اعترافات جريئة: أولادي دفنوني وأنا حية

كتب: سحر الجعارة الجمعة 10-05-2019 01:35

كتبت:
يا إبنتى، أنا لا أجيد القراءة والكتابة، لكن مشرفة «دار المسنين» التي أعيش بها كتبت لى هذه الرساله.. أنا واحدة من «الغارمات» اللاتى خرجن من السجن بعد أن سددت الدولة ديونى.. أما ديونى فقد أضطررت لها لأزوج بناتى، فأنا أرملة كل ما أملكه من الدنيا بنتين وولد، الآن أصبحوا أمهات وأصبح أبنى رجلا له مركزه الإجتماعى وأسرته وأولاده الذين يشقى من أجلهم.
حين رحل زوجى عن الحياة ذهبت إلى أحد البنوك، وأشتريت ماكينة تريكو بالتقسيط، وعملت «فراشة» في أماكن لا يمكن أن تتخيلى صعوبة العمل فيها ،(مستشفيات، وحضانات أطفال.. وحتى الخدمة بالمنازل إحترفتها دون أن يعلم أولادى)، أخفيت عنهم ما لاقيته من معاناة وإهانات أحيانا، وكنت أعود إلى المنزل مرهقة ومتعبة فلا أتردد عن دخول المطبخ وترتيب المنزل ليعود أبنائى من جامعاتهم ليجدون «أما» تراعاهم.
ومرت السنين وأنا اعانى وحدى، وأخفى عن أولادى مشقة ما ألاقيه حتى في تسويق ما أنتجه من ماكينة التريكو، وتخرج إبنى من الجامعة وهو أكبر أولادى، فقرر أن يدخر كل دخله لتكوين مستقبله ولم يساعدنى بقرش واحد في تزويج أخواته.
فجأة أحسست بأنى نقطة ضعف عند أولادى، وأنهم يخجلون من مهنتى، لكن الخجل لم يمنعهم من التمتع بما أحققه من دخل.. عفوا (كمن يحلب بقرة)!.
وظللت أشارك في «جمعيات» لتجهيز البنات، وأستدين من أهل الحى، فليس لى أقارب، ولا أحد من أهل زوجى يشاركنى مسئولية تربيتهم وتزويجهم.. حتى جاء للبنت الصغرى عريس من أسرة محترمة أصرت أسرته على فرش شقته التمليك بأثاث فاخر، وكانت إبنتى تسخر من مستوى معيشتنا المنخفض.. وتدارى عنه رحلة شقائى.
وهنا ذهبت إلى «دلالة» تشترى أغراض الزواج بفوائد 30 %، وإقترضت منها ما يقارب من 50 ألف جنيه، المهم أن إبنتى ساعتها سعدت وتشرفت بما فعلت وتزوجت ورحلت إلى بيت زوجها.. ثم إنهارت صحتى ولم أتمكن من معرفة السبب، وبدأت «ألدلالة» تلح في طلب فلوسها حتى أبلغت النيابة بإيصالات الأمانة التي وقعتها.
وجدت نفسي خلف القضبان بزى السجن المعروف، وتنكر لى أولادى إعتبرونى «عار وفضيحة».. وفى السجن إكتشفت أنى أعانى من تليف في الكبد واننى أحتاج إلى زرع كبد.. وهنا تدخلت إدارة السجن لتضمنى إلى الغارمات المفرج عنهم بقرار من الحكومة.
خرجت أخيرا وتنفست نسيم الحرية، ذهبت إلى بيتى فوجدت أولادى قد أخذوا من المالك «خلو رجل» وسلموه الشقة وقسموا المبلغ بينهم، لم أجد إلا دار مسنين تأوى العجزة والمرضى «مجانا»، وصلت اليها بعد عناء ورحلة قاسية من النوم على الرصيف في العراء!.
منحتنى دار المسنين بحياة كريمة، ولكنى أصبحت على مشارف مفارقة الحياة، علمت من أهل الحى أن ألادى يقولون أنى «مت».. وقد جحدونى وعاملونى كجثة ليس عليهم أن يتحلموا حتى عبء جنازتها.. أنا لا أريد من الدنيا إلا أن أرى أولاد وأحفادى قبل أن أودع الحياة.. ولا أستطيع أن أقتحم حياتهم خشية إحراجهم أمام أسرهم.. فماا أفعل ؟!.

يا أمى:
أعلم أن المرض قد أنهكك، وأن الحزن إغتال الفرح بأولادك وأحفادك، وأن رحلة الشقاء الطويلة لم تجدي في ختامها من يكافئك ولو بلحظة عناق تعوضك عن العمر الذي ضاع صبرا ووجعا.
وأتعجب من جحود أولادك غير المبرر، فقد جنبتيهم الإحساس بالشقاء والمهانة، ووهبتيهم كل حياتك وصحتك، ولم يشارك أحدهم في البحث عن «لقمة العيش»، ربيتهم على «الشبع» وللأسف إعتادوا إنكار مستوى معيشتهم، والتطلع للخروج من نفق الفقر المظلم كمن ينجو بجلده وتركوا لك وحدك «المعاناة».. حتى الإبن الأكبر الذي كان يفترض أن يكون السند لك ولأخواته كان أنانيا فلم يهتم إلا بجمع المال لنفسه وذهب خلف «النقود» التي أصبحت غايته الوحيدة، فتجمدت أحاسيسه، وماتت مشاعره.. ولم يعد أي من أولادك يشعر بتأنيب الضمير والإحساس بالذنب ولا بالانتماء للأم التي إنتزعوا منها حتى جدران البيت الذي كان يمكن أن يأويها.
أنا أشفق عليك من الحزن وأنت مريضة، وأقدر تماما رغبتك في ضم أولادك في حضنك قبل الوداع، وليس عليك الآن إلا أن تطلبى من مديرة دار المسنين الإتصال بهم.. فإن إعتبروا أنك سقطت من ذاكرتهم وخرجت من حياتهم، وكفنوك وأنت على قيد الحياة.. فليس أمامك إلا أن تطرقى أبوابهم وهذا حقك.. أن تذهبى بنفسك ،(بمساعدة مرافقة)، وتعانقيهم وتعاتبيهم وتشبع عيونهم من مصافحة ملامحهم.
أنا لا ادرى من أين جاءتهم غلظة القلب وكل هذه القسوة؟.. ألم ينظر أحدهم إلى الغد ويخاف من لحظة أن يرميه أولاده ليكون مصيره مثل مصير أمه، فهذا هو الدرس الذي تعلموه منهم ؟!.
لا أدرى أين ذهب الوازع الدينى والأخلاقى.. وقد تربوا في أحضان أم مثالية.. يكفى أنها ضحت بحريتها لتضمن لهم ما أرادوه من أثاث مغالى في سعره.
إعلمى –يا سيدى- أن دعوة الأم كفيلة بتغيير حياة الأبناء، فتضرعى إلى الله أن تلين قلوبهم المتحجرة، فإن ضلوا هم الطريق اليك عليك أنت تذهبين إليهم.. حتى لو قابلوك بفتور فيكفى نظرة منك تروى ظمأك لرؤيتهم.
لقد إكتفيت بالأساليب الإنسانية، رغم وجد كثير من الضغوط قد تجلبهم ليركعوا عند قدميك.. وأتمنى أن يمن الله عليك بالشفاء ويحقق لك أمنيتك ألخيرة والوحيدة.

a3trafat@almasryalyoum.com