مصر الإسلامية: من الفتح إلي حكم المماليك

كتب: محمد السيد الإثنين 30-07-2012 16:33

يعد العصر الإسلامي من أهم العصور التى مرت بها مصر عبر التاريخ لما أحدثه من تحولات عقيدية وسياسية واجتماعية عميقة في بنية مصر دولة وشعبًا. وقد استمرت تلك الحقبة زهاء ثمانية قرون ونصف القرن، بدأت مع الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص عام 641 م إبان خلافة عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، لتصبح مصر ولاية إسلامية تابعة للمدينة عاصمة الدولة الإسلامية، قبل أن تنتقل العاصمة إلى الكوفة في خلافة علي بن أبي طالب، ثم دمشق في حقبة الدولة الأموية، ثم مكة أيام الخلافة الزبيرية القصيرة، ثم دمشق ثانيةً، وأخيرًا إلى الكوفة وسامراء وبغداد في حقبة الدولة العباسية، إلى أن أصبحت مصر هى مقر الخلافة العباسية فى عصر المماليك البرجية حتى سقطت دولة المماليك مع الغزو العثماني عام 1517 م.

الأوضاع السياسية

أصبحت مصر بعد الفتح الإسلامي إحدى ولايات الدولة الإسلامية، يحكمها والي يعينه الخليفة أو أمير المؤمنين. ومن ثم أصبح الوالي هو ممثل أمير المؤمنين في مصر، وتدخل فى اختصاصاته كل الأمور المهمة. فهو المسؤول الإداري الأعلى، أمام الصلاة، وقائد الجيش، والمسؤول عن شؤون المال. كما كانت مسؤولية الأمن الداخلى والخارجى ملقاة على عاتقه. فهو قائد الجيش الذى يتولى حماية حدود  البلاد وتأمينها برًا وبحرًا، وهو كذلك المسؤول عن الأمن الداخلي، وإن كانت العادة قد جرت على أن يعين الوالي موظفًا مسؤولاً عن الأمن الداخلي كان يسمى صاحب الشرطة. ويعتبر هذا الموظف الشخصية الثانية فى البلاد. حيث ينوب عن الوالي عند غيابه. وفي أحيان كثيرة كان صاحب الشرطة يخلف الوالي فى منصبه إذا مات أو عزل أو تنحي عن الحكم.

وكانت مصر مقسمة إلى إقليمين إداريين هما الوجه البحري والوجه القبلي. وفى حالات قليلة كان الحاكم يولي على كل إقليم منهما عاملا ينوب عنه. وظلت الديار المصرية على هذا المنوال حتى جاء أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية. حيث عمل على تغيير مفهوم الوالي بما يبسط نفوذه الكامل على مصر، بما في ذلك الإشراف على البريد والخراج إشرافًا مباشرًا، وعلى الولايات والمقاطعات الأخرى التابعة لمصر. كما اتخذ ابن طولون حاجبًا لنفسه يتولى الأعمال التنظيمية والمراسمية في البلاط الأميري، الأمر الذي جعل البعض يصف الحاجب بأنه الوزير الأول في الدولة. كما بدأ صاحب الشرطة فى هذا العهد يفقد بعض سلطاته السياسية التى كان يتمتع بها من قبل. وقد استحدث ابن طولون وظيفة كاتب السر وكان يختاره من المقربين. كما عمل على تقوية الجيش حتى لا يعتمد على الخلافة فى الدفاع عن إمارته، فسلحه بمختلف أنواع الاسلحة المعروفة في ذلك العصر وأحكم السيطرة على طوائف الجيش المختلفة.

فى العهد الإخشيدى كان الوالى أيضًا يجمع في سلطته كافة شؤون الحكم، وكان يعين من قبل الخليفة العباسي وينوب عنه فى حكم مصر. إلا إن الإخشيد (لقب كان يطلق على ملوك فرغانة وقد أمر الخليفة العباسي المتقي باعطائه لمحمد بن طغج والي مصر بعد نجاحه في صد هجمات الفاطميين) أراد أن يجعل الحكم وراثيًا من بعده، فأخذ البيعة من قواد مصر لابنه أونوجور. وكان الوالى أيضًا الرئيس الأعلى للقضاء، وإمام الصلاة، ومتولي الخراج، وقائد الجند، والمسؤول عن الأمن في أرجاء البلاد.

