شمس حارقة.. رمال على مرمى البصر.. وصمت. نحن الآن فى صحراء شمال سيناء، نبعد حوالى 120 كيلومتراً عن مدينة العريش، ونتجه، بصحبة أحد أبناء قبيلة «السواركة»، نحو قرية «النجاح» التابعة لمركز بئر العبد.. تلك القرية البعيدة التى قربتها الأحداث..
تضم «النجاح»، مبنى محطة «بلوف»، التابعة لشركة الغازات الطبيعية «جاسكو»، وهى المحطة التى تعرضت للتفجير قبل أسبوعين.
يقول أهل القرية، إن «التخطيط للتفجير تعقبه تحركات غريبة فى المكان»، ويوضحون: «نشاهد سيارات فاخرة مجهولة لا تحمل أرقاماً، تتجول بالمكان قبل وقوع التفجيرات بأيام قليلة».
«النجاح»، قريبة من طريق ترعة جابر الصباح، وهو طريق شبه مهجور، يقول أهالى القرية إن «رواده من قطاع الطرق والمجرمين والهاربين»، ومحطة الغاز يحرسها 3 أفراد أمن غير مسلحين، فى الوردية الواحدة، بمعنى أن المطلوب منهم هو مراقبة المحطة وليس حراستها.
بغضب شديد، يقول «سلامة»، أحد أفراد أمن المحطة: «أمن بدون سلاح، يعنى مفيش أمن»، وعن عملية التفجير الأخيرة يحكى «سلامة»: «قبل التفجير بأيام توافدت على المكان سيارات مختلفة لا تحمل أرقاماً، وهو ما أثار حفيظة الحراس، ودفع أحدهم للاتصال بأحد مسؤولى الأمن فى شركة جاسكو، وإخباره بالتحركات المريبة، إلا أن أحدا لم يهتم بهذه المعلومات».
دورية العمل فى جوف الصحراء تستمر 24 ساعة، وأحيانا تمتد إلى 3 أيام متواصلة مقابل أن يحصل الحارس على مثلها راحة. يؤكد الحراس أن نظام العمل يتوقف، كل على حسب النظام الذى يضعه مشرفو الأمن فى كل محطة.
يقول الحراس: «إن التأمين الحالى غير كاف، لأن وجود 3 أفراد فقط فى الوردية الواحدة دون سلاح غير كاف لمواجهة عمليات التفجير، التى ينفذها غالباً أشخاص يتفوقون على الحراس فى العدة والعتاد، فهم- المعتدون- غالبا ما يحملون أسلحة آلية، فى مواجهة 3 أشخاص عزل من السلاح، وسور يرتفع مترين تقريبا ويحيط به سلك شائك من ثلاث جهات فقط».
ويبرر الحراس تهدم السور الرابع: «تسببت التفجيرات التى وقعت بالمنطقة فى تهدم أحد جدران المحطة».
المكان يخلو من مسكن للحراس، وهو ما تغلبوا عليه بنصب خيمة بدائية على بعد أمتار قليلة من المبنى فوق تبة ترتفع نسبيا عن موقع المحطة، وجدوا فيه مكاناً استراتيجيا لمراقبة المكان، لكن الوقت الطويل الذى يقضونه فى الحراسة دون توفير وجبات غذائية لهم أو مياه للشرب دفعهم لحمل مستلزماتهم الشخصية وحاجاتهم من الطعام والشراب حتى يمكنهم القيام بعملهم.
الوقت الطويل، وصمت الصحراء، يتغلب عليهما الحراس بتبادل الحكايات عن أنفسهم، وأحوال القبائل، وحال البلاد بعد الثورة، ويستمر حفل السمر، حتى يقطعه نداء المعدة، فيبدأون فى تحضير الطعام، الذى يكون غالباً طعاماً بدوياً.
