بالفيديو.. «المصري اليوم» تكشف في تحقيق استقصائى: ملابس مسرطنة فى أسواق مصر

كتب: علي زلط, محمد الخولي الأحد 12-06-2011 23:10

 

 

مثل كل المصريين، تتوجه أنت كما نتوجه لشراء ملابس فى مواسم الأعياد والمدارس و«الأوكازيون».. أو بدون مناسبة، ونفعل جميعا نفس الشىء، نقلب أعيننا بين الفاترينات، ونتتبع أحدث خطوط الموضة، تعجبنا ألوانها الزاهية، ويبحث كل منا عن جودة تناسب ذوقه، وتكلفة «على قد جيبه»، تشترى أنت من محال وسط البلد أو مولات الصفوة فى الأحياء الراقية، ويبحث غيرك فى بسطات «العتبة» و«الموسكى» و«عماد الدين»، لكن لا أنت ولا أنا بحث فى «التيكت» المطبوع فى بطانة القميص عن تفاصيل أكثر من الماركة، و«صنع فى الصين» أو «100% قطن مصرى فاخر».


ما الفرق إذن بين القميص ذى الماركة الذى تشتريه من محال القاهرة، والآخر الذى قد يشتريه مواطن فى بلد أوروبى؟.. للإجابة عن هذا السؤال، تعالوا نتتبع القصة وراء القمصان، لنبحث عن سلامة كل خيط لامس أجسادنا ليسترها.. لكنه ربما ينقل لها ما هو أخطر.


فى البداية.. يحكى راجات كومار، الخبير الهندى المتخصص فى اختبارات سلامة الملابس من الناحية الصحية والبيئية، كيف بدأ العالم يهتم بنوعية الأصباغ المستخدمة فى لعب وملابس الأطفال بشكل خاص، ويرجع سبب الاهتمام بهذا الأمر إلى حادث وقع عام 2001 حير سلطات التحقيق فى أمريكا، ففى مدرسة واحدة فى فلوريدا، لاحظ المشرفون الصحيون وفاة 5 أطفال خلال شهرين بشكل مفاجئ، وبالتدقيق اكتشف الأطباء أن هؤلاء الأطفال تعاملوا مع لعب استخدم فى صناعتها الرصاص وصبغات ممنوعة انتقلت للأطفال عن طريق وضع اللعب فى الفم، ومنذ ذلك الحين ونتيجة لحوادث متشابهة، بدأ العالم يأخذ على محمل الجد استخدام الأصباغ والمواد التى تحتوى على معادن ثقيلة فى لعب وملابس الأطفال، لكن فى دول العالم الثالث ومن بينها مصر، يقول راجات، لا يزال الأمر لا ينال الاهتمام اللازم.


لتوضيح الصورة أكثر، قادنا الخبير الهندى فى رحلة بسيطة عبر الإنترنت، للاطلاع على المواصفات الأوروبية للملابس، وكيف تفرض شروطا صارمة لا تستطيع أى شركة بمقتضاها التصدير للمستهلك الغربى إلا بضوابط بيئية وصحية بالغة الدقة، تتركز معظمها فى نوع وطبيعة المواد المستخدمة فى الصباغة والتجهيز، ونسبة التركيزات المسموح بها فى حالة استخدام مواد مسرطنة، وتضع حكومات هذه الدول ضوابط أكثر تشدداً إذا كانت قطع القماش التى ستدخل بلدانها ستصبح ملابس لأطفالها، وكل هذه الإجراءات لحماية مواطنيها من خطر قد يهدد سلامتهم بسبب ما يرتدونه من ملابس.


هذا الاهتمام ربما يكون مقتصراً فى بلدنا -حتى هذه اللحظة -على مراكز البحوث فقط. ففى ذات يوم من أيام مصر- قبل ثورة 25 يناير- عقد المركز القومى للبحوث مؤتمرا علميا دوليا، ناقش فيه ورقة عمل عن الالتزامات البيئية والصحية تجاه المستهلك، خلص المؤتمر إلى توصية بمراجعة التزامات صناعة النسيج فى مصر بصحة المستهلك، وأوصى بوضع معايير ومواصفات تحقق حماية الجمهور.


