د. نسمة يوسف إدريس في حوار لـ«المصري اليوم»: أبي شعر بالخيانة بعد فوز نجيب محفوظ بـ«نوبل»

كتب: طارق صلاح الثلاثاء 25-12-2018 23:01

«كل الحرية المتاحة فى الوطن العربى لا تكفى كاتباً واحداً، النقد فى السر مساومة».. العبارتان السابقتان صاغهما الأديب الراحل يوسف إدريس، وأصبحتا تراثا لرجل تفوق فى القصة القصيرة وظهر نبوغه فى هذا المجال فى سن مبكرة، كما أكدت لنا ابنته الدكتورة نسمة، مدرس الأدب المقارن بجامعة القاهرة، فى حوار لـ«المصرى اليوم» ضمن سلسلة حورات «رحيق العباقرة» حيث روت لنا تفاصيل نشأته وكيف شكل الريف وجدان وفكر والدها.

تطرقنا معها إلى أعنف أزمة ألمت بيوسف إدريس، والتى نتجت بعد إعلان اسم الفائز بجائزة نوبل لعام 1988، وهو نجيب محفوظ، فى الوقت الذى كان «إدريس» يعقد آمالاً عريضة فى الحصول على تلك الجائزة، وقالت إن والدها شعر بالخيانة وقتها وظل مكتئبا فترة طويلة، فيما كشفت رفضه استلام جائزة الدولة التقديرية وهو على فراش المرض، قائلا: «يعنى ما افتكرونيش غير وأنا باموت!!». وروت تفاصيل زيارة الرئيس الأسبق حسنى مبارك ونظيره السورى حافظ الأسد لاستراحة والدها بالساحل الشمالى، لافتة إلى أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان يخشى كتابات إدريس وتعامل معه بحذر. نسمة أوضحت لنا كواليس حياة والدها الخاصة وأكلاته المفضلة وأزمته مع مقاسات الأحذية، وكيف كانت والدتها ملهمة له أثناء كتاباته.. وإلى نص الحوار:

■ فى البداية ممَّ تتكون الأسرة الصغيرة ليوسف إدريس؟

- أنا ووالدتى وشقيقى سامح وهو مهندس كمبيوتر وقد توفى أخى بهاء المخرج رحمة الله عليه عن عمر يناهز الـ36 قبل سنوات فى حادث سيارة.

■ كم كان عمرك لحظة وفاة والدك وأين تواجدت؟

- كنت فى الثامنة عشرة من عمرى عندما فارقنا ورحل فى الأول من أغسطس عام 1991، وكنت بصحبته أنا ووالدتى فى لندن داخل المستشفى حيث كان قد أصيب فى غرفة نومه إثر اصطدامه «بألوميتال الشباك» وهو ما أدى إلى نزيف داخلى نقل على إثره إلى انجلترا عن طريق الدولة، وظل هناك ثلاثة أشهر أجرى خلالها عملية توقعنا أنها نجحت لكن للأسف لم تكن كذلك.

■ هل تتذكرين أكثر الناس اهتماما بوالدك أثناء مرضه؟

- هم كثيرون سواء كانوا مسؤولين فى الدولة أو الأصدقاء، أيضا القراء الذين حرصوا على الاستفسار عن صحته عبر التليفونات والكتابات الصحفية التى اعتبرناها وفاء ممن عرفوا قدره وقيمته، وهو دليل على حب كبير واحترام لشخص طالما عمل من إجل إسعاد الناس ومحاولة تثقيف الشباب.

■ على وجه التحديد هل قدم نجيب محفوظ العزاء فى وفاة يوسف إدريس؟

- نعم حضرت زوجته وقدمت واجب العزاء لنا وأتذكر ذلك جيدا وشاهدتها بنفسى، وبكل صراحة فإن الأديب العالمى نجيب محفوظ وأسرته كانوا أصحاب واجب، وهم أسرة نكن لها كل التقدير والاحترام.

