أكد الكاتب الأمريكى الشهير فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية «انتهاء التاريخ»، أن هناك أسطورة فى العالم العربى هذه الأيام حول رد فعل بائع الخضروات التونسى محمد البوعزيزى الذى أهانته شرطية تونسية فما كان منه، بعد أن فشل فى الحصول على حقه عبر شكاوى متكررة، إلا أن قام بإشعال النيران فى نفسه، ليثير رد فعل هائلاً فى العالم العربى.
غير أن هذا يثير تساؤلاً هنا: لماذا أثار فعل البوعزيزى رد الفعل الواسع بهذا الشكل؟ يقول فوكوياما، فى مقال فى صحيفة «فورين بوليسى»، إن المحرك الرئيسى كان «الكرامة» والرغبة التى يمتلكها كل منا فى الشعور بالتقدير، غير أن هذا المرء لا يمكن أن يحصل على التقدير إلا من خلال المجتمع، ومن خلال مصادرة الشرطة التونسية لبضاعة البوعزيزى التى كانت توفر له الحد الأدنى «المتواضع» من الحياة فإنها عاملته على أنه ليس شخصا يستحق الحياة. ويمكن تشبيه هذا الموقف الذى شعر به البوعزيزى بما قاله رالف أليسون عندما وصف الرجل الأسود بأنه كائن «غير مرئى»، حيث لم يكن ينُظر إليه على أنه رجل كامل من جانب البيض.
وللأنظمة السلطوية العديد من الخطايا، فمثل تلك الأنظمة المحاصرة فى العالم العربى فاسدة وفاشلة اقتصاديا ومراوغة، غير أن مشكلتها الأكبر تبقى أخلاقية وهى أنها لا تقر «الكرامة الأساسية» لمواطنيها، لذا فهى تفرق فى المعاملة عند مواجهتهم فى أفضل الأحوال، وتعاملهم بازدراء فى أسوأ الأحوال.
ففى الصين، على سبيل المثال، فإن المسؤولين نجحوا فى أن يمنحوا الناس الإحساس بالأمان وبالازدهار الاقتصادى، لكنهم، وبدرجة لا تقل عن العالم العربى، فشلوا فى إعطائهم الإحساس بالكرامة، فالكثير من المزارعين الصينيين يتعرضون لمصادرة أراضيهم بواسطة أحد رجال الأعمال المقربين من الحكومة، ولا يستطيع أحد أن يفعل أى شىء إلا من خلال الاندفاع فى أعمال عنف مفاجئة.
أما فى العالم الغربى، فإن أساس جميع السياسات هو الكرامة الإنسانية، وهو ما تسعى إليه جميع الاحتجاجات، فالشعار الذى ترفعه الناشطات بأن «أجراً واحداً لعمل واحد» ليس شعاراً يهدف لزيادة الأجر بقدر ما هو شعار يهدف لمنطق المساواة الإنسانى.
وهذه الحقوق لا تتم مراعاتها فقط فى الدستور الأمريكى وقوانين القوى الليبرالية الأخرى، لكنها تطبق أيضا، وهو ما يوضح أن بوليس مدينة نيويورك كان مضطرا للاستجابة للبلاغ الذى قدمته نافيستو ديالو ضد دومينيك شتراوس وكان بتهمة الاعتداء الجنسى، على الرغم من أنها مجرد خادمة متواضعة فى أحد الفنادق وهو مدير صندوق النقد الدولى، والعديد من الصراعات الحديثة فى تاريخ أمريكا كان من أجل الكرامة الإنسانية. يقول الفيلسوف الألمانى الراحل جورج هيجل إن التاريخ الإنسانى يمكن النظر إليه بمثابة «صراع من أجل الحصول على التقدير»، وهو ما أقرته الأدبيات الليبرالية الحديثة، وهو ما يظهر فى حالات كثيرة مثل: الأكراد والشواذ والأمريكيين الأصليين.
ولم تكن الكرامة الإنسانية فقط هى ما انتهكتها الأنظمة العربية، لكنها أيضا أنكرت على المسلمين حقهم فى أن يتمتعوا بهويتهم الدينية فى إطار الأنظمة السياسية القائمة، والعديد من إسلاميى مصر على سبيل المثال يتحملون إشارات الازدراء من جانب النخبة الليبرالية التى تنظر إليهم على أنهم غير متعلمين ومؤمنون بالخرافات.. والرغبة فى الحصول على الاعتراف لا تتم بالضرورة من أجل الحصول على الحريات المعترف بها عالميا، ولكنها تتم لتأكيد الهوية الوطنية للدولة.
وعادة ما تكون الحاجة للاعتراف بمثابة سلاح ذى حدين، فهى من جهة، تجمع حركات الحراك الاجتماعى والحركات الثائرة ضد الحكم المستبد، ولكنها من جهة أخرى قد تظهر لتدعم هويات ضيقة ضد الحريات المعترف بها عالميا.. ومع سقوط 3 طغاة فى العالم العربى، بينما هناك رابع وخامس ربما يكونان فى الطريق، فإن الأيام المقبلة ستوضح أى الجهتين ستتغلب على الأخرى.