وبمكونات بسيطة، تشارك الحراس الثلاثة فى إحضارها يشرعون فى إعداد الطعام، ورغم تنوع أعمارهم بين 31 و26 عاماً، فإنهم جميعا يجيدون فن الطهى فيعد أحدهم بمهارة موقد الحطب ويشعل النيران وسط الرياح العاتية بخبرة اكتسبها بمرور الوقت، وينفرد الآخر بإعداد الخبز الرملى بدقة وخطوات يحفظها عن ظهر قلب، ويعد الثالث الخضار الذى يغير من طعم العيش الرملى ويكمل لهم وجبة غذائية شبه متكاملة، ساعة أو أقل وينتهى تحضير الطعام ليلتف الجميع حوله.
ينتهى يومهم بمجرد غروب الشمس وإقبال الليل، فمع الليل تختفى الرؤية تماما بصورة تكاد معها تنقطع دوريتهم عن مراقبة الوضع ويظلون عالقين فى الصحراء ربما استمعوا لتحركات غريبة لا يستطيعون معها فعل شىء فى ظل مكان بلا إضاءة- على حد تعبيرهم.
الحديث عن الليل، يعيد إلى الأذهان ذكرى التفجير، يقول «سلامة»: «كانت الليلة شديدة السواد، ولأننا لا نملك كلاب حراسة فى المكان فإن التعرف على الغرباء أو من يتربصون به يصبح مستحيلا». ويتابع: «الانفجار وقع قبل الفجر بساعات قليلة، وكانت مفاجأة صادمة بالنسبة لنا، إذ فوجئنا بدوى الانفجار واندلاع النيران، فلم يكن أمامنا سوى الهروب بعيدا عن حرارة النيران التى التهمت كل ما حولها».
يؤكد «سلامة»، أنهم محظوظون لأن خيمتهم كانت على بعد مسافة مناسبة من المحطة بالشكل الذى حفظهم جميعا من التعرض لأذى.
أسدل الستار على المحطة التى لقيت حظها من الإصلاحات وباتت شبه مجهزة لعودة العمل من جديد، إلا أن التأمين لايزال ينقصه الكثير، ينتهى اليوم بطلب كرره الجميع، وهو ضرورة توصيل الإنارة. وقبل أن نغادر، يعاودون التأكيد «الحماية تأتى من التأمين الجيد، وليس من تواجد أفراد عزل لا يحملون سلاحاً يمكنهم من الدفاع عن المكان».
وفى قرية «الطويل» أكثر المناطق تعرضا للتفجيرات، لا يختلف الوضع كثيرا، إذ تحتوى القرية على محطتين «بلوف» للغاز، وكلتاهما تعرضتا للتفجير. أولى عمليات التفجير كانت فى شهر فبراير الماضى، وثانيتهما كانت قبل أيام قليلة حيث تم تفجير أكبر ماسورة لضخ الغاز، التى تصل سعتها إلى 36 بوصة.
يسكن القرية قبيلة السواركة، ويسكن بجوار المحطات حراس المحطة، الذين ينتمون إلى نفس القبيلة، فى خيم نصبوها منذ توليهم حراسة المكان. وحول تفجيرات «الطويل» يروى الحراس قصة مختلفة تماماً عما حدث فى «النجاح»، إذ يروى «إبراهيم»، أحد حراس المحطة، أنه فوجئ بمسلحين يقتحمون خيمته قبل التفجير بحوالى ساعة، ويطالبونه بالرحيل هو ومن معه، لأنهم سيفجرون المحطة.
لم يجد إبراهيم عيد إلا الفرار أمامه من هول ما سمعه، سارع نحو زوجته وأولاده وحمل الصغار منهم فوق كتفه، لم تستطع زوجته أن تحمل كل ما تمتلكه فى تلك اللحظة فتركت ما تمتلكه من الذهب وتركت طيورها التى كانت تربيها فى حظيرة بدائية الصنع بجوار مسكنهم، لم تفكر فى شىء سوى صغارها وزوجها وجيرانها، وفرت تجرى نحو «البرص» أو جوف الصحارى، الأمر لم يكن عاديا بالنسبة لهم. اندفع الحارس يتحدث فى الهاتف إلى مسؤولى الأمن يعلمهم بما حدث، لكن أحدا منهم لم يستطع مواجهة الموقف، فوقت التفجير قد حان، وانتهى المشهد بصوت النيران تأكل كل ما حولها، لهيبها أحرق الطيور فى أعشاشها، وشدتها أسقطت النخيل، وأودت بحياة أشجار الزيتون.