■ ما حقيقة غضب يوسف إدريس من حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل؟

- سأقص لك كل شىء عن هذا الأمر بأمانة شديدة لأن الإعلام مازال يتناول هذا الموضوع حتى الآن، والحكاية تتلخص فى أنه قبل جائزة نوبل التى حصل عليها نجيب محفوظ عام 1988 كان والدى مرشحا لها، وقد عرفنا ذلك عن طريق صحفيين من السويد جاءوا إلينا فى المنزل وطلبوا من والدى إجراء حوار، وقالوا له نحن نجرى معك الحوار لأنك مرشح للفوز بجائزة نوبل هذا العام، وأكدوا له ذلك مرارا وتكرارا، ولم يكن هذا الأمر يشغل بال والدى كثيرا، لكن بكل أمانة بعد لقائه بهؤلاء الصحفيين دخله إحساس كبير بأنه الفائز بجائزة العام وأصبح مهتما بالأمر حتى تم إعلان اسم نجيب محفوظ فائزا بالجائزة، وقتها أصيب أبى بصدمة وإحباط شديدين ودخل فى حالة اكتئاب وبات هناك شىء غامض، وهو ماذا حدث فكيف يؤكد لنا أشخاص قريبون جدا من لجنة نوبل أن يوسف إدريس اقترب من حصد الجائزة وعند الإعلان نكتشف شخصا آخر؟ وظلت الشكوك والأسئلة بداخلنا حتى عرف أبى التفاصيل كاملة بعد فترة لم تتجاوز شهرين، حيث اتصل به مسؤول من القائمين على إدارة الجائزة وأبلغه أنه بالفعل كان مرشحا للجائزة لكن حدث اعتراض من شخصين داخل لجنة التحكيم أحداهما رئيس اللجنة بسبب موقف أبى الواضح من اليهود ورفضه لاتفاقية كامب ديفيد، وقالوا يتضح من كل مواقفه عداؤه الصارخ لإسرائيل، ولا يمكن أن يحصل على نوبل ونعرف جميعا أن إسرائيل لها يد طولى فى لجان تحكيم نوبل، وهذا ما حدث بالتحديد وبعد أن علم السبب بات أفضل نفسيا عن ذى قبل وإن ظل فترة طويلة متأثرا بما وصفه بالخيانة التى جاءت بواسطة من أبلغوه، ومن القائمين على اللجنة جميعهم.

■ وهل أكد الصحفيون السويديون لوالدك أنه المرشح الوحيد من مصر قبل إعلان النتيجة؟

- بصراحة هم أكدوا له أنه مرشح بقوة للفوز بالجائزة، وبالطبع ماداموا من السويد فهم قريبون من أعضاء اللجنة، إذن والدى إطمأن أن كلامهم صواب وهو ما جعل أبى يشعر بالخيانة بعد إعلان نتيجة الجائزة.

■ كتبت أقلام عديدة أن يوسف إدريس شعر بأنه الأحق للفوز بالجائزة والأجدر لها أكثر من نجيب محفوظ ما تعليقك؟

-أبدا لم يقل أبى هذا الكلام هناك مزايدات وفتن تتم من حين لآخر فقط وبكل أمانة كما قلت لك والدى شعر بالخيانة من جراء إخباره من قبل أشخاص سويديين بأنه المرشح الأقوى للجائزة لكنه لم يتحدث عن أحقيته عن نجيب محفوظ، بالعكس قام بتهنئة نجيب محفوظ، وهذا دليل على نيته السليمة وصفاء قلبه، وإن كان قد حزن فهذا حقه خاصة بعد إبلاغه بشىء كبير مثل هذا الحدث.

■ هل تركت هذه الواقعة ضغائن بين الطرفين؟

- «مافيش كلام من ده» الموضوع مختلف تماما عن تلك التصورات غير العادلة، لأن المنافسة أمر صحى وشىء جيد ومطلوب، ونتائجها دائما إيجابية تصب فى صالح الوطن وهذا الأهم، ويمكن أن يكون لها آثار سلبية تتمثل فى حزن شخص وهذا هو الأقل أهمية.

