رحيل فنانة من طراز خاص

إلهامي المليجي الإثنين 17-02-2020 22:19

سيذكر التاريخ للمخرج العظيم رمسيس نجيب – في جملة ما سيذكر له – فضله في اكتشاف وتقديم شخصية، كانت،حين عرفها، "بولا"، أي صغيرة الحجم، ضئيلة الجسم، لكن اتقادا في روحها، يبدو أن عينه السينمائية قد لمحته، جعله يحولها إلى "الندية السخية"، أو كما في المعنى اليوناني "جذوة الأمل"، فأطلق عليها نادية، وأتبعه بمزيد من طيب الخصال ، حين كناها بلطفي.

وإن كانت العرب قد أجمعت على إن لكل إنسان من اسمه نصيب، فإن اسم نادية لطفي، هو من كان صاحب الحظ ، حين ذهب إلى بولا، فهي أخذت من خصاله وسجاياه أجملها، وأضافت له من إنسانيتها ونضالها ووطنيتها، ما جعل " نادية لطفي" علامة مسجلة للفنانة التي تحمل رسالتها من خلف الشاشة إلى ساحات الشرف الوطني والإنساني.

ابنة عابدين المولودة من مزيج الأصالة والأرستقراطية التي تميز القاهرة الخديوية، ولدت في جيل من الفنانين الذين كانوا يحملون راية قوة مصر الناعمة، فكان طبيعيا أن نراها تطوف وتجمع التبرعات للمجهود الحربي منذ النكسة وحتى النصر في 73، مثلها في ذلك مثل أم كلثوم أو شادية أو عبد الحليم.

إلا أن خصوصية نادية لطفي وجمال روحها وحبها الفطري لبلادها قادها إلى مناطق لا تخطر إلا على قلوب الأولياء والقديسين، فأخذت مجموعة من الأوراق والأقلام، وأخذت تطوف على مستشفيات الجرحى من الجنود في حرب أكتوبر ، تسامرهم في حديث شجونهم عن أهلهم وأحبائهم، وتكتب أشواقهم ووصيتهم في رسائل طمأنة، ترسلها إلى ذويهم.

تخيل كيف كانت حالة الجندي الذي يرى الفنانة نادية لطفي، وقد كانت في قمة مجدها وقتها، تجلس بجانبه تستمع باهتمام لتدون كلماته لأسرته وذويه، ثم تخيل وقع هذه الكلمات بخطها الرقيق، تصل في رسائل مكتوبة كي تضمد قلوب أهل الجريح.

ومستشفيات النضال ساحة دائمة لبولا، قبل حتى أن تحترف التمثيل، حيث كانت متطوعة لعلاج الجرحى في عدوان 1956، ولم يشغلها فنها عنه في 67 وحرب الاستنزاف وحرب 73.

بل إن حسها الإنساني والقومي قادها إلى الانطلاق من حروب وطنها الأصغر مصر إلى هموم وطنها العربي الأكبر وفي القلب منه فلسطين، فكانت على رأس وفد من الفنانين والكتاب والسياسيين المصريين، لكسر الحصار الإسرائيلي على المقاومين الفلسطينيين في بيروت عام 1982.

ومن حسن طالعي أن اقتربت منها في بيروت إبان الحصار ، بل كنت ألتقيها بشكل شبه يومي هي والراحلان الرائعان أبو العز الحريري وفتحية العسال ، ولازمني حسن الطالع، فرافقتها في الباخرة اليونانية التي أقلت آخر مجموعة من المحاصرين، والتي اتجهت إلى ميناء طرطوس ، وفي الميناء اتخذت موقفا بطوليا داعما للمقاتلين في مواجهة محافظ طرطوس الذي جاء مرحبا بها وبالراحل أبو إياد ، ورفضت تمييزها عن الفدائيين وعناصر المقاومة .

وفي دمشق استمر التواصل إلى أن عادت إلى بيروت، لتسجل بكاميرتها الجريمة البشعة التي ارتكبتها القوات الصهيونية وأذنابه من اليمين اللبناني ، ضد المدنيين العزل في مخيمي صبرا وشاتيلا ، وجابت بلدان العالم لفضح فاشية وعنصرية الكيان الصهيوني .

وعاد تواصلنا بعد رجوعي من دمشق في العام 1987 ، واستمر عبر اللقاءات المباشرة أحيانا والاتصالات الهاتفية أحيانا أخرى، وخلال هذا التواصل تعرفت إلى سمة التواضع الغالبة على شخصيتها ، وعمق وعيها السياسي، والفيض الإنساني الذي يحرك مشاعرها، وتنوع اهتماماتها الثقافية ، فضلا عن الجاذبية الخاصة التي كانت تميزها .

إن ذاكرتي مازالت تختزن الكثير من التفاصيل الدالة والمثيرة عن النجمة الخالدة، أدخرها للكتاب الذي أعمل عليه منذ سنوات، ويتضمن في أحد فصوله تجربة بيروت .
لروحها النبيلة السكينة والسلام، ولنا، وذويها ومحبيها جميل الصبر وجمال العطاء وطيب الذكرى .. فنانة من طراز خاص ، جمعت بين الإبداع المتميز، والثقافة الموسوعية والالتزام بالقضايا الإنسانية، والعطاء بلا حدود.