«الطويل» صادفها التفجير الأول من نوعه فى محافظة العريش، أعقبته تفجيرات شابهته، ويشبه وضعها الأمنى بقية القرى: بوابات من السهل فتحها والتسلل إلى داخل المحطة عبر أسوارها، وأفراد أمن لا يحملون سلاحاً.
يقول شهود العيان إن الجناة يعرفون كيفية التسلل للمكان ويمتلكون أسلحة تساعدهم على ذلك، سواء بتقطيع الأسلاك الشائكة أو بالأسلحة الآلية التى يستخدمونها لإرهاب من أمامهم حال تنفيذهم الجريمة.
وعلى بعد 15 كيلو تقريبا من مدينة العريش شهدت قرية «السبيل» تفجيرا فى 14 أبريل الماضى، ولأن حقل الغاز بعيد عن المنطقة السكنية بمئات الأمتار، لم يتمكن الأهالى من التكهن بطبيعة الأشخاص الذين فجروا المكان. يقول الشيخ يوسف، أحد السكان: «القرية تقع على مسافة قريبة من الطريق الدولى، وهو ما جعلها محطة عبور لجميع السيارات بمختلف أنواعها، وجعل روادها فى الغالب من الغرباء، وهذا الأمر اعتاده البعض فى المكان».
التفجير الثانى أنذر من يعملون بشركة جاسكو، وهى الشركة المسؤولة عن تأمين خطوط الغاز بشمال سيناء، وهى الشركة المنفذة للمشروع، والتى تتبع وزارة البترول، لم يكن أمامها إلا تعيين حراس جدد، وهم من أكدوا لنا أن التفجيرات كان لابد أن تحدث فى ظل تأمين يفتقد أقل معايير الحماية، فيؤكد أحدهم- طلب عدم نشر اسمه- أنهم ليس لديهم تصريح بحمل الأسلحة، إلا أن الرعب الذى يعيشونه وقت تأدية عملهم فى ساعات الليل دفع أحدهم لحمل سلاح بالمخالفة، وجعل آخر يستعين بأحد الكلاب البوليسية فى معرفة الغرباء ليلا، فربما نباح الكلبيملؤهم رعبا بعض الوقت، فعلى حد قولهم: «تفجير الخط لا يتم بشكل عشوائى ولكن بطريقة مدروسة، ويظن بعض الحراس أن أعداد القائمين على عمليات التفجير تعادل ضعف الحراس أو يزيد، بالإضافة إلى أنهم جميعا يحملون أسلحة مجهزة، والاشتباك معهم، على حد تعبير أحدهم، لا يعنى سوى خسارة الحراس فى كل شىء فقد يموت أحدهم أو يتعرض لإصابة خطيرة».
ولفتوا إلى أن التفجيرات دائما تحدث فى توقيت يصعب فيه الاشتباك مع أحد، خاصة أن التفجير يحدث بصورة مباغتة لتحركات سرية لا يعلمها أحد إلا وقت التفجير. وأشار أحدهم إلى أن القائمين على التفجير يستغلون ضعف التأمين فى فعل كل ما يريدون، فعدم وجود أجهزة حساسة لاقتحام أحد المبانى يسهل دخولهم وارتكابهم كل هذه التفجيرات دون أى مواجهة مع أحد.