لم يحضر المؤتمر عدد ملحوظ من صناع الملابس فى مصر، ربما لأن مشكلة البحث العلمى أنه منفصل عن الصناعة، لكن من الناحية الصحفية كانت الأبحاث التى تناقش صباغة وتجهيز الملابس بالغة الأهمية، ولأول مرة بدأت تطرق آذاننا مصطلحات علمية بحتة، لكن لها أشد الأثر على سلامتنا الشخصية، دار الحديث فى المؤتمر عن نوع من الأصباغ يسمى صبغات الآزو، أو «Azo Dyes»، وبرحلة بسيطة على محرك البحث الأشهر «Google»، بدأت الخيوط تتضح.


يشير الموقع الرسمى للاتحاد الأوروبى إلى ضرورة الحذر فى التعامل مع هذا النوع من الأصباغ، وطبقا للقسم العلمى فى ذات الموقع فإن ثمة أبحاثاً كثيرة تشير إلى أن هذه الأصباغ قد تسبب السرطان، وللوقوف على الرأى العلمى والنهائى للاتحاد الأوروبى توجهنا بخطاب رسمى عبر مكتب المفوضية بالقاهرة، وطلبنا موقفا حاسما فماذا كان الرد بعد أسبوعين؟


«أصباغ الآزو محظور استخدامها بالفعل منذ عام 2002، طبقا للتوجيه الصادر من الاتحاد الأوروبى ومنشور فى الجريدة الرسمية للاتحاد برقم» EC/61/2002 بتاريخ 17 يوليو 2002 حول ضوابط تسويق واستخدام المركبات الخطرة لأصباغ الآزو»، السطور السابقة كانت ردا قطع كل شك حول تعامل أوروبا مع الأصباغ التى تستخدم فى هذه الملابس.


وتؤكد الوثيقة التزام الاتحاد الأوروبى بتوفير أقصى معايير السلامة لمواطنيه ولذلك اتخذ قرارات من منطلق سعى الاتحاد الأوروبى لحماية مواطنيه من أى مخاطر صحية، وتماشياً مع توجه الاتحاد لتنمية الوعى بحق المستهلك فى الأسواق الداخلية، تقرر منع استخدام 22 نوعاً من صبغات الآزو فى الملابس الملامسة للجلد لما تحتويه من أحماض أمينية تسبب أمراضاً سرطانية، ويسمح باستخدام باقى أنواع هذه الصبغات فى حدود لا تتجاوز 30 جزيئا فى المليون كحد أقصى، وفى بعض الحالات 70 جزيئاً فى المليون فى كل حوض صباغة.


هكذا كان الرد الرسمى للاتحاد الأوروبى، فكيف هو الوضع فى مصر؟


لم تعرف مصر مشكلة قدر عدم التنسيق بين أجهزتها الفنية والرقابية، ففى الوقت الذى يوصى فيه دليل وزارة البيئة للحد من التلوث فى صناعة النسيج بعدم استعمال أصباغ الآزو المركبة من بنزيدين نهائياً، استناداً إلى برنامج الأمم المتحدة للإنتاج النظيف لصناعة الغزل والنسيج، ويشدد نفس الدليل أيضا على ضرورة عدم استخدام أصباغ آزو تحت ظروف اختزال لأن لها آثاراً سرطانية، إلا أن مواصفاتنا القياسية لصناعة الغزل والنسيج بعيدة عن تنظيم تداول هذه المواد فى مصانع الملابس الجاهزة، ولم تأت على ذكر لهذه الصبغات وآثارها الضارة بالصحة عند استخدامها دون ضوابط.


هذا التضارب يفسره الدكتور هانى بركات، رئيس الهيئة العامة للمواصفات والجودة، وهى الهيئة المسؤولة عن وضع المعايير ودرجات الأمان فى الصناعات المصرية، يقر الرجل القادم من خلفية أكاديمية أن هناك ثقوبا فى المواصفات القياسية فى كثير من الصناعات، وبشكل خاص صناعة المنسوجات، ويضيف «نعلم أن هناك مواد محظورة تسبب الأورام السرطانية، وتستخدم فى صباغة بعض المنسوجات المصرية، والسبب هو عدم تطوير مواصفات الملابس والمنسوجات منذ صدور أول مواصفة مصرية للنسيج عام 1957».


