراءات وقرارات وزير العدل ضرورية، كما نقلت «حق مراجعة قرارات الجمعيات العامة ولجان الشؤون الوقتية بالمحاكم الابتدائية» من الوزير إلى المجلس، إلا إنها لم تتعرض للنقاط الجوهرية المُطالب بتغييرها، وعلى رأسها تبعية التفتيش القضائي للوزارة، وتعيين النائب العام من قبل رئيس الجمهورية، وتبعية أعضاء النيابة لوزارة العدل، والإشراف المالي والإداري للوزارة على المحاكم.
عصر مبارك
عقب «مؤتمر العدالة الأول» الذي عُقده القضاة عام 1986، تم العكوف على وضع مشروع قانون للسلطة القضائية ينهى حالة التداخل التي أحدثها القانون القائم بين السلطتين التنفيذية والقضائية. وقد انتهى الأمر إلى ظهور مشروع من إعداد نادي القضاة، حين كان تحت قيادة «تيار الاستقلال» في 2005، يقضي بإضافة 7 مواد وتعديل 35 آخرين من القانون «46 لسنة 1972».
فلسفة مشروع القانون المقترح قامت في مجملها على تحقيق استقلال القضاء من خلال تقليص الصلاحيات الممنوحة لوزارة العدل بحق السلطة القضائية، وذلك بنقل الإشراف المالي والإداري والرقابي من الوزارة إلى مجلس القضاء الأعلى الذي قرر المشروع أن يكون أغلب أعضائه منتخبين. هذا وقد تشدد المشروع في عدد من المسائل، من بينها القضاة فى غير الأعمال القضائية، وإلغاء سلطة وزير العدل ورئيس الجمهورية فيما يختص بتعيين رئيس محكمة النقض ورؤساء المحاكم الابتدائية، إضافة إلى نقل تبعية أعضاء النيابة إلى مجلس القضاء الأعلى.
ورغم أن مشروع نادي القضاة ظل حبيس الأدراج، إلا محاولات تمرير قانون جديد لاستقلال القضاء لم تتوقف. فقد شكّل مجلس القضاء الأعلى لجنة منتصف العام الماضي، تكونت في أغلبها من القضاة ممثلي تيار الاستقلال، لصياغة مشروع قانون لاستقلال السلطة القضائية. وهو ما أدى إلى نشوب نزاع بين مجلس القضاء ونادي القضاة – بعد أن سيطر عليه التيار المحافظ بقيادة المستشار أحمد الزند – حول أحقية كل منهما بوضع مشروع القانون. فانتهى الأمر إلى تشكيل نادي القضاة للجنة ثانية صاغت مشروعًا لتنظيم القضاء يعارض مشروع لجنة مجلس القضاء.
جدال لا يتوقف
والآن.. يظل الجدل حول استقلالية السلطة القضائية مستمرًا. فالبعض يتهمون المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأنه قد استخدم القضاء للإبقاء على سلطته وإضعاف السلطة التشريعية. وفي المقابل، يرى آخرون أن الخطر على السلطة القضائية يأتي من الإخوان المسلمين الذين يستهينون بالقضاء وأحكامه ويهددون دولة القانون.
ويأتي الحديث حول قانون استقلال السلطة القضائية في صلب الجدل الدائر. فهل سيصدر القانون؟ ومتى؟ ومن له الحق في تقديم مشروعه إلى البرلمان لإقراره؟
في هذا الصدد، يرى المستشار «أحمد مكي» نائب رئيس محكمة النقض والمسؤول عن أحد المشاريع المقدمة عدم وجود أية دواع للخلاف أو المزاحمة حول وضع قانون استقلال السلطة القضائية. يؤكد مكي أن «القضاء ملك للشعب المصري. ومن يستطيع الإتيان بفكرة تعزز استقلاليته فليفعل. فغايتنا من المطالبة باستقلال القضاء هو صالح المتقاضين وليس القضاة»، مضيفًا أن «استقلال القضاء ليس معناه أن نتركه يرتع، لكن المقصود هو قانون يبعد تأثير السلطات الأخرى عنه».
يدلل «مكي» على وجهة نظره بالقول إن «تحقيق استقلال القضاء عما سواه من سلطات حق للمتقاضين. وأتذكر عند تنظيمنا لمؤتمر العدالة أننا تلقينا أوراقًا بمقترحات من حجّاب وفراشين المحاكم عن الضمانات التي يريدون رؤيتها في إطار حل مشكلات العدالة».
ويلخص «مكي» أصل عدم استقلال القضاء في مصر بالتأكيد على حقيقة أنه «لا يمكن أن يوجد قضاء مستقل في دولة مستبدة. فهو أحد أدوات السلطة التي لا يمكن أن تفرط فيها. فالدولة الظالمة لابد وأن يكون القضاء بها تابعًا للسلطان»، مضيفًأ أنه «لا يمكن أن يوجد قضاء مستقل في دولة لا يوجد فيها برلمان منتخب انتخابًا صحيحًا لأن القانون مهمته تقييد سلطة الحاكم. فإذا كنا سنعطي سلطة التشريع لمن معه سلطة أخرى، كالتنفيذ مثلا، حينها يصبح السيف والذهب في يد واحدة، مما يعني استخدام القانون كأداة لتكميم الأفواه».
وفي المقابل، يطرح الدكتور أنور رسلان أستاذ القانون الدستوري والعميد الأسبق لكلية الحقوق بجامعة القاهرة رؤية أكثر إيجابية لوضع القضاء المصري من حيث استقلاله إزاء السلطة التنفيذية. يرى رسلان أن «القضاء المصري رغم ما شهده من حالات تعد على سلطاته، إلا أن هذا الانقضاض لم يكن متواصلا، كما أنه لا ينفي وجود نصوص قانونية تفيد باستقلالية القضاء وتدافع عنها، ولا ينفي أيضًا ما كان للقضاء من أدوار مشرفة في وجه السلطة الحاكمة».
إلا أن رسلان يستدرك قائلا: «لا نقول بهذا أن القضاء والقوانين نجحا في تحقيق الكفالة التامة للاستقلال، وإنما يحاولان تحقيقه على مدار عقود شهدت ملابسات مختلفة وخضعت لحكم عسكري ومن قبله ملكي.» ومن ثم فهو يرى أن أحد أبرز الضمانات لمنع الافتئات على السلطة القضائية في المستقبل، هو «الدفاع، عند وضع الدستور الجديد، عن استمرار المبدأ الموجود في الدساتير السابقة والقائل باستقلال القضاء، وعدم التدخل في شؤونه، مع وضوح توزيع الصلاحيات بين السلطات الثلاث، منعًا لتكويش إحداها على كافة الصلاحيات».
أما الدكتور جمال جبريل الفقيه الدستوري ورئيس قسم القانون العام بجامعة حلون فيكشف عن الثغرة التي تنفذ منها كل حالات الافتئات على استقلال السلطة القضائية قائلا إن «أي دستور ينص على مبدأ استقلال القضاء. لكنه لا يتناوله بالتفصيل. حيث يضطلع مشرع القوانين بهذا الأمر».
ويتابع جبريل فكرته قائلا: «يجب أن يقوم الدستور بتفسير مبدأ استقلال القضاء وكيفية تطبيقه إداريًا وماليًا ورقابيًا. هذا هو الاتجاه الحديث في كتابة الدساتير. حيث تتحدث عن الحقوق والحريات تفصيلا وليس كمادة صماء يترك تفسيرها لرجل القانون العادي حتى لا يتم لي ذراعها.»