وبنهاية الحقبة الإخشيدية استولت جيوش الفاطميين القادمة من المغرب العربي على مقاليد الحكم في مصر، لتعلن الخلافة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية التي تقضي بأن تكون الإمامة في نسل على بن أبي طالب من زوجه فاطمة الزهراء بنت النبي عليه الصلاة والسلام. وقد أنشأ الفاطميون مدينة القاهرة لتكون عاصمة للخلافة الفاطمية. وكانت الوزارة فى العهد الفاطمي الأول وزارة تنفيذ لأن السلطات كلها كانت بيد الخليفة. ولم يكن الوزراء إلا معاونين للخليفة ينفذون سياسته وأوامره. أما فى العهد الفاطمي المتأخر، فقد زاد نفوذ الوزراء وأصبحت لهم كلمة في تسيير الأمور واتخاذ القرارات.

وفي العصر الفاطمي كانت الكتابة والحجابة تأتي فى مرتبة تالية لمرتبة الوزارة، فيما شهد منصب الشرطة تعديلات في الصلاحيات بناءً على الاختصاصات الجغرافية. وكان أصحاب الشرطة يعينون من الأعوان المقربين ذوى الجاه والنفوذ. وكان صاحب الشرطة هو أداة تنفيذ أوامر الخليفة وأحكام القضاء. كما شهد هذا العصر وجود نوع من الشرطة السرية مهمتها معرفة الأخبار للسيطرة على الأمن

وعلى الجانب الإداري، قام الفاطميون بتقسيم مصر إلى أربع ولايات كبرى هى قوص، والشرقية، والغربية، والإسكندرية. وكان من أهم الدواوين في العصر الفاطمي ديوان الجيش، وديوان الأحباس (الأوقاف)، وديوان الرواتب، وديوان خاصة الخليفة، وديوان الكسوة والطراز. وفيما يتعلق بالجوانب العسكرية اهتم الفاطميون بالجيش والأسطول لقمع بعض الثوارات التى كانت تقوم في بلاد الشام وفلسطين، كما اهتموا بإنشاء قطع بحرية لحماية البلاد من هجمات البيزنطيين، فأنشأوا دارًا لصناعة السفن. وفي هذا الإطار يذكر إن الأسطول المصري قام بدور مهم في الحرب التي قامت بين القرامطة والفاطميين -وكلاهما من طوائف الشيعة- عام 972 م.

وفي الدولة الأيوبية، التي تلت الخلافة الفاطمية الشيعية وأعادت المذهب السني إلى مصر مرة أخرى، كان السلطان هو الرئيس الأعلى للدولة والمهيمن على شؤون الأمراء العامة والخاصة، وصاحب الحق فى تدرجهم فى مراتب الترقى، وتحديد أنصبتهم، وتعيين كبار رجال الدولة، وقيادة الجيوش.

وقد أنشأ السلاطين الأيوبيون ما يعرف بمجلس السلطنة الذي يتكون من كبار الموظفين ليستشيره السلطان إذا ما أراد البت فى مشروعات الدولة الحيوية من إعلان حرب أو إبرام صلح. كما استحدث الأيوبيون وظيفة نائب السلطنة الذي كان بمثابة الرجل الثاني في الدولة. حيث كان يشترك مع السلطان فى منح لقب الإمارة وتوزيع الإقطاعيات وتعيين الموظفين وتنفيذ القوانين وتوقيع المراسم والمنشورات. كما شهد العصر الأيوبي وجود وزراء ودواوين للمساعدة فى حكم إدارة شؤون البلاد.

وبسقوط الدولة الأيوبية، تولى المماليك مقاليد الحكم في مصر. ونظرًا لطبيعتهم العسكرية، فقد كانت القوة عندهم هي المسوغ الوحيد للملك. ومن ثم فلم يأخذوا بقاعدة توارث الحكم التي كانت سائدة قبله. فكان المُلك يؤول إلى أقوى الأمراء بالغلبة والاستيلاء، إلى أن جاء السلطان بيبرس ورأى أن يضع حدًا لصراعات المماليك على العرش، ويؤسس نظامًا يضمن به بقاء الملك فى أهل بيته بعد وفاته، فنصب ابنه محمدًا وليًا للعهد عام 1263 م.

