عزيزتى المحررة:
أرسل إليكى بحكايتى، لا للشكوى، أو لتجدين لى حلا، ولكن بغرض أن يحمد الله كل شخص على ما أنعم به عليه من أنعم كثيرة، وأن يرضى بما قسمه له. فأنا فتاة أتممت الثلاثين عاما منذ أيام. أخت لخمسة إخوة غيرى: ثلاثة أولاد وبنتين، متزوجة وأم لطفلين، تاريخ ميلادى 5/5/1989، وأذكره لأنه ارتبط بأحداث فاصلة في بقية حياتى، وليس مولدى فقط، ففى عام 2009 كنت في السنة النهائية من دراستى الجامعية، بكلية الآداب، قسم مكتبات ونظم معلومات، ودعتنى صديقتى لحضور خطبتها، وكانت يوم جمعة فذهبت. وبينما كنت هناك لمحنى أحد أقاربها «ابن عمتها» فأُعجب بى والجمعة التالية مباشرة كان في بيتنا طالبا ليدى. وكانت تلك الجمعة موافقة 5/5/2009، حتى إنه أحضر معه هدية عيد ميلادى. وكان وسيما وذا شخصية ظريفة، ووظيفة مرموقة، فلم أتردد، ووافقت على الخطبة، وبعدها بشهرين تم عقد القران. وكان يريد إتمام الزواج بشكل سريع، فاتفقنا على أن يكون الزفاف نهاية العام، لكن داهمتنى آلام الزائدة، وأجريت جراحتها وبالتالى تعطل زواجنا عن الموعد المحدد، أعلم أنك ستقولين، ولما التأجيل، خاصة أن عملية الزائدة أصبحت من العمليات البسيطة، لكن لى ظروف خاصة، حيث أن جرحى لا يلتئم بسهولة، ويستغرق وقتا طويلا، ولا أعرف السبب، فأنا حتى إجرائى تلك الجراحة، كنت لا أعانى من أي أمراض يعوق التئام الجروح كمرض السكر، على سبيل المثال، لكن كل ما أعرفه من تفسير هو ما ذكره الطبيب الذي أجرى لى جراحة استئصال اللوزتين وأنا طفلة. حيث استغرقت وقتا طويلا، وقال الطبيب لوالدتى «بنتك جروحها ما بتخفش بسرعة». كما أن والدتى مرضت أيضا، فكل ذلك ساهم في تأجيل الزواج. المهم أننا تزوجنا في شهر أكتوبر 2010، ومرت علينا سنة أولى زواج، مثل أي زوجين حديثى الزواج. خلافات يليها ود، ثم خلافات مرة وود مرة أخرى، وهكذا، فأنا أعتبرها سنة تعارف حقيقى، دون تزيين وتجميل، حتى يتعرف ويقبل أو يرفض كل زوج ما لا يريده من طباع وعادات الآخر. ولا أنكر أن مساحة الود كانت أكبر بكثير من المشاحنات والخلافات، خاصة بعد حملى في طفلتى الأولى، بعد أربعة شهور من زواجنا، فتغيرت معاملة زوجى معى إلى الألطف، وكان أبى موجودا في الحياة، وشديد التعلق بابنتى. وأنا كنت مرتبطة بوالدى جدا، رزقت بطفلتى في شهر سبتمبر 2011، وكانت الحياة طبيعية وهادئة، على غير عادتها، فزوجى يعمل، وأنا في البيت أراعيه وأراعى ابنتى، لدرجة أننى كان بداخلى هاجس بحدوث شىء سيعصف بهذا الهدوء، وبالفعل أثناء حملى في طفلى الثانى عام 2014، ذهبت لبيت أبى، قبل الولادة بأسبوع، لأضع هناك، لكن أثناء ذلك توفى أبى، فكانت الصدمة الأولى بالنسبة لى، ووضعت طفلى الثانى، دون أن يراه أبى، وفى نفس العام من وفاة أبى بدأ ظهور كتلة في صدرى، وكان ذلك منذ أربع سنوات. وعملت رنينا بالصبغة، لكن للأسف لم تؤثر الصبغة في الورم، وبالتالى أخبرنى الطبيب بعدم وجود أي شىء، ومرت سنة كاملة دون أن أفعل شيئا تجاه هذا الورم، حتى تمكن من جسدى، وقتها قررت تغيير الطبيب، والذهاب إلى طبيب وجراح أورام. لكنه قرر أنه خراج متحجر. ودخلت على ذلك غرفة العمليات لإزالة هذا الورم، كونه خراج بنسبة «99.9%» حتى تم تحليل عينة منه، وأظهرت العينة أنه سرطان بالثدى، وتم استئصاله. وبدأت رحلة العلاج الكيماوى. كل ذلك كنت لا أعلمه، حيث أخفاه أهلى وزوجى عنى، فكان عمرى وقتها 26 عاما، لكننى شعرت من نظراتهم بوجود شىء خطير، عكس ما يخبروننى به. وبالفعل أخبرونى بأنه تم استئصال 11 غدة والورم كامل. أخذت 8 جلسات كيماوى و20 جلسة إشعاع، وكان زوجى يدعمنى، ويذهب ويجىء معى. حتى إننى طلبت منه أن ننقل السكن، لأكون بجوار أمى في ظروفى تلك، وحتى تتمكن من رعاية طفلى، فوافق ونقلنا. وهنا بدأت المشاكل تعرف طريقها إلينا مرة أخرى، حيث فقد بنقلنا كل أصحابه من وجهة نظره، والمكان الذي نشأ وتربى فيه، وداهتمنى آلام أخرى في ظهرى، وفسرها الأطباء تارة على أنها نتيجة طبيعية لجلسات العلاج. وتارة أخرى يقولون إنها «عرق النسا»، وأعطونى العلاج على هذا التشخيص الخطأ لمدة شهور، لكن الآلام لم تختف، بل تزيد، حتى اكتشفوا أنها