التأمين كما يصفه أحد خبراء الأمن بالمحافظة- طلب عدم نشر اسمه- لا يكفى لحماية خطوط الغاز التى تبلغ تكلفتها الملايين، وأكد أن عمليات التفجير الخمس، التى نجح منها أربع، حدثت بنفس الطريقة، لافتا إلى أن الانفجارات استهدفت خطوطاً عشوائية، فمنها ما كان يخدم سيناء داخليا والمتمثل فى خط الغاز الذى تم تفجيره بمنطقة النجاح، وأثر على 12 ألف منزل وأكثر من مصنع بالمنطقة كان الغاز يصلها عبر تلك المحطة، التفجيرات التى وقعت أكثر من مرة بنفس الطريقة دلت على عدم وجود تأمين كاف بتلك المحطات فعلى حد تعبيره: «كان ينبغى أن يتم اتخاذ اللازم للتأمين بعد أول تفجير وقع بالمنطقة، خاصة أن هناك 39 نقطة لتحويل الغاز فى شمال سيناء، وهذا يعنى أن التفجيرات محتمل حدوثها مرة أخرى، إذا لم يتم توخى الحذر واتخاذ اللازم لحمايتها من هذا العدوان». وأكد أن تأمين الخطوط يقع على عاتق شركة جاسكو ووزارة البترول فكلتاهما مسؤولة عن هذه الحماية، لافتا إلى أن القبائل تشارك فى تأمين تلك الخطوط، فحسب اتفاقات ودية تتم الاستعانة بحراس من القبيلة التى يوجد فيها خط الغاز من أجل حماية الخط، وذكر أن كل التفجيرات التى وقعت دلت على أن المبانى المخصصة لمحطات ضخ الغاز تعانى من قصور أمنى. وأشار إلى ضرورة الاستفادة من تلك التفجيرات فى وضع استراتيجية جديدة تواجه كل الأخطاء الماضية، مؤكدا وضع أجهزة إنذار لمعرفة من يحاول الدخول إلى محطة الغاز، واستخدام كاميرات للمراقبة لرصد التحركات التى تحدث فى تلك الأماكن. وأكد المصدر الأمنى أن محافظة شمال سيناء غير مسؤولة عن حماية تلك المحطات، وأن التأمين برمته مسؤولية شركة الغاز «جاسكو» ووزارة البترول، موضحاً أن الحالة الأمنية فى سيناء تختلف عن أى منطقة أخرى، فالتأمين يحدث بواقع جلسات عرفية بين شيوخ القبائل ومسؤولين تابعين للبترول، فكل قبيلة لها وضعها الخاص الذى يجب احترامه وتقديره من قبل المسؤولين، لكى يحدث التأمين بدرجة كافية، ولفت إلى أن التفجيرات تهدف فى الأساس إلى «الشوشرة الإعلامية».
وقال إن استهداف محطات عشوائية منها ما يغذى سيناء داخليا ومنها ما يقوم بدوره فى التصدير للخارج، يؤكد هذا الاحتمال. وأشار إلى أن التفجير عن بعد، أو عبر قنابل غير محلية الصنع، يدل على وجود مخططات خارجية هدفها الأول هو إشاعة عدم الأمان فى مصر وفى سيناء بالتحديد.
من جانبه، رفض المهندس محمد أيوب، مدير عام شركة جاسكو، الإدلاء بأى تصريحات حول التفجيرات، مبررا ذلك بحساسية الموقف.
واعتبر أحد مسؤولى الأمن بالشركة نفسها- طلب عدم ذكر اسمه- أنه من غير المفهوم أن يتم الإبلاغ عن التفجير قبل حدوثه، مؤكدا أن التفجيرات التى وقعت فى كل مرة كانت تحدث مباغتة للجميع ولكن المرة الأخيرة، التى قال فيها الشهود إن مسلحين اقتحموا خيمتهم وطالبوهم بالرحيل من المكان قبل تفجيره أمر غير مفهوم، فمن يفجر مكاناً لن يفرق معه أحد. وأشار إلى أن التأمين الذى وضعته الشركة يقتصر على وجود حراس يخدمون المكان ليل نهار، ووجود أسلاك شائكة تحيط بالمكان لتحميه من تسلل الغرباء.
التسلل إلى أى محطة بلوف أمر سهل للغاية، إلا أن المحطة الرئيسية التى تقع فى مدينة الشيخ زويد لديها تأمين مختلف، ففيها يقطن الحراس فى بداية المدخل الرئيسى للمحطة، وتليها دورية ثابتة للجيش الذى يحمى المحطة من تسلل الغرباء إليها، وهو الأمر الذى صعب الدخول إليها أو العمل فى المكان، وتلك كانت المحطة الوحيدة التى تم تأمين مداخلها ومخارجها بشكل يصعب معه تسلل الغرباء أو المجرمين، وهو تأمين كان يمكن تطبيقه فى جميع المحطات لو تم تحديد الطرق المؤدية إلى كل محطة وتم إحكام السيطرة عليها.