■ كيف سارت طباعه ونفسيته فى الفترة التى تلت فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل؟

- لا أخفى عليك كان حزينا جدا يقول إن هناك خيانة قد حدثت واستمر فى ضيق وألم وصل لحد الاكتئاب فترة طويلة جدا تخطت العامين. أما طباعه فهو رجل صاحب شخصية وقادر على التحمل وكان شخصية يحب عدم الحديث عن مشاكله فى المنزل، وأيضا لأصدقائه واستطاع أن يتغلب على المشكلة لكن المهم أن ذلك لم يؤثر على علاقته بالفائز، والمشكلة الحقيقية تكمن فى الذين حقدوا على الطرفين، وباتوا يحاولون إشعال الفتن فى وسائل الإعلام المختلفة من أجل مكاسب مادية ومعنوية، وهم للأسف كثر ومازال هناك نفوس معدومة الضمير تحاول من الحين للآخر اختلاق روايات مكذوبة لكن ما يمكن أن أقوله هو أن نجيب محفوظ ويوسف إدريس كانا أكبر وأعقل من هذه التصرفات الصبيانية، واستطاع أن يحتفظ كل منهما للآخر بالمودة والحب.

■ ولماذا رفض يوسف إدريس استلام جائزة الدولة التقديرية؟

- شعر أن الدولة قد تأخرت كثيرا فى منحه هذه الجائزة لأنه كان على فراش المرض، وكان وقتها فى لندن وقال «هما يعنى مش فاكرين يعطونى الجائزة دى غير وانا باموت» وقد حدث هذا قبل وفاته بقليل.

■ ما سبب هجوم يوسف إدريس المستمر على الشيخ الشعراوى؟

- أبى شعر أن الناس والدولة يؤلهان الشعراوى، وهو كان يكره «تأليه» أى إنسان، وكان يرى أن الرئيس الراحل أنور السادات يدعم الشيخ الشعراوى من أجل الاستفادة منه حيث كان يرى أن الشعراوى كان يتعمد مجاملة الرئيس ومحاولة اقحام اسمه فى مواقف كثيرة، لذلك كتب والدى منتقدا طريقة وأسلوب الشعراوى معتبرا أن الشيخ يجامل السلطة وطالب الناس بعدم إعطائه الهالة الكبيرة التى كانت حوله ذلك الوقت، وبمجرد أن قرأ الناس هذا النقد شنوا سيلا من الهجوم غير منقطع وبه كلام جارح وانتقادات لا حصر لها، فكان يقول والدى هذا دليل أننى على حق لأن الجميع يهاجموننى فقط لحبهم للشعراوى وبدون منطق.

■ أيضا أقام والدك دعوى قضائية اتهم فيها الطبيب أحمد شفيق بأنه كاذب كونه ادعى وقتها اكتشافه لعلاج مرض السرطان؟

- نعم حدث هذا واستمر الجدال كثيرا على صفحات الجرائد حيث استفز الأمر أبى وقام برفع دعوى على الطبيب وقد كسبها، وكان دافعه بذلك عدم السماح لأحد باللعب بعواطف الناس ومشاعرهم وقد اعتبر ذلك ينطوى على التضليل، فقد كان مهموما بأمور الناس وأوجاعهم ورفض أن يغرر بهم من جانب أى شخص.

■ هذا يجعلنا نستفسر منك عن نشأته فى قرية بالشرقية.. ما مدى تأثيرها فى شخصيته؟

- تعتبر فترة صباه التى قضاها فى القرية لها الأثر الأكبر نحو تشكيل شخصيته حيث غرست فيه مبادئ وقيم الريف من إخلاص وصدق، وقد حكى لى أنه كان يسير يوميا ما يقرب من 12 كيلومترا فى رحلته ذهابا وإيابا إلى المدرسة وسط المزارع والخضرة والهواء الطلق، وساعدت هذه الأجواء فى تفتح عقله ونمو مداركه واتساعها وأصبحت تلك الرحلة اليومية فرصة للتفكير والتأمل والتدبر وبداية لكتابات وصفية معبرة عن واقع جميل يحياه وظهرت موهبته فى الكتابة والإبداع، وبدأ يرسم بيديه ما يدور بخاطره، أضف إلى تلك الطبيعة الساحرة تربيته المعتدلة بواسطة أسرته والتى شكلت ملامح طباعه، فقد غرس والداه داخله التقاليد الأصيلة التى ورثاها وأصبح الفتى مصقولاً بتربية ونشأة ولا أروع من ذلك حتى شب وصار فنانا ومفكرا قبل أن يلتحق بالجامعة التى كان لها أثر هى الأخرى فى نفسه بعد أن درس الطب الذى وصفه بأنه أكمل له معرفة جانب هام جدا ألا وهو نفس وطبيعة الإنسان، وقد ذكر لى والدى أن دراسته للطب كان لها الأثر الأكبر فى شخصيته فقد جعلت ذلك الفتى الذى خرج من تلك البيئة الجميلة عارفا بخبايا الإنسان قريبا لأن الطبيب يكون أقدر من غيره بفهم البشر كما وصف لى، لدرجة أنه رأى أن دراسته للطب أفضل كثيرا لكتاباته من دراسة الأدب نفسه لأنها قربته كثيرا من الأشخاص، وأصبح أديبا ملما بأغوار الأفراد وتشكلت موهبته وعظمت حتى صار متفردا عن غيره صاحب رؤية وشخصية مستقلة ومفكراً كبيراً.