أما عن طبيعة المواد المحظورة التى تستخدم فى صباغة المنسوجات المصرية فيقول «مادة الفورمالدهايد، وبعض أنواع الصبغات التى تحتوى على مواد ذات أحماض أمينية تسمى بأصباغ الآزو، كما أن بعض المعادن الثقيلة مثل معدن الكروم (6) والكادميوم والرصاص والزئبق تمثل أيضا خطورة على المستهلك عند ارتدائه هذه الملابس».


ويتابع «الإحصائيات تؤكد أن التعرض المتكرر وطويل المدى للمنسوجات المصبوغة بمواد الآزو تسبب أوراما سرطانية بالجلد».


ورغم إقرار رئيس الهيئة بوجود المشكلة إلا أنه أكد أن العمل جار لإعداد وإصدار مواصفة شاملة طبقاً لمواصفات الولايات المتحدة الأمريكية تمنع تداول أو استخدام المواد المحظورة عالمياً فى صناعة الملابس، وسيتم إلزام المصانع العاملة فى مجال المنسوجات والتى يبلغ عددها 5 آلاف مصنع بهذه المواصفات بشكل تطوعى لحين أن تصبح المواصفة الجديدة ملزمة».


غادرنا مكتب رئيس هيئة المواصفات، والسؤال يلح على أذهاننا «هل تلتزم المصانع المصرية -حاليا- ولو بشكل طوعى بضوابط استخدام الأصباغ؟»، الإجابة عن هذا السؤال استلزمت رحلات إلى ثلاث مصابغ فى مدن صناعية مختلفة فى مصر.


فى العاشر من رمضان، زرنا مصبغة حاصلة على شهادة «الإيكــوتكست- eco-text»، التى يمنحها الاتحاد الأوروبى لمن يلتزم بالمعايير البيئية، يشرح أمين عباس، العضو المنتدب لشركة الصباغة التى تخصص كل إنتاجها للتصدير، آلية عمل شهادات المطابقة الدولية للمنسوجات فى مجال الصحة العامة ويقول: «أقل خطأ يحدث فى نسب خلط الصبغة بالماء قد يسبب تراكم المواد الخطرة فى القماش بما يؤثر على صح المستهلك، لذلك، يعتمد الاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة مكاتب استشارية تقوم بفحص عينات الأقمشة بدقة، وتحدد نسبة الصبغات التى تم استخدامها فى كل قطعة، بما يتناسب والمعايير العالمية».


اصطحبنا عباس فى جولة فى المصبغة، وفى المعمل أعطانا نسخة من بيان المكونات لكراتين الصبغات «The Fact Sheet»، ومضى يشرح: «كل شركة منتجة للصبغات تتعامل مع الأسواق الدولية ملزمة بحسب قوانين البيئة بالكشف عن طبيعة المواد المستخدمة وبأنها غير ضارة بالبيئة أو بالصحة العامة للإنسان»، كان عباس يتحدث عن الوضع المثالى بالطبع، لأن نسبة كبيرة من شركات الصباغة ذات المنتجات الرخيصة لا تفعل ذلك.


أما فى شبرا الخيمة، حيث يتناثر عدد من المصابغ الأهلية، أغلبها غير مسجل لدى جهات الرقابة الصناعية، فلا ضابط على استخدام الصبغات، فى إحدى هذه المصابغ، دخلت كاميرا «المصرى اليوم» ثلاثة أيام للبحث عن طريقة استخدام الأصباغ، الكراتين وبراميل الصبغة لا تحتوى أى كشف أو بيان بالمكونات، وعلى مدى ثلاثة أيام قمنا بالتنقيب فيها بين أقسام المصبغة، وثقت «المصرى اليوم» أصباغاً تستخدم بكميات كبيرة حتى تعطى قوة فى اللون دون أى معايير لتحديد كمية الصبغة الخام فى أقمشة البوليستر، فضلا عن أن الصبغات المستخدمة مستوردة من الهند والصين دون أوراق تثبت مكوناتها وخلوها من المواد الضارة.


