تمتلك كل الأوطان، خيرات وموارد تمثل لها مميزات نسبية عن غيرها، إلا أنه من النادر أن يمتلك وطن مميزات مطلقة لا مثيل لها كما ونوعا واختلافا عن بقية الأوطان مثلما لمصر من مميزات: مناخ معتدل خالٍ من الرطوبة، وبيئة خلابة تعززها شواطئ بحرية، وبحيرات، وصحارى شاسعة، وشمس ساطعة انعكست على المكونات الطبيعية لتغدو بكل المعايير كنوزا ينظر إليها العالم بوصفها ملاذا للأمن والسلامة الصحية ومنفذا لافتا للبهجة والاستجمام وهو ما يجعلها مصدرا غزير العطاء للدخل القومى يفيض بالرفاهية الاقتصادية على شعبها.
كل هذا وغيره العديد، يمنح مصر فرصا تنافسية مرجحة لاختيارها أن تكون الوجهة الأولى لقاصدى العلاج والنقاهة في إطار النمط العالمى للسياحة الصحية، ورغم كل ذلك طالما تعثرت الجهود التي سعت لتعظيم استعادة مصر من مواردها الطبيعية في هذا الشأن نتيجة انعدام خطة ترعاها الدولة حتى تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى صناعة القرار، فأولى ملف السياحة اهتمامه الخاص، واعتمد سياسة ترعى من خلالها مؤسسات الدولة أنماط السياحة بصورة نظامية باعتبارها مشروعا قوميا قاطرا للتنمية المستدامة في البلاد، ومن هذا المنطلق عكفت القيادة السياسية على تشجيع الأنماط المستحدثة للسياحة في مصر ومن أهمها السياحة الصحية بشقيها العلاجى والاستشفائى استثمارا لمواردها العالمية الأثيرة من آبار المياه المعدنية والعيون الكبريتية وتركيبة تربة فريدة المكونات بعناصر كيميائية في الرمال والطمى، والذى أثبت العلم والتجربة فاعليتها المؤكدة في العلاج الناجع لأمراض عديدة منها ما يخص العظام والمفاصل والجهازين الهضمى والتنفسى، فضلا عن الأمراض الجلدية.
ومن هذا المنطلق، تجرى الاستعدادات على قدم وساق لعقد المؤتمر الثانى لتطبيقات السياحة الصحية المصرية بمدينة شرم الشيخ برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسى والمقرر انطلاق فعالياته نهاية مارس المقبل، حيث تعقد حاليا العديد من الاجتماعات التنسيقية بين ممثلى الجهات المعنية لتحديد القضايا التي تستدعى مناقشتها وتنظيم ممارسة هذا النشاط على الأراضى المصرية لبلورة القدرات التنافسية المتميزة التي تتمتع بها مصر في هذا المجال، فضلا عن وضع تصور للحلول المقترحة لتتضمنها أجندة الجلسات التي يترأسها اللواء خالد فودة، محافظ جنوب سيناء، والدكتور محمد عوض تاج الدين، وزير الصحة الأسبق، فيما يتولى اللواء دكتور عصام القاضى، رئيس المجلس الطبى العام للقوات المسلحة، منصب المقرر العام للمؤتمر.
وخلال الإجتماع التحضيرى الأول لمؤتمر السياحة الصحية، أكد اللواء خالد فودة، محافظ جنوب سيناء ورئيس المؤتمر، أن المؤتمر الذي يتم الإعداد له حاليا على جانب عظيم جدا من الأهمية لمصر وشعبها ولكل شعوب الأرض التي تنشد التخلص من معاناتها جراء الأمراض المزمنة ولذلك كل من ينشد الراحة والاستجمام والنقاهة في البيئة الطبيعية المصرية «نساعده على ذلك»، موضحا أن ما سوف يسفر عنه المؤتمر من التوصيات وخطط تنفيذية بعد دراستها سوف يتم تصعيدها ليصدر بشأنها قرارات رئاسية تمنحها الرداء الشرعى والقوة الدافعة لتحقيقها على أرض الواقع.
