إذا كان «الجمعة» في سوريا هو يوم المظاهرات الدامية، فإن «السبت» هو يوم الجنازات الأدمى. لا يعني ذلك بطبيعة الحال أن التظاهرات وتشييع ضحاياها يقتصران على هذين اليومين، إنما فقط يمثل هذان اليومان ذروة لأحداث الأسبوع.
تمثل المشاركة في الجنازة، لدى كثير من المسلمين، «فرض عين». ويقوم التقليد المتبع بالسير وراء النعش من بيت الفقيد إلى المسجد، ومن المسجد إلى التربة، وتتميز الجنازة بحالة التضامن، وتعود الآن في عهد الثورة لتتجلى بشكل أكبر، خاصة عندما يضطر أحد «الموالين للنظام» لأداء واجبه الاجتماعي والديني في المشاركة في جنازة قريب له أو جار من «الثوار» المعارضين للنظام.
إلا أن المفارقة تفرض نفسها عندما تحتم الأقدار أن يرى هؤلاء الموالون للنظام بأعينهم «جرائمه التي لا تستثني الموتى في جنازاتهم»، ويروي بعض من شارك في تلك الجنازات من مؤيدي النظام، والذين رفضوا الإفصاح عن هوياتهم، المشاعر المتناقضة التي ألمت بهم، وهم يشاهدون بأعينهم الانتهاكات الأمنية، دون أن يجرؤوا على إرضاء ضمائرهم بتسجيل موقف سياسي، ولا حتى إنساني، على حد تعبيرهم.
لم تمر «جمعة» من عمر الثورة، إلا واستشهد فيها العشرات، لكن بدخول الثورة شهرها الـ11، أضحت تقدم شهدائها من الثوار ومشيعيهم، على حد سواء، بعدما تحولت الجنازات إلى فرصة لقنص عناصر الأمن وهجمات الشبيحة.
يقول «صالح»: «ما في جنازة بكل سوريا ما تعرضت لهجوم من عناصر الأمن والشبيحة، علماً أنون عرفانين وشايفين بعينهم كل المشيعين دون أي سلاح، مع ذلك أول ما يجتمعوا الناس ليطلعوا بالجنازة من الجامع حتى يبلش فيهن زخ الرصاص».
ويستغرب صالح، الذي، حسب قوله، شارك في تشييع أكثر من شهيد في ريف دمشق، بالقول: «مو معقول أديش قلبون قاسي، ما بيوفروا حدا، لا الصغير ولا الكبير، لا النسوان ولا الأولاد، كلون عندون مجرمين وإرهابيين».
أما «هاني»، فيرى أن ازدياد حالات الانشقاق العسكرية وتشكيل «الجيش الحر» كان لها تأثيرها الإيجابي، فيقول: «بالأول كنا نطلع وما نلاقيهم غير طلعوا بوجهنا.. الأمن والشبيحة، فكنا نروح لتشييع شهيد أو شهيدين، مثلا، نرجع ومعنا 4 و5 شهداء، ما عدا الجرحى». ويوضح «بس بعدين وبعد ما كبر أعداد المنشقين من الجيش، وتشكل الجيش الحر، صار هو يحمينا لحدا نخلص مراسم الدفن والتشييع».
ويشير «هاني» إلى أن سرادقات عزاء الثوار السوريين تشبه جنازات الفلسطينيين من ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية، كون أهالي الضحايا في الحالتين يتمسكان بتلقي «التهاني»، بعد كتابة النعي كالتالي: «نزف إليكم خبر استشهاد البطل.. مبروك عليكم الشهيد.. وكأنه في يوم عرسه».
في مدينة حمص، تحديدا، يبدو الأمر وكأنه حفل زفاف حقيقي، إذ يدور المشيعون بالتابوت، كما يحدث في زفة العريس، حين يدورون به وسط الجمهور، الجنازات عندهم أشبه بالزفاف.
ويقول «فرحان»، أحد أبناء المدينة: «نزغرد للشهيد ونزفو وسط الجماهير، يعني بنساويلوا عرس حقيقي يلي إنشالله راح نتوجو بسقوط النظام والطاغية، هنة كل يوم عم يقتلوا أكتر لحتى يخوفونا بس والله أخدنا عهد على نفسنا ما راح نوقف الثورة ليسقط».
مراسم العزاء هذه - أو بالأحرى مراسم الاحتفاء بالشهيد – سرعان ما تتحول إلى مظاهرة سياسية أمام خيمة العزاء، فتتعالى أصوات المعزين: «حرية حرية، خاين يلي بيقتل شعبو، ثوري ثوري ياحوران، يا دوما ثوري، يا بانياس ثوري يا حمص ثوري.. وهكذا».
في مناطق أخرى ونتيجة لهمجية أتباع النظام، وغياب عناصر الجيش الحر، يضطر الأهالي أثناء التشييع إلى وضع حواجز لتوقيف الأمن والشبيحة، ومنعهم من الوصول للجنازة.
ومع ذلك قد يحدث هجوم وقتلى وجرحى، بحسب ما يؤكد «بو يوسف» الذي يقول: «وقت بيعرفو أنو نحن حاطين حواجز ومسكرين الممرات الموصلة بطريق الجنازة، بيروحوا الأوباش بيحطوا القناصة، وهاد صار معنا أكتر من مرة. فجأة نلاقي إنصاب واحد منا وقع. وعلى فكرة هدول القناصة ما كانوا يجيبوا حيلا واحد كما كلن بالأول، فصرنا نحس أنو عم يتلقى الاتصالات بتحديد الزلمة يلي بدون يقنصوو، فكان يأخد الأوامر وبعدين فوراً يقتلبرصاص قناصة محترفين لأن أغلب الرصاصات كانت تجي بالرأس والقلب».