آخر المحطات كانت المحلة الكبرى، قلعة صناعة النسيج، كان الوضع لا يختلف كثيراً عما هو الحال فى شبرا، مصبغة للبنطلونات تستخدم أسود الكربون، وهو مادة شديدة السمية كما يقول الدكتور هانى بركات، رئيس الهيئة العامة للمواصفات، لكن العمال يستخدمونها ومجموعة من ألوان الآزو دون ضابط أو رابط إلا سابق خبرتهم فى تحديد نسب الخلط فى كل حوض صباغة.


عند هذه النقطة من التحقيق كان علينا أن نسحب عينات من السوق لملابس محلية أو مستوردة من الصين التى غدت منسوجاتها الأكثر رواجاً فى مصر، وللمساعدة الفنية توجهنا إلى معمل دولى معتمد لدى الهيئة المصرية للتوحيد القياسى، ووزارة الصناعة، وهو واحد من ثلاثة معامل متخصصة فى مصر، قابلنا محمد إبراهيم، مدير المعمل، حيث قال إن عدداً قليلاً لا يتجاوز 100 مصنع من بين أكثر من 5 آلاف منشأة صناعية تعمل فى مجال المنسوجات تحرص على إجراء الفحوصات اللازمة بشكل تطوعى، لكنها كلها لا تستهدف السوق المحلية، وإنما التصدير لأوروبا وأمريكا التى تشترط تجاوز هذه الاختبارات للحصول على شهادة تسمح بالتصدير، وبخبرته فى السوق المصرية يوضح محمد أن «20% تقريبا من العينات المستهدفة بالتصدير تسقط فى الاختبارات ويقوم المنتجون بتلافى عيوب الصباغة والتجهيز حتى يمكنهم التصدير»، أما عن السوق المحلية فلم يسبق أن تقدمت جهة صناعية بطلب لإجراء هذه الفحوص.


بعد عدة جلسات تمت الاستعانة بخبرات راجات كومار، الخبير فى المعمل، وتوجهنا لمنطقة وسط البلد والعتبة والأزهر، وقمنا بسحب عينات عشوائية لقطع من الملابس الحريمى والرجالى والأطفال، بعضها ملابس داخلية، بالإضافة إلى قطع قماش مطبوع يستخدم فى العبايات الحريمى، ولا تمثل رصداً دقيقاً لسوق الملابس فى مصر بقدر ما تعطى مؤشرات عما يحدث فى السوق.


ما بين القاهرة وأنقرة التركية تم إجراء عدد من الاختبارات على أنسجة هذه الملابس، شملت الاختبارات أصباغ الآزو، وتوافر بقايا معادن ثقيلة سامة فى الملابس بعد صباغتها، وجاءت النتيجة إيجابية فى بعض العينات، التى ثبت خلوها تماما من هذه المواد، وعددها 6 قطع ملابس، وسقطت عينات أخرى فى الاختبارات، وجاءت نتيجتها سلبية تماما، وفى إحدى العينات الخاصة بـ «تى شيرت» رجالى، كانت آثار أحد أنواع صبغات الآزو المحرمة دوليا قد وصلت نسبته إلى حدود بالغة الخطورة، وهو مادة «الأمينو آزو بنزين»، المصنفة فى أوروبا بشديد السمية ومسببة للسرطان، وكان يجب أن تكون نسبتها صفر جزىء فى المليون فى الملابس، جاءت نتيجة التحاليل لتؤكد أنها 130 جزيئاً فى المليون، وفى حالة أخرى 260 جزيئاً فى المليون، وفى نتائج أخرى ذات دلالة، تخص 3 قطع ملابس أطفال، أثبتت التحاليل زيادة نسبة المعادن الثقيلة بها بشكل غير مسبوق، ففى حين تسمح المواصفات الأوروبية بـ 1000 جزيئاً فى المليون تجاوزت النسبة إلى 23 ألفاً و350 جزيئاً فى المليون، وفى حالة أخرى 31 ألف جزىء فى المليون، هذه النسب تضاعفت فى عينة قماش مطبوع لتصل إلى 188 ألف جزىء فى المليون لبقايا العناصر الثقيلة السامة كالزئبق والرصاص المستخدم بكثافة فى عملية الطباعة والصباغة.