وأشار فودة إلى أن الاجتماعات التمهيدية للمؤتمر في حال انعقاد دائم منذ أكتوبر الماضى تنفيذا لتوجيهات القيادة السياسية التي تولى اهتماما خاصا بملفى السياحة العلاجية والدينية، منوها بأن السياحة الدينية شهدت طفرة كبيرة خلال الأعوام الماضية، بينما يتم الإعداد الآن لمؤتمر السياحة الصحية لوضع الأطر اللازمة لتعظيم استثمار مصر لمواردها في هذا المجال الذي يمثل نمطا سياحيا عالميا يحقق وفورات اقتصادية كبيرة، موضحا أن المؤتمر يدشن مشروعا قوميا لمصر كلها وليس قاصرا على إقليم معين فيها، مطالبا جميع المسئولين التنفيذيين والشعبيين والشباب من كل المحافظات المشاركة بجهودهم ومقترحاتهم في هذا الشأن لضمان الاستثمار الامثل للموارد المصرية في مجال السياحة الصحية.
وأضاف فودة أن المعلومات المعلنة عن عائد دولة الأردن من السياحة العلاجية يتجاوز 3 مليارات جنيه سنويا في الوقت الذي لا تحقق مصر العائد المناسب لمواردها وإمكانياتها في هذا المجال، مرجعا السبب في ذلك لعدم وجود هيكل لتطوير وتنمية وتسويق هذه الموارد سياحيا، وهو ما سوف يكون محورا لنقاشات المؤتمر الذي يهدف بجدية لدفع العمل بقوة لوضع مصر على خريطة السياحة الصحية العالمية برعاية رئيس الجمهورية وبتكليف واضح منه وبحضور نخبة كبيرة من الخبراء في السياحة والأطباء المصريين والعالميين لتخرج التوصيات بشكل يليق بمكانة مصر ومواردها الكبيرة، وأن تكون قابلة للتنفيذ وفق الخطة الزمنية المحددة لذلك.
وأعرب الدكتور محمد عوض تاج الدين، وزير الصحة الأسبق والرئيس الشرفى للمؤتمر عن سعادته بالخطوات التي وصفها بالجادة في ملف السياحة الصحية في مصر، مؤكدا أن مصر تزخر بالعديد من المواقع التي تمثل أماكن عالمية ونادرة للاستشفاء مما يجعلها أكثر المناطق المؤهلة لتصدر قائمة السياحة الصحية في العالم. وأوضح تاج الدين أنه خلال توليه حقيبة الصحة في الحكومة المصرية زار الأردن، واطلع على إدارة الدولة هناك لهذا الملف رغم أنهم لا يملكون مقاصد للسياحة الاستشفائية تضارع ما يوجد في مصر لا من حيث الكم ولا الكيف، كما افتتح، على إثر ذلك، مكتبين للسياحة العلاجية في المطارات المصرية لتسهيل مهمة الزائرين القاصدين هذا النوع من السياحة بإرشادهم إلى الأماكن المطلوبة والتوسط للاتصال مع الجهات التي تقدم هذه الخدمة سواء أكانت مؤسسات حكومية أو خاصة، إلا أن تلك البداية لم تكن كافية لتلبية الطموحات المصرية في هذا الشأن. وقال إنه لذلك كان من الضرورى أن تقوم الدولة برعاية المشروع بصفته قوميا يتحتم على كل من يتحمل المسؤولية في المواقع القيادية والتنفيذية تكملته والعمل على تنميته وتطويره، منوها بأن المؤتمر الذي يتم التحضير له الآن يتحمل هذه المهمة والتنسيق لها ووضع الأطر الكفيلة بإتمامها واستمرارها. وأكد أن مصر تمتلك كنوزا من الصروح الطبية والمواقع الاستشفائية والكوادر ذات الكفاءة التي يمكنها تقديم الخدمة بصورة تنافسية إلا أن الحاجة ما زالت ملحة للتنسيق بين الجهات المعنية لتتكامل عالميا وهو ما سوف تناقشه ورش عمل المؤتمر بشكل تفصيلى.
