«زمن الأصولية.. رؤية للقرن العشرين» هو عنوان كتاب للفيلسوف المصرى الكبير الدكتور مراد وهبة أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب فى سلسلة «المكتبة السياسية» والكتاب يتضمن مجموعة مقالات منها: العصر الذهبى للفيزياء، عاصفة فلسفية، الفلسفة بين الحرب والسلام، بؤس الحضارة، الحرب الثقافية الباردة، أزمة المرأة، تناقضات العالم الإسلامى، أزمة العقل العربى، الإبداع، غاندى والأصولية، مفارقة ابن رشد، وغيرها من المقالات.
وتحت عنوان ما معنى الأصولية الدينية؟ يقول الدكتور وهبة: إن لفظ الأصولية مشتق من «أصول» فى اللغة العربية ومشتق من (Fundamentals) فى اللغة الإنجليزية، وأغلب الظن أن التى مهدت لصك المصطلح الإنجليزى سلسلة كتيبات صدرت بين عامى 1909-1915 تحت عنوان «الأصول»، بلغ توزيعها بالمجان ثلاثة ملايين نسخة، أُرسلت إلى القساوسة والمبشرين واللاهوتيين، والأفكار المحورية فى هذه الكُتيبات يمكن إيجازها فى ثلاثة أفكار، هى: الجهاد من أجل الدفاع عن الأصول، رفض النظريات العلمية التى تتناقض مع الإيمان بالوحى الإلهى، رفض آراء الليبراليين اللاهوتيين.
وعندما انتقلت الأصولية الدينية إلى الدول العربية والإسلامية، فإنها لم تكتف بهذه المسارات الثلاثة، بل توجهت رأساً إلى الجهاد من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية، وعلى المجال العام، لتفرض رؤيتها من الداخل والخارج، ومن هنا تولد العنف، وصولاً إلى أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 وما بعدها.
والأصولية عند وهبة هى «التفكير فى النسبى بما هو مطلق وليس بما هو نسبى»، ومن ثم فإن انفراد الأصوليات بالهيمنة يعنى استحالة الدعوة إلى السلام، لأن السلام لا يتحقق إلا بالمفاوضات على نحو ماهو وارد فى تاريخ الحروب، والمفاوضات تستلزم الانصياع لتنازلات من قبل الطرفين المتحاربين، والتنازلات تقتضى هز ما كان ثابتاً، وبالأدق ما كان يبدو أنه مُطلق، ويكمن خطر الأصوليات الدينية فى أنها مُطلقات، والمُطلقات بالضرورة فى حالة صراع إن لم تكن فى حالة حرب، لأن المُطلق بحكم تعريفه هو واحد بالضرورة، ومن ثم فهو لا يقبل التعدد، وإذا تعدد فإن مُطلقاً واحداً هو الذى يشتهى أن يسود، ومن شأن تحقيق هذه السيادة اشتعال الحروب.
ولأن التنوير يعنى الجرأة فى إعمال العقل، فإن التنوير على علاقة تناقض حاد مع الأصوليات بسبب رفضها إعمال العقل فى النص الدينى مما ترتب عليه رفض الأصوليات للحداثة، لأن الحداثة هى ثمرة التنوير، وحيث إن الحداثة معادلة للثورة العلمية والتكنولوجية التى هى ضمير القرن العشرين، فإن الأصوليات فى هذه الحالة يمكن اعتبارها نتوءاً فى مسار الحضارة الإنسانية، ويرى وهبة أن هناك علاقة بين الدين والاقتصاد، وأن الطبقة الاجتماعية المسايرة لهذا النتوء الثقافى هى طبقة رأسمالية غير مستنيرة ويُطلق عليها مصطلح «رأسمالية طفيلية»، لأنها تتصاعد ثراءً بطريقة صاروخية بسبب تعاملها مع كل ما هو طفيلى مثل: تجارة المخدرات، والسوق السوداء، وشركات توظيف الأموال، و«الرأسمالية الطفيلية» تدخل فى علاقة عضوية مع الأصوليات الدينية، بسبب أن كلاً منهما ضد المسار التنويرى للحضارة الإنسانية.
ويرى وهبة أن «الدوجماطيقية»، أى توهم امتلاك الحقيقة المُطلقة هى مركز الصراعات، ويقع الإنسان فى هذا الوهم بحكم طبيعة العقل الإنسانى الذى يشتهى اقتناص المُطلق حتى يشعر بالأمن والأمان، إلا أن هذا الاشتهاء ليس فى الإمكان تحقيقه لأن العقل بحكم أنه إنسانى الطابع فمعرفته نسبية بالضرورة، ومع ذلك فثمة فلسفات تتخذ من المُطلق نقطة البداية، وترتب عليه ما يطيب لها من أفكار، ويؤسس عليها رجال الحكم أنظمة سياسية تتسم بالقهر والطغيان، فيُقال عنها عندئذ إنها: إما نازية، إما فاشية، إما شيوعية، إما أصولية، وهى كلها تقع تحت بند «الدوجماطيقية»، التى تفرز التعصب بالضرورة.
ولذا بدون العلمانية فإن السلام لا يستقيم، والعلمانية يعرفها مراد وهبة.
ولو تعلم الأصوليون هذا الدرس وأدركوا أنه لا أحد يمكنه امتلاك الحقيقة المُطلقة، لكفوا عن التكفير والعنف، واستراح العالم من شرور الإرهاب وإراقة الدماء، ومن خطر مُلاك الحقيقة المُطلقة.