وتعليقاً على الأرقام السابقة، يقول راجات: ليس هناك علاقة بين رخص سعر المنتج وعدم سلامته بيئياً.. وبعض الملابس غالية الثمن قد تحتوى على مواد ضارة، ويضيف: «ربما تدخل محلا فتسحب من الرف الأول ملابس بها بقايا مسرطنة، فى حين أن الرف الثانى يحوى ملابس سليمة تماما، لأنه لم تتم صباغتها فى نفس حوض الصباغة للقطع الأولى، ومما يصعب الوضع على المستهلك العادى أنه لا يستطيع أن يفرق بين الملابس التى تحوى أصباغا مسرطنة وتلك السليمة باستخدام عينه المجردة».


النتائج السابقة تعطى مؤشرات عن حالة سوق الملابس فى مصر، فهل نطمع يوماً أن تصدر وزارة الصناعة مواصفة تحفظ حياة المصريين وحقهم فى ارتداء ملابس آمنة.. الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة عن السؤال.

مغامرة لـ«المصرى اليوم» وسط الأصباغ الخطرة تكشف:مصنـع يستخـدم مـواد محظـورة فى الملابس.. والمحرر يعمل «ثلاثة أيام » عامل صباغة ويرصد استخدام أصباغ صينية مجهولة

 

العامل هو الحلقة الأضعف فى سلسلة صناعات الغزل والنسيج فى مصر، لا الراتب الذى يتقاضاه يكفى لسد الرمق، ولا البيئة التى يعمل فيها تحمى صحته من كيماويات «تهرى جلده» وتسد رئته.. رحلة بحث مجهدة قامت بها «المصرى اليوم» بمنطقة شبرا الخيمة، كان الهدف منها رصد عدد المصابغ الموجودة بهذا الحى الصناعى ومعرفة طبيعة العمل داخل هذه المصانع، وطبيعة المواد المستخدمة فى صباغة المنسوجات.


انتهت الرحلة بخوض مغامرة صحفية داخل أحد مصانع النسيج الكبرى لمدة ثلاثة أيام. رصدت «المصرى اليوم» خلالها بالصوت والصورة ممارسات صحية خطيرة فى عملية صباغة الملابس تنقلها السطور التالية:


اليوم الأول.. رحلة البحث عن مخزن الأصباغ


شاب حديث التخرج يطلب الستر فى وظيفة تدر عليه دخلا بسيطا، هكذا كانت البداية التى قادتنا للمصنع عبر وسيط يعمل فيه، فى السابعة صباحا وقفت «المصرى اليوم» أمام سور صغير تتوسطه بوابة، لا تحمل أى لافتة تدل على هوية المصنع، بمجرد أن تخترق البوابة متجها لداخل المصنع تنفتح عيناك على مساحة شاسعة هى حجم المصنع الحقيقى، المكون من أربعة أقسام هى المصبغة القديمة والجديدة والمعمل ومخزن الألوان.


تكسو القتامة والألوان الباهتة كل ركن فى المصبغة، بما فى ذلك الأجهزة والمعدات والماكينات والأقمشة المتناثرة فى كل جزء، والأرضية التى تكسوها ألوان الصباغة المختلفة.


أمين مخزن المصبغة أكثر العمال تعاملاً مع كرنفال الألوان، لكنه لا يعرف الخطر فى استخدامها بشكل خطأ، «أهم حاجة تصبر وتتحمل وتفتح عنيك كويس» كلمات قالها الأسطى حسن مشرف المصبغة بحماس، ثم أتبع «بص يا محمد أنت هتشتغل هنا بـ600 جنيه فى الشهر والشغل من الساعة سبعة صباحا لسبعة بالليل وليك وجبة أكل واحدة فى اليوم عبارة عن رغيف عيش وقطعة جبنة نستو».


اندمجت فى حمل أثواب الأقمشة الخام ونقلها لأجهزة الصباغة الآلية وجلب جميع مكونات عملية الصباغة من «جوالات» الملح الصناعى والألوان، والوقوف على معدات الصباغة لمساعدة «أسطى» الماكينة فى تشغيلها، فى نهاية اليوم، كان العمال يغسلون أطرافهم التى لونتها الأصباغ ويغادرون المصنع فى مهل.