انتكاسة. ولم يخطر ببالهم ذلك، فقد كانت بعد ثلاثة شهور فقط من العملية والعلاج، وحتى علاج الوقاية، وأظهرت أشعة الرنين انتشار السرطان في العظام. لدرجة أننى كنت لا أتحرك إلا بكرسى. وقدر استطاعتى لم أقصر في حق أولادى ولا زوجى، إلا ما كان فوق طاقتى. مكثت شهرين على هذا الوضع، حتى أجريت العملية الأولى بتاريخ 5/5/2016. أيضا في يوم عيد ميلادى، ولم يكن اختيارى بالتأكيد، لدرجة أننى أخذت الأمر بفكاهة وبسخرية. وكتبت على مواقع التواصل: «الناس بتخرج تحتفل بعيد ميلادها، وأنا خارجة أعمل عملية». لكن وكأن الانتكاسة أصبحت ملازمة لى، فجاءتنى بعد العملية والعلاج أيضا، في أغسطس 2017. وبدأت العلاج من جديد في أكتوبر 2017، وفى هذا التوقيت نزل أخى الكبير إلى القاهرة، حيث كان يعمل بإحدى الدول العربية، وكان هو الدعم والسند الحقيقى لى بعد وفاة أبى، لكن للأسف وكأن قضاء الله أن يختفى من حياتى كل من أحتاج إليه، لألجأ إليه هو فقط، فقد توفى أخى هذا، بعد عودته إلى عمله بشهر واحد فقط، نتيجة حادث. زاد الألم، ومن رنين إلى آخر، وفى كل رنين يظهر انتشار السرطان في مكان جديد من الجسد، تارة في الكتف الشمال، وأدى إلى ضغط على القلب. وتارة أخرى ظهور بؤرة في الكبد. حتى وصل إلى المخ، أنا لست ملاكا، ولا أستطيع القول بتحملى لكل شىء. فبدأ اليأس يتسلل إلى نفسى، وبدأت المشاكل تزيد بينى وبين زوجى، وطفلتى الآن الكبيرة عمرها 8 سنوات، والصغير عمره 5 سنوات، لا هم لى في الدنيا سواهما، لا أفكر في المرض قدر تفكيرى فيهما وفى مستقبلهما. ومن سيرعاهما من بعدى، فحتى علاقتى بإخوتى أصابها بعض الفتور بسبب عصبيتى، لكننى في زخم كل تلك الأحداث الموجعة أرسل الله لى بطاقة نور وأمل، إذ من على بفرصة الذهاب إلى بيت الله الحرام، لأداء العمرة، وكنت لا أصدق ذلك، حيث تم استثنائى من شرط بلوغ سن 45 عاما، لأذهب دون مرافق، لكنها إرادة الله، التي تنحصر بين الكاف والنون، وكل ما سأدعو به هناك هو أن يتولى أبنائى برحمته وبفضله، وألا يثقل منهما أحد، ولا يحوجهما إلى أحد سواه، وأشعر بارتياح شديد ورحابة صدر، وكلى ثقة وحسن ظن بالله بعدم تخليه عنى ولا عن أبنائى.
«ر. ز»- القاهرة
المحررة:
أيتها الزوجة الشابة والأم الفاضلة، كم أنت امرأة صبورة، وراضية بقضاء الله، أعانك الله على التحمل، قدر إبتلائك وآلامك. وجعله الله في ميزان حسناتك، واعلمى أن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه. ليتضرع إليه ويلجأ إليه، ويلح عليه في الدعاء، فيسمع دعاءه وتضرعه ومناجاته، وهذه عبودية يحبها الله، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) الأنعام/ 42. والنبى ﷺ يقول: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحين ثم الأمثل فالأمثل. فالابتلاء يبتلى به الله الأحباب ليمحصهم ويرفع درجاتهم، وليكونوا أسوة لغيرهم. وكان عمر، رضى الله عنه، يقرأُ في صلاة الفجر هذه الآية العظيمة) إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ويبكى حتى يُسمعَ نشيجُهُ من آخرِ الصفوف. وفى سيرة الأنبياء والصالحين، عبر كثيرة، وهم يشكون ما أصابهم إلى ربهم فتكون عاقبة شكواهم سكون القلب وتفريج للكرب. وهذا ما حدث معك، إذ من عليك الله بأداء العمرة، بظروف استثنائية، فالزمى الدعاء، وأحسنى الظن بالله في جميع أمورك. ولا داعى للقلق على أطفالك. أنا أدرك تماما أننا بشر، ويعترينا القلق والخوف على أبنائنا. ولكن إذا اتبعنا قول الله عز وجل في هذا الشأن، فلن يكون هناك أي قلق. {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} (9) النساء. فكل عمل صالح لك، سيبقى أثره في أولادك. فما علينا إلا أن نخلص العمل ونحسن التقوى لله والمراقبة لأنفسنا. وألا نفعل ولا نقول إلا ما يرضيه. ومما قاله الشيخ الشعراوى، رحمه الله، في هذه الآية: والإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان. فلتعطف عليها، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك.
ولنا جميعا في قصة الجدار الذي كان لغلامين يتيمين في المدينة وأن هناك كنزاً تحت هذا الجدار، فأبقى الله تعالى أثر صلاح أبيهما لهما.