وفي الحقبة المملوكية كان الحاكم هو الرئيس الأعلى للدولة، يتولى تعيين كبار موظفي الدولة مثل نائب السلطان، وكاتب السر، والمحتسب، ونظار الدواوين، كما كان له الحق فى عزلهم وتأديبهم. وكان من اختصاصه تولي النظر فى المظالم وتوزيع الإقطاعيات على الأمراء والجنود. وعلى الرغم من أن الحاكم المملوكي كان له مطلق السلطات إلا إنه، وعلى غرار ما كان عليه الحال في الدولة الأيوبية، لم يكن يستطع البت فى مشروع من مشروعات الدولة الحيوية كإعلان حرب إلا بعد أن يستشير مجلس السلطنة، الذي كان يعقد برئاسته وعضوية أتابك العسكر والوزير وقضاة المذاهب الأربعة وأمراء المئين وهم  أربعة وعشرون أميرًا من كبار أمراء المماليك. وقد تطورت الدواوين في العهد المملوكي، ما جعل النظام الادارى فى الدولة المملوكية يبلغ درجة عالية من الدقة والإتقان وفقًا للمؤرخين.

الأوضاع الاقتصادية

ثمة ملامح عامة ميزت النظام الاقتصادي لمصر خلال العصر الإسلامي، مع التأكيد على خصوصية التحول في مصر من الحكم الروماني إلى الحكم الإسلامي وما استتبعه من تغيرات على بنية وجوهر الأبعاد الاقتصادية التي كانت سائدة في مصر بشكل عام.

فمثلا، وبفتح مصر، فُرضت الجزية على من لم يدخل في الإسلام من أهلها. وكان هناك نوعان من الجزية: جزية الرؤوس (أي الأفراد)، وجزية الأرض. أما جزية الرؤوس فكانت تقدر بدينارين على كل رجل قادر على العمل، ومن ثم فلم تضرب على النساء أو الأطفال أو الشيوخ العجائز. وأما جزية الأرض فكانت تضرب على كل قرية، وكانت تختلف باختلاف غلتها وعمرانها، مع ملاحظة أن مجموع ما يجبيه المسلمون من الجزية وخراج الأرض كان يقل كثيرًا عما كان مما يجبيه الرومان من أهل مصر، ولذلك أحب القبط وملاك الأرض، حتى من الرومان أنفسهم، حكم المسلمين، ودخلوا في الدين الإسلامي أفواجًا، ما أدى في النهاية إلى قلة المتحصل من جزية الرؤوس وأصبح الاعتماد الأكبر على جزية الأرض أو الخراج.

وعلى صعيد الصناعة فى العصر الإسلامي، فقد نشأت صناعات مصرية وفن إسلامي مصري كان للمصريين اليد الطولى فيه، ولكن بنكهة وصبغة عربية إسلامية ميزت الفن والصناعة في هذه الحقبة عما كان موجودًا فى مصر قبل الفتح الإسلامي. فعلى سبيل المثال شهدت صناعة المنسوجات وزخرفتها فى العصر الاسلامي تطورا كبيرًا وتغيرًا في فن الزخرفة باتجاه الزخارف الهندسية والنباتية بدلا من الزخارف التي تصور الإنسان والحيوان والتي كانت هي السائدة في الفن المصري قبل الفتح الإسلامي.

وفيما يخص التجارة المصرية في العصر الإسلامي، فقد تطلب الموقع الجغرافي المتميز لمصر بين قارات العالم القديم، وكذلك تقدم الزراعة والصناعة فيها، أن يكون هناك نشاط تجاري بارز في مصر، ومن ثم فلم  يغير الفتح الإسلامي من دور مصر التجاري الذى لعبته منذ القدم. ولكن ربما يكون النشاط التجاري قد زاد بشكل ملحوظ كمًا ونوعًا نتيجة خبرات العرب الفاتحين في المجالات التجارية. ومن ثم استمرت الاسكندرية على مكانتها التجارية العالمية التى كانت لها قبل الفتح. ومن خلال مصر أخذت تجارة المسلمين المكان الأول فى التجارة العالمية فى القرن الرابع الهجري. وكانت الإسكندرية وبغداد هما اللتان تقرران أسعار السلع والبضائع للعالم فى ذلك العصر، ولاسيما البضائع الكمالية.