اليوم الثانى.. فحص الأصباغ ومعرفة هويتها


بعد يوم موفق فى المصنع، اجتمعت والزميل على زلط، وأصبحت مهمتى فى اليوم الثانى أكثر مخاطرة، وتتلخص فى البحث عن هوية الأصباغ التى يستخدمها المصنع، وأن أعرف أسماءها وألتقط صورا للكراتين التى تحوى كل صبغة لمعرفة هويتها ومن أى دولة تم استيرادها ومحاولة الحصول على عينات منها إن أمكن.


فى تمام السابعة كعادتى كنت أمام بوابة المصنع وأحمل داخل أمتعتى كاميرا صغيرة لتصوير الفيديو قمت بإخفائها فى أحد الأحذية البلاستيكية التى اشتريتها لأرتديها حتى أحافظ على رجلى من آثار الألوان المتناثرة فى كل مكان بالمصبغة، وخلال ساعات العمل بدأت أتسلل للمخزن دون أن ينتبه يوسف، كنت ألتقط صوراً لكراتين الصباغة وماركاتها، ولاحظت أن كل الأصباغ مستوردة من الصين أو دول جنوب شرق آسيا، وغير موضح عليها بيانات المكونات، ولا تحمل شهادات خلو من المواد الكيميائية الضارة، ولفت انتباهى إحدى حاويات المواد مكتوب عليها «فورمالدهايد» وهو مركب كيميائى ضار جدا بالصحة، كما يوجد العديد من الكراتين مجهولة الهوية، احتفظت ببعض أجزائها ومحتوياتها وقمت بتصويرها.


«مين اللى جوه؟» صيحة أطلقها عم يوسف المسؤول عن مخازن الأصباغ، وأنا أقوم بتصوير بعض الأصناف داخل المخزن، فارتبكت قليلا لكنى استعدت توازنى فى الحديث عندما سألنى قائلا «إنت بتعمل إيه؟» فأجبته: «كنت ألعب فى التليفون وأريد أن أدردش معاك شوية تعرفنى على الصبغة وأنواعها عشان أتعلم بسرعة وأفهم النظام»، وجلست معه لأبادله الحديث وحكى لى مسهبا الكلام بصوته الضعيف وكلامه السريع، شارحا بعض تفاصيل صناعة الصباغة وأنواعها وكان يبدو من حديثه أنه لا يعلم أضرار هذه الصباغة ومخاطرها على صحة الإنسان.


فى هذا اليوم كان يبدو على عم يوسف التعب، وفى أثناء حديثه توقف فجأة عن الكلام وهو يمسك ببطنه ويقول «أنا تعبان النهاردة خالص» وقام مسرعا نحو الحمام وهو ممسك ببطنه وأراد أن يتقيأ، وبدا عليه الألم الشديد واصفر وجهه وظل 10 دقائق يقف على أحد مراحيض الحمام يتقيأ وكاد يسقط على الأرض، لولا أن ساندته حتى ليجلس على كرسيه الخشبى بالمخزن، وبعد أن هدأت حالته بدأت أسأله عن حالته الصحية فأجابنى «أول ما بدأت الشغل فى المصنع لم أكن هكذا» وكانت صحتى بمب وكنت أشيل وأعتق، لكنى تعبت ويأتينى دور الترجيع هذا كل شهر بكحة شديدة.. وربنا يستر علينا من شغلانة المخزن».


ومضى يوسف فى القول: «كلما يأتى شخص جديد يشتغل فى المخزن لا يقدر أن يكمل ويمشى، وأنا من سنين شغال هنا وأحاول أتحمل، وكان فيه اتنين قبلى شغالين، واحد جاله مرض مش عارف يقوم منه والثانى مات، وكثير من العمال تعبانين وعندهم مشاكل فى صدورهم».


التقطت طرف الحديث من عم يوسف عن مرض العمال، وبدأت أتجول فى المصنع متحدثا مع بعضهم واكتشفت أن هناك انتشاراً لأمراض الصدر والحساسية يعانى منها بعضهم لكنهم لا يهتمون بزيارة الطبيب حتى لا يحتسب ذلك اليوم غيابا من المصنع يترجم فى صورة نقص فى الراتب، على حد قول أحد العاملين.


