لم يتعمق الكثير من الدراسات عن ثورة 19 بوثائق بريطانية سرية، وقد سبق أن أصدرت مؤسسة الأهرام الصحفية 1969 مخطوطاً مهما «50 عاما على ثورة 1919» تناولت فيه وثائق بريطانية من الملف FO 407/186 وما سبقه وليس ما لحقه. وقد وجدت أن الملف التالى للملف المذكور وهو رقم FO 407/187 يتناول فى جزء منه عبدالرحمن فهمى، وعنونت نسبة من وثائقه باسمه (يحتوى على ما يزيد على 370 وثيقة رجعت إلى حوالى 15% منها).
لقد أعد عبدالرحمن بك فهمى مخطوطاً أو مذكراته فى 4640 صفحة بخط يده اعتبرها المؤرخ يونان لبيب رزق يوميات مصر السياسية وحققها باقتدار ومن بعده حمادة إسماعيل والباحثون معهما وأصدرتها هيئة دار الكتب فى أكثر من طبعة آخرها طبعة جزء 7 (2015)، طبعة مميزة وفاخرة. وقد هاجم أ.د. عبدالعظيم رمضان عبدالرحمن فهمى فى تقديمه الجزء الثانى وجانبه الصواب، لأنه قدم بنفسه الدليل على عدم صوابه!!
وقد قال عبدالرحمن فهمى فى مذكراته إن الثورة (...... ليست كما قال كبير كبراء الإنجليز «كشعلة تطفئها بصقة»، أما الحقيقة فهى أن التى كانت تضرم فى نفوس الأمة المصرية قبل عام 1914 لم يخمد أوارها بل بقى خلل الرماد) «مذكرات عبدالرحمن فهمى ص 10». إذن حسب عبدالرحمن، فإن الثورة مشتعلة بالفعل فى نفوس المصريين وهو - بمساعدة معاونيه- أخرجها للعلن. وأثناء الاحتلال الإنجليزى يصعب إثارة وقيادة المصريين إلا من رجل قوى صلب شديد البأس والتحمل كان هو عبدالرحمن فهمى، المولود فى ١ مارس 1871، الذى نشأ وتربى تربية عسكرية قوية فيها كفاح ورجولة وانضباط بدأها بالتحاقه بالمدرسة الحربية، وهو لم يبلغ بعد الخامسة عشرة من عمره، وتخرج منها فى السابعة عشرة، وبعد أقل من عام حارب معركة الدراويش فى السودان وجُرح بضربة سيف شديدة. ثم ترقى وأصبح ياوراً لناظر الحربية مصطفى فهمى (حما سعد زغلول فيما بعد) وهو 22 عاما. ولكفاءته وقدراته رغبت وزارة الداخلية الاستفادة من إمكانياته فنقل إليها من الجيش سنة 1896، وهو فى الرابعة والعشرين من عمره، (ولم يستقل كما جاء فى الجزء 7 من مذكراته المنشورة ص 6). وأصبح مأموراً لعدد من مراكز البوليس فى الصعيد والجيزة ثم استدعاه المستر متشل – مستشار الداخلية أعلى سلطة فيها – وهو مأمور مركز إمبابة للتوجه فى نفس اليوم (1/4/1902) مأموراً لمركز طنطا الذى أعتٌقل مأموره وأحمد المنشاوى باشا لاتهامهما بتعذيب بعض المتهمين، وخشى متشل من حدوث اضطرابات فلم يجد إلا عبدالرحمن لإمكانه التصدى أو منع هذه الاضطرابات والحمد لله مرت الفترة بسلام (المفكرة الشخصية لعبدالرحمن). وتنقل عبدالرحمن بين عدة مديريات فى عدة مدن وكيلا ثم مديراً فى جنوب مصر والدلتا حتى عٌين مديراً للجيزة حيث اصطدم بالإنجليز فشكلوا لجنة لفحص الأوراق التى وقّع عليها فى فترة معينة (3000 مستند) فلم يجدوا عليه خطأً واحداً (مراد فهمى نجله وزير الأشغال الأسبق). ثم أصبح وكيلاً لعموم الأوقاف، حيث اصطدم بالخديو إذ علم أنه يرغب فى إتمام صفقة على أرض فى جهة المطاعنة طرفها شقيق وزير الأوقاف (الذى كان خارج البلاد) فإن تمت ستخسر الأوقاف خسارة كبيرة وأموالها أموال يتامى فرفض الصفقة فأحاله الخديو للمعاش وعمره 42 عاماً.