■ وما كواليس دراسته فى كلية الطب؟

- أولا هو لم يكن يقصد أن يدرس الطب لكن هى إرادة الله التى منحته قدرا من العلم والمعرفة حيث حصل فى الثانوية العامة على مجموع كبير، ولذلك تمنت الأسرة لابنها ان يكون طبيبا وعندما انتهى من الدراسة تخصص فى الجراحة ثم تحول إلى الطب النفسى وبعد سنوات من العمل بهذه المهنة، وكان قد أبحر بعيدا إلى بحار الأدب والقصة القصيرة، رأى أنه لا مناص أن يوقف الطب ويتجه إلى الكتابة، وقد التحق بالأهرام واستمر فى هذا المجال إلى النهاية.

■ حدثينا عن المرأة فى حياة يوسف إدريس؟

- كان محاطا بالمعجبات، لأنه شخصية معروفة وكاتب له اسم منذ شبابه، فضلا عن كونه وسيما، وهناك فتيات وسيدات رغبن فى الزواج منه وبينهن أسماء لامعة لكنه انشغل بالكتابة والأدب ولم يعر هؤلاء أى اهتمام فكان حبه الكبير للعمل، بالرغم من أنه صاحب خطابات حب وغرام كفيلة بأن توقع أى فتاة فى شباك هواه، وهناك سيدات حاولن إغراءه بأنهن ستهديه دار نشر وأخريات وعدنه بإغداق الأموال عليه إذا تزوجنه، لكنه لم ينظر إلى تلك الأمور ولم يفكر مطلقا فى الزواج على والدتى بسبب حبه الشديد لها.

■ وما قصة ارتباطه وزواجه بوالدتك؟

- حكت لى والدتى أن شقيقتها الكبرى كانت تستعد للزواج من إسماعيل الحبروك، وأثناء ترتيب أثاث المنزل تواجدوا بصحبة عدد من أفراد الأسرة بمنزل العريس، وأثناء صعود والدى سلالم العمارة التى كان يسكنها أيضا شاهد فتاة صغيرة وجميلة وقام بسؤال الحبروك عنها وكانا صديقين فأجابه بأن عليه أن ينسى الأمر، كون هذه الفتاة مخطوبة لطبيب أسنان ثرى وأنها ستتزوجه قريبا، وذهب الحبروك للأسرة وحكى لهم القصة فكان رد العروسة أنا لم أره ولا أعرفه، ولم يمهلها والدى وقتا وقام بكتابة رسالة تحمل معانى الحب والشوق ويصف لها مشاعره منذ أن رآها وتعلق قلبه بها فما كان منها سوى الموافقة على تحديد موعد للتعارف، خاصة أنها كانت غير سعيدة بخطيبها وبعد أن جلسا معا جاء القبول وبالفعل تزوجا ولم ينس أبدا قصة الخطاب الذى غير مجرى حياة الطرفين، حيث كان يقول أبى دائما لولا تلك الحبيبة ما كنت أصبحت هكذا، معترفا بأنها كانت دافعا قويا لتفوقه ونجاحه، وأتذكر أنه لم ينشر شيئا دون أن يأخذ رأيها فيه، والأكثر من ذلك أنه اعتاد على الكتابة وهى بجواره وقد ساعدت دراسة والدتى للفلسفة بأن تكون صاحبة رأى مفيد، وكثيرا ما غيرت له أشياء وراجعته فى أخرى وأصبحت عالمة بالنقد، بعد أن انتهت من دراستها خصيصا لمساعدة والدى فى تقييم أعماله وتقديمها فى أحسن صورة قبل أن يتم نشرها.