وأثنى على الخطوات الجادة التي تم اتخاذها في إطار المشروع القومى للنهوض بالسياحة الصحية في مصر، مشيرا إلى بنود التشريعات الخاصة بذلك وبالهيئة الخاصة المزمع إعلان تشكيلها، والتى من المقرر أن يناقشها مجلس النواب قريبا ليصدر قانون ملزم لكل الجهات صاحبة الإختصاص.
وقال اللواء دكتور عصام القاضى، رئيس المجلس الطبى العام للقوات المسلحة، مقرر عام المؤتمر، إن الجهود تتواصل منذ إبلاغنا بتكليف القيادة السياسية بتنظيم المؤتمر الثانى في مارس 2020 لبحث مستقبل السياحة الصحية في مصر ووضع الأطر التنفيذية لها، موضحا أن الاجتماعات التحضيرية شارك فيها العديد من الشخصيات العامة والمتخصصة لوضع النقاط الأساسية المنوط بالمؤتمر مناقشتها وإصدار توصيات بشأنها. وأكد القاضى أنه بات واضحا للجميع الهدف الأساسى من عقد هذا المؤتمر وهو بناء وإعلان العلامة التجارية لمصر في مجال السياحة الصحية عالميا ويندرج تحت هذا الهدف العديد من الأهداف الأخرى وهى إتمام البنية التحتية لهذه الصناعة المستقبلية القادرة على تغيير الواقع الاقتصادى والسياسى والإعلامى في مصر لينعكس على كل مجالات الحياة فيها، موضحا أن هذا الهدف يستلزم ترتيب البيت من الداخل ووضع معايير للخدمة وبروتوكولات لتنفيذ الإجراءات المتعلقة بها بداية من دخول الزائر إلى أرض مصر ومرورا بتوجهه للمقصد العلاجى ورعايته من خلال تقديم الخدمة المناسبة لحالاته ونهاية برصد التقارير الخاصة بمتابعة حالته والنتائج التي تم تحقيقها في خطة العلاج.
ونوه القاضى بأن ما تقدمه مصر لزوارها في هذا الشأن مميز للغاية لوجود مقاصد تلك الخدمة بكثرة على أراضيها ووجود الكوادر الخبيرة القادرة على التعامل بكفاءة وهو ما كان محل إشادة من مختلف الجنسيات التي قصدت مصر للعلاج خاصة في مجال الفيروس الكبدى «سي»، مشيرا إلى أن جميع المستشفيات الحكومية والخاصة وعيادات الأطباء المصريين شاهدة على ذلك وأرقام الأجانب التي يقصدونها خير دليل.
وأضاف أننا نسعى في هذه المرحلة للتنسيق ووضع الإطار العام الذي يضمن تقديم خدمات متكاملة وفعالة ومميزة لقاصدى السياحة العلاجية في مصر للارتقاء بسمعة مصر واسمها في هذا الشأن ولتصبح الأراضى المصرية محل جذب دولى لهذا الغرض.
وأكد الدكتور القاضى أن القوات المسلحة تخضع كل إمكانياتها لإنجاح هذا المشروع القومى وسوف تشارك بقوة مع الهيئة المختصة المقرر إعلان تشكيلها لتكون مسؤولة عن السياحة العلاجية في مصر، وهو الأمر المهم الذي افتقدته الجهود التي بذلت في هذا المشروع من قبل وهو ما أدى إلى عدم اكتمال المنظومة المطلوبة لتحقيق الهدف القومى الذي نسعى إليه.