شكت السلطة المستعمرة بأن عبدالرحمن فهمى- لمعرفتها به- هو قائد ومحرك هذه الثورة ولكنه أيضاً مفكر ومنفذ مقاطعة لجنة اللورد ملنر، التى بالفعل نجح فى إتمامها مع أعوانه من الطلبة والشباب وأحكم الشعب مقاطعته للجنة. وكان عبدالرحمن يوجه رجاله بالتعليمات إلى أنحاء مصر «أرسلنا أناساً مخصوصين للإرشاد..»، «من أوفدناهم إلى الإسكندرية لهذا الغرض....»، (كتابى عبدالرحمن لسعد زغلول باشا فى 14/1، 17/1/1920 على التوالى).
«اذهب إلى سعد باشا واسأله» عبارة طلب عبدالرحمن من معاونيه إبلاغ المصريين بالرد بها على أى سؤال من إنجليزى وانتشرت بين الناس، حتى إنه فى سياحة اللورد ملنر فى مركز الصف جيزة سأل إنجليزى فلاحاً «أتزرع قمحاً أم شعيراً؟»، رد عليه اسأل سعد باشا (كتاب عبدالرحمن لسعد 18/2/ 1920).
ويتبادل وزير الخارجية البريطانى ايرل كيرزون Earl Curzon والمندوب السامى الفيلد مارشال فيسكونت اللنبى Allenby وأحيانا المستر سكوت Mr. Scott، برقيات سرية فى شأن الموضوعات والأحداث فى مصر أو لندن وباريس نعرض بعضها فى الفترة يوليو 1920 (يوم القبض على عبدالرحمن فهمى) إلى أكتوبر 1920 (إيرل هو لقب أعلى من فيسكونت وأقل من مركيز وسنترك الألقاب جانباً). ويعتبر كيرزون هو الموجه للأمور والمتابع لها فى سرية. وأحيانا يطلب منه اللنبى الموافقة، خاصة بالنسبة لتفتيش منزل عبدالرحمن لمحاولة إيجاد دليل يدينه فى الاتهام الذى يهدفون إليه ويؤدى إلى إعدامه (المنزل هو فيلا عليها حالياً لافته «دار الأدباء» بصفة مؤقتة وكان عليها لافتة «دار عبدالرحمن فهمى»، وكانت خطط التصدى للإنجليز وأعداء استقلال مصر التام يضعها عبدالرحمن وينفذها أعوانه من هذه الفيلا).
أعتُقل عبدالرحمن فهمى يوم 1/7 /1920 فأرسل كيرزون للنبى هذه المعلومات فى برقيته السرية 595 فى نفس يوم الاعتقال «عبدالرحمن فهمى... اقترح أن يتم تفتيش منزله إذا لم تكن هناك أدلة كافية تدينه بطريقة أُخرى». لكن اللنبى أرسل لكيرزون برقيته رقم 648 فى اليوم التالى «عبدالرحمن فهمى تم اعتقاله، فجر أمس، وإن السلطات القانونية أخطرتنى بأن هناك أدلة كافية سيتم الحصول عليها قريياً لكى تتم إدانته دون الحاجة إلى تفتيش منزله، ولكن سيتم التفتيش إن كان ضرورياً. وقد تم تشميع منزله.... وفهمت وجهة نظرك فى التلغراف 598...... ».
