من المتوقع أن يشهد عام 2019 قدْرًا أكبر من السياسات التنافسية بين القوى الكبرى فى العالم، لا سيما بين الولايات المتحدة وروسيا والصين. وسينبع ذلك فى المقام الأول من الرؤية التى بلورتها إدارة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» خلال عام 2018، وتم التعبير عنها فى العديد من الوثائق، وأهمها استراتيجية الأمن القومى الأمريكى، التى تنظر للبيئة الدولية على أنها بيئة تنافسية بالأساس؛ إذ تشير إلى عودة ظاهرة «المنافسة بين القوى الكبرى»، وتصف الصين وروسيا بأنهما دولتان تسعيان إلى مراجعة وإعادة صياغة النظام الدولى الحالى Revisionist Powers، وتشكيل عالم معارض لمصالح وقيم الولايات المتحدة.
ورغم تباين الأهمية النسبية لإقليم الشرق الأوسط بالنسبة للقوى الكبرى، فسيظل مركزًا لعددٍ من المصالح الأساسية لهذه القوى، خاصة الولايات المتحدة. كما يبرز الإقليم أيضًا باعتباره مسرحًا لكلٍّ من الصين وروسيا لإدارة كلٍّ منهما عمليةَ «صعود» و«انتقال» ممنهجة، فى مواجهة الولايات المتحدة. ومن ثم، يتوقع أن يشهد عام 2019 قدرًا من التنافس بين القوى الكبرى فى منطقة الشرق الأوسط، لكنه سوف يكون أقل من التنافس بينها فى مناطق أخرى، مثل آسيا وأفريقيا وأوروبا، نتيجة تباين حجم مصالح كل من هذه الدول فى المنطقة وأدوات تحقيق هذه المصالح. كما قد يشهد الشرق الأوسط نشاطًا أكبر لهذه الدول فى إطار عددٍ من المبادرات الجديدة.
أولًا- أولويات أمريكية متباينة: إذ يتوقع أن تعطى الولايات المتحدة، خلال عام 2019، أولوية للملف الإيرانى فى إطار سياساتها تجاه منطقة الشرق الأوسط، حيث قد تتجه إلى تصعيد سياسات العقوبات الاقتصادية تجاهها، بحيث لن تستهدف فقط البرنامج النووى الإيرانى، بل أيضًا الدور الإيرانى المزعزع للاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، وبرنامجها للصواريخ الباليستية.
فى المقابل، وبرغم استمرار الاهتمام الأمريكى خلال عام 2019 فى قضية مكافحة الإرهاب فى الشرق الأوسط، فمن المتوقع انخفاض هذا الاهتمام تدريجيًّا، فى ظل ندرة العمليات الإرهابية بالداخل الأمريكى، والاعتقاد بأنه تمت هزيمة «داعش» بعد طرد التنظيم من غالبية الأراضى التى كان يُسيطر عليها فى العراق وسوريا، وهو ما عبر عنه إعلان البيت الأبيض فى ديسمبر 2018 بدء سحب قوات أمريكية من سوريا.
فى الوقت نفسه، من المتوقع أن تطرح الإدارة الأمريكية رؤيتها لخطة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والمعروفة إعلاميًّا بـ«صفقة القرن»، وقد يعوّل الأمريكيون على مساعدة الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة فى إقناع وتشجيع الفلسطينيين على التفاوض بشأن الأفكار التى سترد فى هذه المبادرة، وعدم رفضها من البداية.
كما قد تتجه الولايات المتحدة فى العام الجديد إلى تشجيع مبادرات وجهود التسوية السلمية للأزمات فى اليمن وسوريا، وقد تنسق فى ذلك مع القوى الكبرى الأخرى فى إطار تسوية هاتين الأزمتين. كذلك سوف تستمر الإدارة الأمريكية فى الطلب من حلفائها فى المنطقة، خاصة الدول الغنية، بتحمل أعباء التكلفة المالية المتعلقة بقضايا المنطقة، سواء ما يتعلق بإعادة تنمية الأراضى الفلسطينية، أو إعادة الإعمار فى سوريا واليمن.
وعلى صعيد الداخل الأمريكى، فقد ينشط الكونجرس خلال العام الجديد، خاصة مجلس النواب الذى سيسيطر عليه الحزب الديمقراطى، فى الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، والسعى إلى تبنى تشريعات تربط التعاون الاقتصادى والعسكرى مع دول المنطقة بمشروطية سياسية. فى المقابل، فإن المرجّح هو استمرار إدارة الرئيس «ترامب» فى التأكيد على مصالح الولايات المتحدة مع حلفائها فى المنطقة فى إطار استراتيجية «أمريكا أولًا». كما سيشهد عام 2019، استمرار الجدل الأمريكى داخل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية حول الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، وجدوى العلاقة مع الحلفاء الرئيسيين فى المنطقة العربية. وإزاء ملامح السياسة الأمريكية المتوقعة فى العام الجديد، فمن المتوقع أن تستمر دول الشرق الأوسط فى تعزيز العلاقات مع قوى كبرى مثل روسيا والصين، بسبب ضعف مصداقية واشنطن كحليف لهذه الدول.
ثانيًا- انخراط صينى حذر: حيث تتركز المصالح الصينية بالشرق الأوسط فى ثلاث مصالح أساسية. الأولى هى تأمين تدفق الواردات الصينية من النفط، حيث يظل الإقليم مسؤولًا عن توفير حوالى 44% من هذه الواردات (2017).