وفيما يتعلق بالتبادل التجاري، كانت مصر فى هذا العصر تتبادل التجارة مع النوبة والسودان وأواسط افريقية. وكانت مصر فى العهد الاسلامي تصدر القمح والكتان لوفرة المحصول الزراعي منهما، في حين إنها كانت تستورد الأخشاب والمعادن وما يلزم لبناء السفن والصناعات المختلفة التي كانت رائجة في ذلك الوقت.

الأوضاع الاجتماعية والثقافية

لعل عملية التأثير والتأثر بين مصر والفاتحين المسلمين وما اقتضته من تمصير العرب وتعريب مصر وانتشار الإسلام بين معظم أهلها هى أهم الظواهر التاريخية الاجتماعية فى مصر خلال العصر الإسلامي. ولعل دخول المصريين في الدين الإسلامي ونزوح كثير من القبائل العربية من شبه الجزيرة العربية وتوطنهم في الريف المصري واستقرارهم على جانبي الشريط الخصب في الدلتا ووادي النيل وما تبعه من اختلاطهم بأهل مصر من القبط قد أدى في النهاية إلى تعريب الوجه الاجتماعي والثقافي لمصر والمصريين.

وقد شهدت مصر خلال العصر الإسلامي نهضة شاملة في مجالات العمران والفنون تمثلت في تطور العمارة الإسلامية بإنشاء العديد من المساجد والقلاع والحصون والأسوار والمدن، كذلك الفنون الزخرفية التي تمثلت فى أول عاصمة إسلامية فى مصر، وهى مدينة "الفسطاط" وبها جامع عمرو بن العاص. ويعد مقياس النيل بجزيرة الروضة أحد أهم الآثار المصرية الإسلامية، وقد أنشأه الخليفة العباسي المتوكل بالله عام 245 هـ. كما يبدو ازدهار العمارة الإسلامية بمصر فى مدينة القطائع وجامع أحمد بن طولون الذى شيد على نهج جامع عمرو بن العاص. ومئذنة جامع بن طولون وهى الوحيدة فى مساجد مصر التى لها هذا الشكل وهى مستمدة من المعابد الفارسية المعروفة باسم "الزيجورات".

كما تقدمت العمارة الإسلامية فى العهد الفاطمي بشكل كبير. ويعد الجامع الأزهر من أشهر فنون العمارة الفاطمية فى مصر، وكذلك الجامع الأنور "الحاكم بأمر الله" والجامع الأقمر. ويعد مشهد الجيوشي بالقاهرة الفاطمية نموذجًا لتشييد القباب وإنشاء المساجد. وتميز العصر الأيوبي أيضًا بتقدم العمارة، ومن أشهر معالم تلك الحقبة قلعة صلاح الدين. وخلال الحقبة المملوكية ترك المماليك ثروة فنية عظيمة تمثلت في كثير من المساجد والقباب ودور الصوفية والقصور والمدارس والقلاع والأسبلة.

وفيما يتعلق بالنهضة العلمية في مصر خلال العصر الإسلامي، فقد قامت حركة علمية دينية واسعة النطاق، كان مركزها جامع عمرو بن العاص. وكانت نواة هذه الحركة الصحابة الذين قدموا مع الجيش الإسلامي الذي فتح مصر. وبمرور الوقت تحولت مصر من متلقية للعلوم العربية والإسلامية إلى مصدرة لها، وصار لها طابعًا خاصًا في العلم والمعرفة، حيث راج سوق الأدب والشعر وكافة العلوم الأخرى.

وفي هذا الإطار تذكر جهود أحمد بن طولون فى تشجيع الحركة العلمية فى مصر. إذ حرص على الارتقاء بعاصمته القطائع لتقف على قدم المساواة مع بقية حواضر الأمصار فى العالم الاسلامى. ونتيجة لذلك وفد كثير من العلماء إلى مصر فى عهد الدولة الطولونية. ثم حذا الإخشيديون حذو الطولونيين في الرقي بالعلم فظهر الكثير من العلماء والمفكرين فى عهدهم مثل الكندي. ثم جاء الأزهر الشريف، وخاصة في عهد الدولة الأيوبية، ليلعب الدور الأبرز في مسيرة العلم في مصر. إذ أصبح جامعة إسلامية لا يقتصر دورها على مصر فقط، ولكنه يمتد إلى غيرها من الحواضر الكبرى. وقد اهتم العلماء في تلك الحقبة، إلى جانب العلوم العربية والدينية، بعلوم الفلك والطب والرياضيات وغيرها.