إذن كيرزون عرف قبل اللنبى باعتقال عبدالرحمن فهمى وغالباً هو الذى أصدر أوامره بالاعتقال. كما أرسل كيرزون أيضاً للنبى فى نفس اليوم برقيته الخطيرة جداً (ورد عليه عنها اللنبى) رقم 598 «عبد الرحمن فهمى.... زغلول وشركاؤه مستاؤون من الاعتقال. يعتقد اللورد ملنر أن المحادثات قد يكون فيها تحيز إذا تم الادعاء بأن الاعتقال ضربة سياسية موجهة ضده وغير ذلك فإنه لا يهمه التخلص من هذا الشخص (المقصود عبدالرحمن). وخشى كيرزون أن يكون اللنبى قد نسى مضمون هذه البرقية فأرسل له يوم 19/7/1920 البرقية رقم 665 يذكره»...... هذا نص تلغراف يوم 17/7 الموجه إلى اللورد ملنر من زغلول عن الإجراءات ضد عبدالرحمن. وليس لدى وسائل للحكم عن ماهية الحقيقة فيما جاء بتلك التصريحات أو الاستنتاجات المبنية عليها ولا يكون من الصواب أن نرجع من هنا إلى التفصيلات المتصلة بسير القضية. ونحن راضون جدأ بأنك تضع فى ذهنك دائماً مضمون برقيتى رقم 598».
وقد أرسل اللنبى لكيرزون برقيته رقم 718 فى 17/7/1920 عن الأدلة وتفتيش المنزل «...السلطات القانونية تستعجل السلطة لكى تفتش منزل عبدالرحمن. هل توافق؟»، «سرى جداً يرى الادعاء أن القضية جيدة جداً لكن ليس لديه أدله مستندية ضد عبدالرحمن وهم شغوفون للحصول على أدلة produce».
تبين برقية اللنبى لكيرزون المؤرخة 5/7/1920 برقم 659 أن «عبد الرحمن فهمى والخمسين الآخرين سيتم اتهامهم بالاشتراك فى مؤامرة لقلب نظام الحكم (الحكومة) بوسائل تشمل توزيع منشورات مطبوعة لقتل عظمة السلطان ووزرائه وآخرين وتوزيع اسلحة نارية فى جميع أنحاء البلاد ومحاولة اغتيال الوزراء...... الأدلة ضد عبدالرحمن هى كما يلى: الأوراق التى ضبطت فى منزل رئيس جمعية الانتقام/ أهداف الجمعية..... /الاغتيال بإلقاء القنابل /وجود أسماء أعضاء الجمعية ليس فيهم رحمن.
أول اسم فى قائمة أعضاء الجمعية مختص بطبع المنشورات.... رحمن أعطاه أموال... رحمن هو المحرك الرئيسى فى تأسيس الجمعية... المناقشات تدور فى منزل رحمن وفى حضوره.... قال رحمن إن اللجنة المصرية لا فائدة منها.
إذن المؤامرة من الإنجليز ضد عبدالرحمن وليست منه ضد الخديو والحكومة، رغم أن عبدالرحمن يعتبرهم موظفين. ففى زيارة الجنرال الشرس جون مكسويل - قائد الجيش البريطانى إلى مصر وعضو لجنة ملنر ثم المدعى العام العسكرى فى قضية عبدالرحمن فهمى والآخرين- لعبدالرحمن فى منزله (وهو المكان الوحيد فى مصر الذى أمكن للجنرال أن يتكلم عن التفاوض فيه بعد المقاطعة)، قال له عبدالرحمن «الخديو والنظار موظفون عينهم وزير خارجيتكم... لا ينوبون عن الأمة..... تفاوضون الأمة بطريقتين: أما أن تأخذوا أقوال الأربعة عشرة ملايين مصرى... وأما تخاطبوا الوفد.....».
إذا كانت السلطة المحتلة ترى أنها مؤامرة فلماذا وكأجراء بوليسى وقانونى وأمنى معتاد، لم تقبض على زغلول فهو رئيس الوفد المفاوض وعلى محمود باشا سليمان؟ إن العكس هو الصحيح إذ تعاملت السلطة مع زغلول بكل لطف وإجراء غير معتاد، فإذا تم تفتيش منزل عبدالرحمن 1- يكون فى حضور عضوين من لجنة زغلول (أى اللجنة المركزية للوفد) وأنه 2- لن يتم التعرض لأوراق اللجنة، ولكن ستضبط الأوراق المهمة للقضية فقط (رقم 728 من اللنبى لكيرزون 18 يوليو 1920 ورقم 667 بتاريخ 19/7 من كيرزون للنبى رداً عليه بنفس المضمون !!) أى أنه لا يوجد عدو للإنجليز سوى عبدالرحمن فهمى الذى كتب مذكراته هذه ليتبين جانباً من أعماله فهناك الجانب السرى الجارى التفتيش فيه. رحمه الله ورحم الجميع.