فى نهاية كل يوم لابد أن يتعرض جميع العاملين بالمصنع لعملية «التفتيش» عند بوابة الخروج، تحسبا من إدارة المصنع لسرقة أى من العاملين أثواب قماش أثناء مغادرتهم العمل، الأمر الذى ظهرت معه مشكلة كبرى لى، وهى كيف أخرج بالكاميرا التى اصطحبتها معى حتى لا يكتشف أمرى، وبعد تفكير توصلت لطريقة لإخفاء هذه المتعلقات بداخل حذائى البلاستيكى وخرجت من المصنع بعد أن فتشنى المكلفين بذلك من العاملين ولم يتوصلوا لشىء.


اليوم الثالث... البحث وراء أسباب مرض عم يوسف


ذهبت للمصنع فى اليوم الأخير لمصارحة عم يوسف عامل مخزن الأصباغ بمهمتى ودعوته ليخضع لعملية فحص طبى لتوصيف وعلاج حالته لأنه كان يبدو عليه آثار المرض.


اقتنع عم يوسف بالفكرة، خصوصا أن علاجه سيكون مجانا – لتحمل الجريدة ثمن الكشف والعلاج - ولن يتكلف شيئا، وعرضنا حالته على د.أمل السفطى، رئيس قسم الأمراض المهنية وطب الصناعات بمستشفى قصر العينى. خضع عامل المخزن لمجموعة من الفحوصات الطبية وجاء تقرير الطبيبة المعالجة يؤكد أنه يعانى من حكة فى الجلد والأيدى والأرجل المعرضة مباشرة للصبغات، كما أنه يعانى من صعوبة فى التنفس ويتعرض لأزمات صدرية بسبب التعرض لغبار ألوان الصباغة خلال الأيام الأسبوعية، وتتحسن حالته فى أيام العطلة. وأكدت د. أمل السفطى أن سبب هذه الأعراض نتيجة عدم استخدام وسائل الحماية الشخصية أثناء العمل بالمصنع، وهى الكمامات والقفاز والأحذية المطاطية والتى تقى من التعرض المباشر لهذه الأصباغ. أضافت أن تعرض العاملين المباشر لمواد الصباغة تجعلهم مهددين بالإصابة ببعض الأمراض الخطيرة لتسلل المعادن الثقيلة لدمهم قد تصل للإصابة بالسرطان.


كان عم يوسف أكثر قدرة على التحمل من آخرين، لكن المغامرة كشفت عن حجم الضرر الواقع على العمال فى شركات الصباغة الذين لا يعلمون شيئا عن خطورة المواد السامة التى يتعرضون لها كل يوم، ولا أنها تؤثر على الصحة العامة للمستهلكين فى حال عدم استخدام الصبغات بالضوابط التى تقرها المواصفات الدولية لهذا النوع من الصناعة الخطرة.


نقيب العلميين لـ«المصرى اليوم»:الأصباغ المحظورة دولياً تصيب بأورام سرطانية.. و«الآزو بنزيدين» الأكثر خطورة

 

حذر الدكتور على حبيش، أستاذ كيمياء تكنولوجيا النسيج بالمركز القومى للبحوث، ورئيس الحملة القومية للنهوض بالصناعات النسيجية، من خطورة استخدام الأصباغ المحظورة دولياً فى الملابس، لأنها تصيب بأمراض مسرطنة، وأكد أن دول العالم الثالث المنتجة للأصباغ لا تهتم بمعايير الجودة والسلامة فى المنتجات التى تصدرها لمصر، كما حدد مجموعة من المواد الخطيرة جداً والمحظورة دولياً، لا تزال تستخدم فى منتجاتنا بسبب غياب مواصفات جودة مناسبة، وطالب بضرورة فرض رقابة صارمة على الواردات من الأصباغ والملابس، بجانب الرقابة على المنتجات المحلية، وإلى نص الحوار..


■ ترأست حملة النهوض بالصناعات النسيجية منذ عام 2006، ما أهم الملاحظات التى توصلت لها الحملة فيما يخص صباغة الملابس وعلاقتها بصحة المستهلك؟


- تتمثل أهمية الحملة التى قمنا بها بمشاركة مجموعة من الباحثين بالمركز القومى للبحوث، فى العمل على مساعدة مليون شخص يعملون فى مجال الغزل والنسيج، يتعرض أغلبهم لمخاطر التلوث ببيئة العمل، بجانب المخاطر التى قد يتعرض لها مستهلك المنتجات النسيجية، نتيجة التعرض الاحتكاك بالمواد الكيميائية المستخدمة فى الصبغات أو المواد المساعدة.


