رمضان بالمصري: كنافة وقطايف وخُشاف.. ومدفع «فاطمة»

كتب: آيات الحبال الأربعاء 25-07-2012 18:19

لرمضان ملامح خاصة، ارتبطت به، بعضها لا «نسمعها» فى غيره، ولبعضها الآخر طعم خاص جدا، مع أجواء الشهر الفضيل.

من العصر الفاطمى، الدولة الأيوبية وما بعدها، ورثت مائدتنا الرمضانية أطعمة، اعتبرناها لمئات السنين، جزءاً من طقوس أكرم الشهور. فى سوق السمكرية بحى الغورية، حيث مازال المصريون يزورونه لنفس الأهداف، سنجد كل أنواع «الياميش» و«قمر الدين»، فقد كانت وكالة «قوصون»، فى شارع باب النصر، التى ترجع للقرن الثامن الهجرى، مقرا لتجار الشام، ينزلون فيها ببضائعهم، من الزيت والصابون والفستق والجوز واللوز والخروب. ولما خربت وكالة قوصون، فى القرن التاسع، انتقلت تجارة المكسرات إلى وكالة «مطبخ العمل» فى الجمالية.

ويقال إن الكنافة صنعت خصيصًا للخليفة الأموى سليمان بن عبد الملك، وقيل لمؤسس دولتهم، معاوية بن أبى سفيان، وبلغت شأنا، أصبحت معه، هى والقطايف، موضع مساجلات بين الشعراء والمثقفين، حتى إن جلال الدين السيوطى له رسالة عنوانها: «منهل اللطايف فى الكنافة والقطايف».

اعتاد المصريون تناول كوب خشاف مع أذان المغرب، حيث يتبركون بالبلح و«يكسرون» به صيامهم. ومنذ عقدين، بدأ البعض يفطر على كوب الخشاف، ثم يتوجه لصلاة المغرب فى المسجد. والخُشاف تركى الأصل، ومعناه «نقيع التمر»، وهو عصير مكون من قطع فواكه مجففة، كالتمر والتين والمشمش، تنقع فى الماء الساخن ساعة على الأقل، ويضيف المقتدرين لها القراصيا، أما مكسرات الجوز واللوز والبندق والصنوبر، فينقع كل منها على حدة، ساعتين على الأقل، قبل أن تضاف لمنقوع الفواكه، مع قليل من الماء وعصير قمر الدين والسكر.

ومن بين المشروبات الرمضانية المصرية، التمر هندى وعرق السوس والسوبيا.

كل هذه الأطعمة عليها أن تنتظر سماع قذيفة «فاطمة»، فأذاننا، منذ 560 عاما، تفرح بإطلاقها من المدفع الذى عرف بـ«مدفع فاطمة»، ومع الإذاعة اعتدنا على: «مدفع الإفطار.. اضرب، مدفع الإمساك.. اضرب»، ليبدأ الصيام، وينتهى.

وتتنوع الروايات حول ملابسات مولد أول «طلقة» لـ«فاطمة»، والتى أصبح لها إخوة عرب، فى دول مثل الإمارات والكويت.

أشهر الروايات تقول إن والى مصر، محمد على الكبير، اشترى عددًا من المدافع الحربية الحديثة، فى إطار خطته لبناء جيش قوى، وتصادف أن كانت فرقة عسكرية فى قلعة صلاح الدين، التى ستعرف فيما بعد بقلعة محمد على، تستعد لتجربة أول مدفع منها فى أول أيام شهر رمضان من هذا العام، فانطلقت إحداها مدوية مع غروب الشمس، فتصور أهل الأحياء المحيطة بالقلعة أنها تقليد جديد، وحين سألوا الحاكم، وتبين أنها مجرد تجربة، طلبوا منه أن يستمر إطلاق المدفع مع لحظتى الإفطار والإمساك، فوافق.

رواية أخرى، تبرر التسمية «فاطمة»، لظروف الميلاد. تقول إنه فى عام 859 هجرية، كان يحكم فى مصر الوالى العثمانى «خوشقدم»، وكان جنوده يختبرون مدفعا جديدا، كان هدية ألمانية للسلطان، وأيضا تصادف أن انطلقت أول قذيفة منه فى لحظة غروب أول أيام شهر رمضان، فظن المصريون أن السلطان استحدث هذا التقليد الجديد، لإبلاغهم بموعد الإفطار، لكنهم فوجئوا بعدم تكراره. ذهب العلماء والأعيان لمقابلة الحاكم، لمناشدته استمرار عمل المدفع فى رمضان، فلم يجدوه، والتقوا زوجته «الحاجة فاطمة»، التى أقنعته بتنفيذ رغبتهم، وتكريما لها أطلق القاهريون على المدفع اسم «الحاجة فاطمة»، واستقر الاسم 560 عاما. وتتفرع من هذه رواية ثالثة، تقول إن أعيان وعلماء وأئمة مساجد ذهبوا بعد إطلاق المدفع، لأول مرة، لتهنئة الوالى بشهر رمضان بعد إطلاق المدفع، وعبروا عن فرحتهم بتزامن أول طلقة منه مع موعد الإفطار، فأبقى عليه الوالى كتقليد شعبى.

هكذا، أصبحت طلقتا المغرب والفجر جزءاً أساسيا من طقوس رمضان، حتى أن هذا التقليد نقل للمدن الرئيسية، ولعدد من أحياء القاهرة نفسها، ولم يتوقف إلا أثناء الحربين العالميتين، الأولى والثانية.

استمر المدفع يعمل بالذخيرة الحية حتى عام 1859م ميلادية، بيد أن امتداد العمران حول مكان المدفع قرب القلعة، وظهور جيل جديد من المدافع التى تعمل بالذخيرة «الفشنك»، أدى للاستغناء عن الذخيرة الحية، خاصة أن الأثريين حذروا من تأثيرها السلبى على مبانى القلعة التاريخية، فتم نقل المدفع من القلعة إلى نقطة إطفاء الدرَّاسة قرب الأزهر الشريف، ثم نُقل مرة ثالثة إلى منطقة مدينة البعوث قرب جامعة الأزهر.

ظل اسم فاطمة مرتبطا بالمدفع رغم تغييره عدة مرات. كان المدفع الأول إنجليزياً، ثم ألمانياً «ماركة كروب»، وفى نهاية القرن التاسع عشر ميلاديا، خُصصت خمسة مدافع، تطلق قذائفها مرة واحدة، بالتزامن، فى خمسة أماكن بالقاهرة، حتى يسمعها كل سكانها، أحدها كان فى سرايا الخديو عباس حلمى. لكن أدى اتساع العمران، وظهور الإذاعة والتليفزيون، للاستغناء تدريجيا عن مدافع القاهرة، والاكتفاء بمدفع واحد، تسمع طلقاته من الإذاعة أو التليفزيون، التى شجعت، مع توقف إطلاقه فعليا أثناء الحروب مع إسرائيل، على الاكتفاء بسماع تسجيله عبر الأثير، دون إطلاقه فعليا، وإهماله، حتى قرر وزير الداخلية، عام 1983، إعادة إطلاقه فعليا، من فوق قلعة صلاح الدين، لكنه سرعان ما اضطر لنقله ثانية بعد احتجاج الأثريين، إلى هضبة المقطم، مع إحياء المدافع الأخرى فى المحافظات الكبرى.

ولمدفع فاطمة، الرئيسى فوق المقطم، طاقم خدمة مكون من 4 من رجال الشرطة، مهمتهم حشوه بالقذائف مرتين يوميا، مع الإفطار والامساك.