جاءت الجولة التي قام بها مؤخرا وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في الشرق الأوسط وشملت عدة دول، مصر والعراق والأردن و5 دول خليجية، على خلفية مجموعة من الأزمات التي تعانى منها الإدارة الأمريكية مع الكونجرس الذي اكتسحته أغلبية ديمقراطية في الانتخابات النصفية، تمثلت في رفضها تمويل الجدار الذي يريد الرئيس ترامب أن يبنيه على الحدود مع المكسيك، وتمسكت بموقفها حينما فرض ترامب على الحكومة إغلاق مستمر، هو الأطول والأكثر كلفة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
وثمة أزمة ثقة داخلية تطال ترامب حيث تلاحقه شبهة التخابر مع روسيا لإنجاح حملته الانتخابية، ولا تنفك دائرة الاتهام تضيق من حوله كل يوم مع قرب اكتمال أوراق المحقق الفيدرالي روبرت مولر، وإدانة المقربين من الرئيس الواحد تلو الآخر، وتعالت دعوات عزله على ألسنة نواب.
ناهيك عن التداعيات التي ترتبت على قرار الرئيس ترامب سحب قواته من سوريا، من استقالة وزير الدفاع، وانزعاج إسرائيل من هذا القرار ثم عدول ترامب بأن الانسحاب سيتم خلال ثلاثة شهور، هذه القرارات بدت فيها أمريكا وكأنها تتخلى عن حلفائها التقليديين، وبدا فيها الانسحاب العسكري وكأنه إقرار بصحة الرؤية الانسحابية التي اعتنقها أوباما في الشرق الأوسط، بما يوحي بأن منطقة الشرق الأوسط لم تعد ذات أولوية في السياسة الأمريكية، الأمر الذي أثار حفيظة حلفاء الولايات المتحدة المنطقة ودعوتها للعدول عنها، وبالتالي جاء خطاب بومبيو في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ليؤكد أن ترامب ليس أوباما.
«الاستراتيجية الأمريكية»
يبدو أن «استراتيجية الأمن القومي» التي أطلقها الرئيس ترامب أثارت تساؤلات كثيرة حول كيفية قيادة إدارته للسياسة الخارجية، والمضمون الجوهري للانخراط العالمي الأمريكي، وماهية الأدوات والسياسات العامة التي ستستخدم لتعزيز هذه الرؤية.
فـ «استراتيجية الأمن القومي» الجديدة التي تبناها ترامب تضيف نظرة عالميةًً لما كانت الولايات المتحدة تقوم به منذ عام 1940، مع التشديد على الصحة الاقتصادية والمنافسة والقوة العسكرية الأمريكية أكثر من الإدارات السابقة، فترامب لا يريد تحميل الولايات المتحدة أي أعباء مادية أو عسكرية في الدفاع عن الحلفاء ويكتفي بما يعرف بفكرة القيادة من وراء الكواليس، ومشاركة الجميع في تحمل الكلفة المالية والبشرية لأي خطط جديدة رغم أن الأمر لا يقتصر على تحقق مصالح الحلفاء فقط، بل يتضمن تحقق المصالح الاستراتيجية الأمريكية، بحكم ما لمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط من أهمية استراتيجية لا غنى عنها ضمن حسابات صانعي القرار الأمريكي.
وقد عكست زيارة بومبيو للمنطقة نفس أهداف الاستراتيجية الأمريكية، وحملت خطاباته وتصريحات خلال الزيارة ذات المضامين، ومنها مواجهة الخطر الإيراني، فمحاصرة إيران كان هو الأساس الثابت في السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، دون إخراجها من سوريا، وإضعاف نفوذها في العراق، وتحديها في لبنان، واستخدام سلاح الجو الإسرائيلي للضغط عليها، ومنع تركيا من الانفتاح عليها.
ووفقاً لكثير من المحللين، فإن مهمة بومبيو قد حققت نجاحات على مستوى عدد من الملفات، يأتي في مقدمتها الملف الإيراني، فجهود بومبيو تكاد تصل إلى مرحلة غير مسبوقة في ترتيباتها ضد إيران، بعد دعوته لعقد مؤتمر دولي في بولندا منتصف الشهر المقبل، هدفه بناء تحالف دولي ضخم ضد إيران والضغط عليها بإشراك أكثر من 70 حكومة.
ومن هنا جاء تحذير بومبيو من أن «طموحات إيران لا تقتصر على الشرق الأوسط»، ودعا كل الدول للتعاون من أجل التصدي للنهج الإيراني التوسعي، والأرجح أن هذه رسالة موجهة بالأساس إلى الشركاء الأطلسيين في الاتحاد الأوروبي، الذين يمتلكون رؤية مغايرة للتعاطي مع المشروع التوسعي الإيراني، وهناك خلاف حاد بينهم وبين الولايات المتحدة حول الاتفاق النووي الموقع مع إيران، والذي انسحبت إدارة ترامب منه بشكل فردي بينما لا زالت بقية الدول الموقعة على موقفها حياله، ويكافح الاتحاد الأوروبي بالذات لمنح الاتفاق قبلة الحياة.
كانت إيران تظن بأن الجهود الأمريكية مصيرها الفشل؛ لأن كل شركاء واشنطن رفضوا الانضمام إليها في إعادة العقوبات، واعتقد الرئيس الإيراني حسن روحاني أن واشنطن صارت وحيدة ومعزولة في التعامل مع إيران، ولم تفلح المهادنة الأوروبية مع النظام الإيراني، ولا تبريرات بروكسل في استمرارها في تطبيق الاتفاق النووي مع إيران، فالنظام في طهران لم يتغير، لا يزال نظاماً شريراً خطيراً على العالم وليس فقط على ملفات الشرق الأوسط.
ولذا تضمن خطاب بومبيو آليات مقترحة لتنفيذ ما تضمنه من أهداف استراتيجية، منها إقامة تحالف استراتيجي، حيث قال بومبيو بصراحة أولا: «إن إدارة الرئيس دونالد ترامب، تريد تأسيس حلف استراتيجي شرق أوسطي، لمجابهة أكبر خطر في المنطقة»يقصد إيران«، ولتعزيز التعاون في الطاقة والاقتصاد». وأضاف بومبيو قائلاً: «واليوم نحن نطلب من كل دولة من هذه الدول اتخاذ الخطوة التالية ومساعدتنا على تمتين التحالف الاستراتيجي الشرق أوسطي».
كما تضمن خطاب بومبيو أيضاً تحذيراً لحزب الله اللبناني، مفاده أن الولايات المتحدة لن تسمح باستمرار وضعه العسكري على ما هو عليه، وتحديداً ما يتعلق بقيامه بنشر صواريخ موجهة بصورة مباشرة إلى إسرائيل.
ثاني الملفات التي جسدت الاستراتيجية الأمريكية هو تأكيد الالتزام الأمريكي بمحاربة الإرهاب، وأن الانسحاب الأمريكي من سوريا لن يؤثر في الجهود الأمريكية على هذا الصعيد، وهو تكرار لما قاله الرئيس ترامب خلال زيارته للقوات الأمريكية في العراق خلال أعياد الميلاد، حيث أشار ترامب إلى أن الوجود العسكري الأمريكي بالعراق يمكن أن يكمل مهمة القوات الأمريكية في سوريا بعد سحبها في حال وجود حاجة لذلك.
وبعبارة أخرى، ثمة إمكانية لتوجيه ضربات جوية ضد الإرهاب انطلاقاً من الأراضي العراقية، والجديد هنا أن بومبيو ألمح إلى إمكانية تكرار الضربات الصاروخية ضد الجيش السوري في حال تكرار استخدام الأسلحة الكيماوية- على حد تعبير الوزير- حيث أشار إلى أن ترامب سبق أن أمر بشن ضربات على مواقع الجيش السوري على خلفية ما وصفه باستخدام الأسلحة، مؤكداً أن «ترامب مستعد لتنفيذ عمليات عسكرية في سوريا مرة أخرى، لكننا نأمل في ألا يضطر للقيام بذلك»؛ ما يعني أن تمسك إدارة ترامب بسحب القوات يتوازي مع تمسكها بمهمة اجتثاث «داعش».
الجدير بالذكر أن تقرير «مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2018» الذي أصدره معهد الاقتصاد والسلام في ديسمبر ٢٠١٨، والذي يرصد أبرز الاتجاهات العالمية والإقليمية للتهديدات الإرهابية وتطوراتها خلال عام، أشار إلى أن التنظيمات الإرهابية ذات الانتماء الديني، مثل تنظيمَيْ «داعش» و«القاعدة»، كانا من التنظيمات الأكثر حضوراً في المنظومة الإرهابية خلال عام 2017، حيث كان هناك أربعة تنظيمات أساسية مسئولة عن النسبة الأكبر من ضحايا الإرهاب، هي: تنظيم «داعش»، حركة «طالبان»، حركة «الشباب المجاهدين» الصومالية، جماعة «بوكو حرام». وتلك التنظيمات مسئولة عن مقتل 10632 شخصا، ما يمثل 56.5% من مجموع قتلى الإرهاب خلال عام 2017.
استمرار أم تغيير؟
كشف حصاد جولة بومبيو الشرق أوسطية، أن الملفات والقضايا التي تضمنها خطابه وتصريحاته ولقاءاته، هي تجسيد واستمرار حقيقي لاستراتيجية ترامب للأمن القومي الأمريكي واستراتيجيتها في الشرق الأوسط، وفي ذات الوقت تكشف عن تغير جوهري في الرؤية والاستراتيجية لإدارة ترامب عن غيره من الإدارات الأمريكية السابقة.
فإذا كانت إدارة أوباما أصدرت وثيقتين مختلفتين تماماً حول «استراتيجية الأمن القومي» في عامي 2010 و2015، لكنها حافظت على اللهجة التالية في كلتيهما لوصف المصالح الوطنية الأمريكية الأساسية: «نظام دولي قائم على القواعد تقدّمه القيادة الأمريكية لتعزيز السلام والأمن والفرص عبر التعاون الأقوى لمواجهة التحديات العالمية».
في حين لم تتضمن نسخة ترامب للرؤية والاستراتيجية شيئا من هذا، ويقول مسؤولو الإدارة الأمريكية إن لهجة «التعاون مع المعاملة بالمثل» تشير ضمناً إلى الولاء للنظام العالَمي، لكنّها ليست مساوية له.
وبالتالي، لا تبدو الرؤية لـ «استراتيجية الأمن القومي» الترامبية الجديدة كنظرة عالمية انعزالية أو دولية، إنما كنظرة عالمية توحي بحقبة القوى العظمى، إذ تؤكد هذه الرؤية أن «المنافسة على القوة هي استمرارية أساسية في التاريخ والفترة الزمنية الحالية ليست مختلفة»، فلا يجب تجاهل الدبلوماسية، لكن لا بد من إعادة هيكلتها «لخوض المنافسة في البيئة الراهنة واعتناق تفكير تنافسي».
وكذلك الاحتفاء بـ«النفوذ الأمريكي في العالَم كقوة إيجابية لتحقيق السلام والازدهار وتطوير مجتمعات ناجحة» والتأكيد على إقامة علاقات شراكة مع «أولئك الذين يشاركوننا تطلعاتنا للحرية والازدهار» وهو ما يفيد بأن «الحلفاء والشركاء يشكلون قوة كبيرة للولايات المتحدة».
يبقى القول أن حصاد جولة بومبيو أكدت سعي واشنطن لاستعادة العلاقات مع الحلفاء التقليدين بالمنطقة، وبث رسالة طمأنة باستمرار الدور الأمريكي، من أجل بناء حائط لمواجهة تدخلات إيران وتركيا بالمنطقة.