■ أى الأماكن التى كان يختارها لكتابة قصصه ومقالاته؟

- المنزل، حيث كان يستمتع جدا بممارسة هوايته وتراه يمسك القلم والورقة ويجلس بجوار والدتى، التى كان يشعر بالأمان والراحة معها وهما الشيئان المهمان لإبداعه، كما ذكر لها أمامنا، حيث كانت السعادة تبدو على ملامحه وكأنه فى رحلة صيد ثمينة، وظلت تلك العادة حتى رحيله، وقال أكثر من مرة لأمى «الإبداعات التى أكرمنى بها الله جاءت بسبب وجودك بجوارى»، ولذلك لم يكتب من أى مكان سوى البيت حيث حبيبته التى ظل عشقها بداخل قلبه حتى انتقل إلى جوار ربه.

■ وهل كان لوالدك رغبة فى أن يكون أحد أبنائه أديبا مثله؟

- لم يطلب ذلك، لكنه كان يشجع كل واحد حسبما يرى ميوله، وقد كان سعيدا جدا كلما وجدنى مهتمة بمجال الأدب والكتابة، وكثيرا ما أعطانى نصائح وبات يدعمنى ويوجهنى أملا فى أن أسير على دربه، وكان يقول لنا كل إنسان يعمل فيما يحبه، لكن المهم هو أن تتفوق فى هذا العمل وتتميز، فالطموح هو أساس متعة الحياة وبغيره لا يكون للإنسان قيمة، وهى كلمات اعتاد أن يلقيها على آذاننا حتى يشعرنا بقيمة النجاح والتفرد.

■ وماذا عن علاقة يوسف إدريس بالرؤساء؟

- كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يقيم حسابا كبيرا لأبى، لخوفه الشديد من كتاباته، وعلمه بأنه صاحب قلم جرىء وحر، خاصة بعد أن نشر والدى قصة الجمل، حيث سرد أن هناك جملا يقوم بإدخال رأسه فى كل المنازل حتى غرف النوم، وكان قادرا على معرفة كل تفاصيل الحياة، وقتها فهم عبدالناصر أنه المقصود من هذا الموضوع، وأنه وصف معبر عن الدولة البوليسية، ولذلك حاول معاملة والدى بشىء من الحذر، أما السادات فقد حبس أبى مع المثقفين والنخبة فيما عرف بخريف الغضب، بينما ظهر حب الرئيس الأسبق مبارك لأبى جليا فى مواقف كثيرة، وأنا شخصيا رددت على تليفونات من مبارك كثيرا عندما كان يتصل بوالدى، كما أتذكر أننى قمت بعمل الشاى للرئيسين مبارك وحافظ الأسد، حيث كانا يسيران من أمام منزلنا فى مارينا بالساحل الشمالى وشاهدهما أبى من النافذة، وطلب منهما الدخول للمنزل، فاستجابا ودخلا على الفور، وكان أبى يسير فى المنزل حافى القدمين فمازحه مبارك قائلا: «يعنى مش لاقى حاجة تلبسها فى رجلك الكبيرة دى»، وكانت حقا قدمه كبيرة ومقاسها غير طبيعى، حيث كان يضطر إلى تفصيل الأحذية، أيضا أتذكر من هذه الزيارة أنه أثناء قيامى بعمل الشاى أحاطنى عدد من الأمن والمخابرات للاطمئنان على ما أفعله، وكانت الزيارة لطيفة جدا، حيث استمرت ما يقرب من 15 دقيقة، واتسمت بالضحك والفكاهة من جانب مبارك، كما بدت على الاسد السعادة وكان والدى طبيعيا جدا.

■ لكن مبارك غضب من والدك بعد ذهابه إلى العراق التى كانت على خلاف مع النظام المصرى وقتها؟

- الموضوع لم يستمر طويلا، حيث حصلت مصالحة بين القاهرة وبغداد، وكانت الأزمة أصلا أن والدى ذهب إلى العراق لتسلم جائزة صدام حسين على أعماله الأدبية، وعندما علم بأن الرئيس غاضب أعلن أن سفره جاء بعيدا عن السياسة، وهى فى النهاية جائزة أدبية، وقد تفهم مبارك الأمر بعد ذلك، وعاد الود والاحترام بين الاثنين، ومن مميزات شخصية يوسف إدريس أنه لم يكن منتميا لأى حزب أو تيار سياسى طيلة عمره، وهذه الصفة جعلته موضع تقدير واحترام من جميع التيارات، وكان يكره التطرف وسمى نفسه بالوسطى، ولم يصاحب أحدا من الإسلاميين سوى خالد محمد خالد.