وأشار القاضى إلى أن كل التوصيات التي سوف تخرج عن المؤتمر سيتم تصعيدها فورا للقيادة السياسية ليصدر بها قرارات رسمية ملزمة التنفيذ من قبل كل الجهات المعنية بما في ذلك أساليب الرقابة وقياس الكفاءة في تقديم الخدمة أيضا، معلنا أنه جار الإعداد لإنشاء منصة إلكترونية خاصة بأنشطة السياحة الصحية في مصر لتحتوى كل الجهات العاملة في هذا المجال ويكون طلب الخدمة وتقديمها عبر هذه البوابة الإلكترونية العالمية، مشيرا إلى أن تكلفة ذلك عالية جدا إلا أن دراسات الجدوى مشجعة للغاية للمضى قدما نحو تحقيق أهدافنا القومية.
وقال الدكتور هانى الناظر، رئيس المركز القومى للبحوث سابقا إن السياحة العلاجية بدأت منذ عام 1994 وحتى الآن لم تحقق المستهدف المالى المتوقع منها، لأننا لم نحسن استغلاله واستخدامه على الوجه الأمثل في الوقت الذي تجنى منه دول كثيرة «أقل منا في الإمكانات الطبيعية ملايين الدولارات بفضل جودة التشغيل وحسن الإدارة وخطط التسويق الدولية، وكل ما قمنا به في هذا القطاع هو مجهودات فردية وليست مؤسسية» بمعنى أن الدولة المصرية لم تضع بعد على خريطة أولوياتها الاقتصادية بند السياحة العلاجية. وأكد الناظر أن الظروف الحالية أصبحت أنسب للانطلاق بالسياحة الصحية في مصر كمشروع قومى يجد رعاية كبيرة ودعما هائلا من القيادة السياسية، مشيدا بالاستعدادات التي تتم لعقد المؤتمر الخاص بذلك في مارس المقبل، مشيرا إلى أن موضوع المؤتمر جدير بالاهتمام من جانب الحكومة والشعب وكل المتخصصين. وقال الناظر إن العائد المتوقع على الاقتصاد القومى من هذا المشروع يجاوز ضعفى أو ثلاثة أضعاف التحويلات النقدية للعاملين المصريين بالخارج، مطالبا بضرورة مشاركة وزارة الهجرة في المؤتمر والتى يمكنها التنسيق مع الأطباء المصريين العاملين بالخارج للعمل على جذب المزيد من الفئات الراغبة في العلاج وفق هذا النمط السياحى إلى مصر، مؤكدا نجاح ذلك في تجارب سابقة منها جلب أعداد متزايدة من مرضى فيروس سى من مختلف أنحاء العالم للعلاج في مصر.
وطالب تامر وجيه، رئيس مجلس إدارة «برايم فارما» المالكة لبرنامج «tour and cure» للعلاج من فيروس «سى» بمشاركة كل من هيئتى الاستعلامات وتنشيط السياحة في أعمال مؤتمر السياحة الصحية لما لذلك من أهمية في اكتمال الاستعدادات الوطنية لتقديم المقاصد السياحية الصحية في مصر إلى العالم بكفاءة تليق باسم مصر وتميزها في هذا المجال. وقال إن شركته الراعية لهذا المؤتمر، عقدت اتفاقيات مع وزارة الصحة الإنجليزية لعلاج مواطنيها في مصر ضمن برامج خاصة للسياحة العلاجية، وجار الاتفاق مع جهات إماراتية في هذا الشأن أيضا لاستقبال مواطنيها للعلاج من فيروسات الكبد التي نجحت فيها مصر بشهادة العالم أجمع، مؤكدا أن الجهات الداعمة للمؤتمر لديها القدرة على الوفاء بكل ما يلزم للنجاح والوصول للمستهدف القومى منه وبصورة لا تحمل الدولة أي أعباء مادية، مشيرا إلى أن الوصول إلى المستهدف من المؤتمر سوف يحقق عائدا ماديا ومعنويا كبيرا ومؤكدا.