والثانية هى تأمين النفاذ إلى أسواق الإقليم. لكن قد تأخذ هذه المصلحة بُعدًا مختلفًا خلال عام 2019، يتمثل فى ضمان حصة أكبر للاستثمارات والشركات الصينية، كجزء من المراجعة لمصادر النمو الاقتصادى فى اتجاه الاعتماد على الطلب الخارجى والاستثمارات الخارجية. من ثم، يُتوقع أن يشهد الإقليم مزيدًا من تدفق الاستثمارات الصينية، خاصة فى اتجاه الدول الأكثر استقرارًا، وسعيًا لتأمين حصة بكين فى عمليات إعادة الإعمار فى حالة حدوث تحولات مهمة فى سوريا واليمن وليبيا.
أما المصلحة الثالثة، فهى توظيف الإقليم كساحة لتأكيد حضور الصين الدولى فى إطار إدارة عملية التحول والانتقال الجارية. وتأتى أهمية الشرق الأوسط هنا كونه مثّل تاريخيًّا- ولا يزال- إحدى الساحات الأساسية الكاشفة عن التحولات الجارية فى هيكل النظام العالمى.
لكن مع أهمية هذه المصالح، فليس من المتوقع تبنى الصين مواقف حادة بشأن القضايا أو الأزمات الإقليمية القائمة، امتدادًا لسياسة حذرة تقضى بعدم الدخول فى مواجهات أو صراعات حادة مع الولايات المتحدة لم يحن وقتها بعد، وتجنب حدوث تصعيد أمريكى فى ملفات أخرى أكثر أهمية بالنسبة للصين (تايوان، بحر الصين الجنوبى، الحرب التجارية، كوريا الشمالية).
بمعنى أن أى تصعيد أو مواجهات عسكرية ضد أى من شركاء/ أصدقاء الصين فى الشرق الأوسط خلال عام 2019، قد لا يستتبعه أى تدخل صينى، فما زال توجه بكين فى التعامل مع الإقليم، كساحة لتأكيد تحولها إلى «قوة عالمية»، يقتصر على استخدام الأدوات السياسية غير المكلفة، وعدم اللجوء إلى أداة «التحالفات»، كما أن استخدام الأداة العسكرية لا يزال محصورًا فى إطار محدد لن ينتقل خلال عام 2019، أو على المدى القريب، إلى الوجود العسكرى الصينى المباشر.
لذلك، ليس متوقعًا أن يشهد عام 2019 تغيرًا نوعيًّا فى الأدوات الصينية المستخدمة فى الإقليم، وسيقتصر الأمر- فى الأغلب- على التوسع فى استخدام الأدوات الاقتصادية.
ثالثًا- دور روسى متصاعد: كما هو الحال بالنسبة للصين، لا تخرج المصالح الروسية فى الإقليم عن المصالح الثلاث المتعلقة بالطاقة، واستخدام الإقليم كساحة لإدارة عملية الصعود والانتقال، والمصالح الاقتصادية. ويأتى التوظيف الروسى للإقليم كساحة مهمة- بجانب ساحات أخرى- لتأكيد الصعود الروسى وعملية الانتقال الجارية فى النظام العالمى، فى الترتيب الأول.
وتحتل الأزمة السورية موقع المدخل الأهم لتحقيق هذا الهدف، بجانب التوسع فى بناء شبكة من الوكلاء المحليين والتحالفات الإقليمية.
ويأتى فى الترتيب الثانى المصالح المتعلقة بالطاقة، ويأخذ هذا الهدف بعدين أساسيين:
الأول استخدام بعض دول المنطقة كمناطق عبور لخطوط نقل الغاز الروسى إلى أوروبا (مثل خط «السيل التركى» الذى تقوم بتنفيذه «غاز بروم»، أو غيرها من المشروعات التى قد تُطرح مستقبلًا عبر سوريا).
والثانى قطع الطريق على بعض كبار منتجى الغاز بالمنطقة المدعومين أمريكيًّا من الدخول على خط تصدير الغاز إلى أوروبا (حالة قطر بالأساس).
فى هذا الإطار، ستكتسب سوريا مزيدًا من الأهمية بالنسبة لروسيا، باعتبارها إحدى دول المرور بالنسبة لمشروعات خطوط نقل غاز الإقليم إلى أوروبا.
كما يُتوقع أن يشهد 2019 مزيدًا من التعاون الاستراتيجى بين روسيا وتركيا، ليس فقط بالنظر إلى الدور التركى المهم فى إدارة التحالفات الروسية بالإقليم، لكن بالنظر إلى موقع تركيا كنقطة عبور لمشروعات نقل الغاز الروسى وغاز آسيا الوسطى إلى أوروبا.
وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنه من المتوقع أيضًا استمرار التنسيق «الصينى- الروسى» فى الإقليم، فى إطار تبادل الدعم، لكن دون أن ينتقل هذا التنسيق إلى مستوى أكثر تقدمًا.
رابعًا- تركيز أوروبى على الاقتصاد والأمن: حيث قد تؤثر التحديات الأمنية، والاضطرابات السياسية والاقتصادية التى تواجهها العديد من دول الاتحاد الأوروبى، على لعب دور رئيسى فى أزمات منطقة الشرق الأوسط، مقارنة بدور القوى الدولية الأخرى.