■ ما المخاطر الصحية الناتجة عن عملية صباغة الملابس الجاهزة؟


- ثبت علمياً أن هناك بعض المواد المستخدمة فى عملية الصباغة تسبب أمراضا للإنسان، تصل خطورتها للإصابة بالأورام السرطانية، بجانب الإصابة بالحساسية وأمراض جلدية أخرى.


■ ما هذه المواد؟


- تم وضع قائمة بأسماء تجارية ورموز كميائية لمجموعة الصبغات المحظور استخدامها نهائياً، مع تحديد مسببات المرض الناتج عن كل مادة، ومن هذه المواد مثلاً «الفورمالدهايد»، وبعض أصباغ «الآزو»، والعناصر الثقيلة مثل: الحديد والنحاس والكروم، كما يوجد حدود معينة لاستخدام بعض الكيماويات، إذا تم تجاوزها يكون لها أضرار صحية، وتنص الاشتراطات أنه لا يجب أن تزيد نسبة الفورمالدهايد المستخدمة فى عملية التجهيز والصباغة عن نسبة معينة فى ملابس الأطفال، ونسبة أخرى مختلفة فى ملابس الرجال.


■ فيما يخص أصباغ الآزو.. ما الخطورة فى استخدامها؟


- ليس كل أنواع الآزو مسببة للسرطان، وبعضها آمن، لكن هناك أنواع خطيرة جداً مثل «الآزو بنزيدين»، وبعض الأنواع الأخرى التى تخرج منها مواد كميائية تسمى بالأمينات، وهى المسببة للسرطان.


■ ما خطورة استخدام مادة الفورمالدهايد فى عمليات التجهيز قبل صباغة الملابس؟


- الفورمالدهايد له خطورة بالغة، لأنه بعد غسيل الملابس تقل كثافته، لكنه يظل داخل الملبس مندمجاً مع مواد التجهيز، وعندما تتحلل هذه المواد يظهر الفورمالدهايد مجدداً، نتيجة حدوث تفاعلات كيميائية ويتغلغل بكثرة داخل النسيج، ويمتصه الجسم عند الاحتكاك المباشر مسبباً السرطان.


ومع ارتفاع درجة الحرارة، واختلاط الملبس بعرق المستهلك، تتزايد فرص تكوين جو مناسب يحدث فيه تكسير لمواد التجهيز، وبالتالى ينطلق الفورمالدهايد، لذلك فإن الدول المتقدمة مثل اليابان تحظر منذ سبعينيات القرن الماضى زيادة نسبة الفورمالدهايد عن 75 جزءاً فى المليون جزىء من صبغة ملابس الأطفال، و150 جزءاً فى المليون بملابس الكبار، و300 جزء فى المليون بالأقمشة الأخرى غير المخصصة للملبس.


■ فى سياق تحقيقنا الاستقصائى، ومن واقع نتائج التحاليل التى أجريناها على بعض العينات، ثبت أن هناك تجاوزات خطيرة لبعض هذه الأنواع المسببة للسرطان، فكيف ترى خطورة ذلك على المستهلك المصرى؟


- هذه مشكلة خطيرة جداً يجب تداركها، بوضع مواصفات قياسية جديدة تمنع استخدام المواد الضارة، وتفعيلها بقواعد صارمة وتحاليل دقيقة على الملابس التى يتم استيرادها، وما يثبت مخالفته للإجراءات البيئية أو الصحية يجب عدم إدخاله مصر، أما فيما يخص إنتاج المصانع المحلية، فيجب أن يقوم جهاز حماية المستهلك بسحب عينات من الملابس الموجودة بجميع أنواع الأسواق ويحللها، وما تثبت مخالفته يجب أن يتم إعدامه ومعاقبة المصنع المخالف.

تم إنجاز التحقيق بدعم من مؤسسة إعلاميون عرب من أجل صحافة استقصائية (أريج)

 

شاهد الفيديو: