في الوقت الذي كان فيه الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، يقف في درجة حرارة تقرب من الصفر، ليلقي كلمته التاريخية في الاحتفال بافتتاح كاتدرائية «ميلاد المسيح» في العاصمة الإدارية الجديدة، في مشهد ربما تنفرد به مصر وحدها من بين سائر بلدان العالم، فإن الكثيرين ربما لا يعرفون أن أمس الأحد، الموافق السادس من يناير، هو يوم مولد ذلك العالم الأزهري الجليل، الذي أكمل عامه الثالث والسبعين، لكنه وبدلا من أن يتلقى التهاني والهدايا بتلك المناسبة، فإنه فضل بشخصيته العلمية الرصينة وبطبعه المجافي للمظاهر والبهرجة، أن يقدم هو لمصر وللعالم هدية قيمة، فكلمته القصيرة والمرتجلة أمس، هي أشبه بوثيقة تشهد بعظمة الإسلام وشريعته السمحاء، ولروح المحبة والأخوية الراسخة بين أبناء مصر، وللأزهر الشريف ومنهجه الوسطي المعتدل وشيوخه الأجلاء.
ولد الدكتور أحمد محمد أحمد الطيب، في 6 يناير عام 1946 «73 عاما» بقرية تحتضنها جبال البر الغربي بالأقصر إحدى محافظات صعيد مصر، في بيت اشتهر بالزهد والتصوف، حيث يتصل نسبه بالحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنهمان وقد الحقه والده بالتعليم الأزهري فتربى منذ نعومة أظافره على منهج الوسطية والاعتدال والتعدد، حتى تخرج بتفوق من قسم العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين عام 1969، ثم تدرج في السلم الأكاديمي حتى حصل على درجة الأستاذية عام 1988.
انتدب الطيب عميدًا لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بمحافظة قنا عام 1990، ثم عميدًا لكلية الدراسات الإسلامية بنين بأسوان عام 1995م، وفي عام 1999 عُيِّن فضيلته عميدًا لكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية العالمية بباكستان، وأهلته مكانته وإنجازاته العلمية لأن يقود أهم المؤسسات الدينية والعلمية، فتم تعيينه مفتيا للديار المصرية في مارس من العام 2002، ثم رئيسًا لجامعة الأزهر في عام 2003، وفي التاسع عشر من مارس عام 2010 كان الأزهر على أعتاب مرحلة جديدة من التطوير والتجديد بتعيين فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخًا للأزهر الشريف.
عمل الإمام الأكبر على إعادة الأزهر لمكانته في مصر والعالم، فأعاد إحياء هيئة كبار العلماء بعد حلها عام 1961، واستصدر قانونا عام 2012 ألغى به تبعية الأزهر وأصبح اختيار شيخه بالانتخاب بعد أن كان بالتعيين منذ عام 1960، وحقق استقلال الأزهر في الدستور المصري لأول مرة، كما تصدى فضيلته لمحاولات السيطرة على الأزهر من قبل فصيل بعينه حاول فرض هيمنته على المؤسسات الوطنية للدولة المصرية.
آمن الإمام الأكبر أن استعادة الأزهر لمكانته لا يكتمل إلا بتفعيل دوره الوطني، ففتح أبواب الأزهر أمام جميع المصريين مسلمين ومسيحيين، وانشأ بيت العائلة، ليضم في عضويته الكنائس المصرية إلى جانب الأزهر الشريف، وليمثل خطوة حقيقية نحو ترسيخ الوحدة الوطنية بين شركاء الوطن، كما استطاع فضيلته أن يجمع أطياف الشعب المصري ومفكريه تحت قبة الأزهر لإصدار وثائق الأزهر التاريخية، التي كانت بمثابة بوصلة للمصريين في وقت تعالت فيه أصوات الفرقة والاختلاف.
حركة التطوير والتجديد في الأزهر، ما كانت لتؤتي ثمارها بدون أن تطال جذوره وأصوله في الجامع الأزهر، الذي شهد في عهد الإمام الطيب أوسع وأكبر عملية ترميم وتطوير على مر تاريخه الذي جاوز الألف عام.. كما استعاد الجامع الأزهر ريادته ودوره التعليمي والدعوي من خلال احياء نظام الأروقة بأسلوب عصري يعتمد على سياسة التواصل الثقافي والاجتماعي والاعلامي مع المصريين وغير المصريين بعدة لغات.
وتأكيدا على الدور الاجتماعي للأزهر الشريف، فقد عايش شيخ الأزهر الفقراء، وخالطهم ولم يكن أبدأ بعيدا عن آلامهم بل كانوا دائمًا في مقدمة أولوياته فأنشأ بيت الزكاة والصدقات المصرى مرددا مقولته الشهيرة «أنا رجل بسيط أحب الفقراء وأعيش دائماً بينهم»، كما شهدت القوافل الطبية
والإغاثية في عهده توسعا غير مسبوق، مشددا على ضرورة تضافر الدور الدعوي للأزهر مع دوره الإنساني والاجتماعي، وأن يعايش أبناءه هموم ومشكلات الواقع، بحيث يتكامل القول الطيب مع الفعل الجميل.
على الصعيد الدولي، كان العالم شاهدًا على استعادة الأزهر دوره الريادي، فساند الأزهر الشريف الضعفاء والمضطهدين في كل مكان ودافع عن قضايا الأمة، كما لم يقف الإمام الأكبر صامتًا أمام ما يشهده العالم الإسلامي من قلاقل وإضطرابات فعمل من خلال رئاسته لمجلس حكماء المسلمين على إطفاء حرائق الأمة وإصلاح ذات البين ونشر السلام بين كل المجتمعات.
وعندما وقف العالم متفرجا وعاجزا عن وقف مأساة مسلمي الروهينجا في ميانمار.. خرج الإمام الأكبر ليعلن في بيان تاريخي للمجتمع الدولي أن تلك المأساة المروعة ما كانت لتحدث لولا أن الضمير العالمي قد مات.. كما قرر فضيلته إرسال قافلة مساعدات إنسانية وإغاثية إلى مخيمات مسلمي الروهينجا اللاجئين في بنجلاديش المجاورة.
وكعادته في إقران الكلمات بالأفعال.. توجه الإمام الأكبر إلى قرية الروضة في قلب سيناء، بعد أقل من أسبوع على الهجوم الإرهابي الغادر الذي استهدف مسجد القرية، مخلفا أكثر من ثلاثمائة شهيد، ليؤكد من هناك أن الأزهر، برجاله ونسائه، يقف في خط المواجهة الأول ضد جماعات الإرهاب، التي تبتغي الفساد في الأرض وتهلك الحرث والنسل.
ولم يكتف الدكتور أحمد الطيب بإعلان موقفه من القضايا العالمية وفي مقدمتها الإرهاب، بل انطلق بنفسه يجوب العالم في جولات خارجية يوضح سماحة الإسلام، وبراءته من ممارسات التنظيمات الإرهابية، ويمد جسور الحوار والتفاهم والسلام مع مختلف الشعوب والثقافات، ويؤكد أن الأديان ما جاءت إلا لإسعاد البشر، فكانت جولاته شرقا وغربا بدءا من إيطاليا ومرورا ببريطانيا وإندونيسيا وألمانيا ونيجيريا وفرنسا لتأسيس لحوار فعال وبناء بين الشرق والغرب، كما مثلت الزيارات واللقاءات المتبادلة بين الإمام الطيب والبابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، بعد انقطاع دام لسنوات، حدثًا تاريخيا فتح باب الحوار بين أكبر مؤسستين دينتين في العالم وأعاد الأمل في تحقيق مستقبل أفضل للبشرية جمعاء.
جهود الإمام الأكبر كانت ولا تزال محط أنظار العالم أفرادًا ودولًا ومؤسسات، التي سارعت إلى منح جوائزها التقديرية له اعترافا بجهوده وتقديرا لدور فضيلته في نشر ثقافة التسامح والسلام، فمنحه جلالة الملك عبدالله الثاني ملك المملكة الأردنية الهاشمية وسام الاستقلال من الدرجة الأولى، كما منحه سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات، وحاكم دبي جائزة الشخصية الإسلامية. كما حصل فضيلته أيضًا على جائزة شخصية العامِ الإسلامية لخدمة القرآن الكريمِ بدبي، وجائزة شخصية العام الثقافية الإماراتية، كما اختير شخصية العام من دولة الكويت لعام 2015، وحاز وسام الكويت ذو الوشاح من الدرجة الممتازة من سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت، في يناير 2016.