■ وما طبيعة علاقته بأصدقائه؟

- كان محبا لأصدقائه وعمل على مساعدة كل من يطلب منه ذلك، وأتذكر موقفا طريفا حكاه لى، حيث كانت هناك علاقة صداقة وطيدة بينه وبين الاستاذ محمد المخزنجى، وكان هو أول من تحدث عن موهبة المخزنجى، لكن الأخير كان عازفا عن الزواج، فقال له والدى إن الزواج يؤسس لنجاح الإنسان أيضا فهو يساعد الشخص على تحمل تبعات المشقة والإرهاق، وقد اقتنع المخزنجى وقال لوالدى «أنا شفت أسرتك ملمومة حواليك وهاتجوز»، وكان أبى مهتما بشباب الكتاب، وقدم كثيرين وكتبوا أيضا مقدمات وافتتاحيات لأعمال أسماء أصبحت لامعة كنوع من المساعدة والتشجيع وعلى رأسهم نوال السعداوى وغيرها.

■ ماذا عن إصابته التى أدت إلى وفاته؟

- اصطدم والدى فى رأسه عند استيقاظه من النوم بشباك ألوميتال، وهو ما أدى إلى نزيف داخلى، وقد نقل للمستشفى ومنه لإنجلترا ومكث فيها ثلاثة أشهر بعد إجراء عملية دقيقة فى «الدماغ»، وكنا نشعر أنه اصبح معافى سليما، وأنه قد تخطى الأزمة لكن القدر كان له رأى آخر وفارق الحياة فى نفس المستشفى وبأمانة فإن الدولة لم تقصر معه حيث تكفلت بالرحلة العلاجية تماما.

■ ما أهم الهوايات التى أحبها يوسف إدريس؟

- والدى كان يهوى المنزل كثيرا، لأننى كما قلت لك قدر له الله زوجة مريحة استطاعت أن تجعل البيت جنته على الأرض أيضا كان يحب الريف ومسقط رأسه، حيث سافر كثيرا واعتاد ارتداء «الجلابية» وكانت هناك عادة جميلة حيث يأتى الأهل والأصدقاء لملاقاته والجلوس معه ليحل لهم المشاكل، وكان يقول إن الأهل والأصحاب نعمة من الخالق، يجب أن يحافظ الإنسان عليها، ولا يمكن لعاقل أن يعيش بدون وجودهم حوله، أما عن الأكلات فقد كان يعشق الأسماك بجميع أنواعها، ويحرص على إعداد «سلطة الخضار» فى المنزل وكان يرفض أن يقوم أحد غيره بهذه المهمة، واعتاد سماع الموسيقى الكلاسيك فى المنزل مع والدتى والرسم ولم يمارس الرياضة، لأن الكتابة كانت تأخذ منه وقتا طويلا باستمرار وكان محبا لاقتناء الساعات ذات الماركات العالمية وترك كمية كبيرة متنوعة منها، وكذلك البارفانات وكان ينتهز الفرصة ليشترى أحذية كبيرة من الخارج، لأنه لم يجد مقاسه فى القاهرة، وأتذكر أن أغلب ملابسه اقتناها من إنجلترا التى كان يسعد بوجوده فيها لحبه فى ملابسها.

■ حاول التمثيل لكنه لم يفلح.. لماذا؟

- لم يكن هاويا للتمثيل ولكن أقنعه كرم مطاوع بأن يشارك فى دور كاتب بمسرحية الفرافير وبعد مشاركته شعر بأن التمثيل لا يناسبه فرفض أن يكمل فى هذا الطريق حتى إن المخرج الكبير يوسف شاهين طلبه للتمثيل فى فيلم حدوتة مصرية إلا أنه اعتذر له.

■ هل تشعر أسرة يوسف إدريس بأنه حصل على تقدير مناسب من الدولة والقراء على السواء؟

- نعم، فالدولة لم تقصر معه فى حياته وأيضا بعد مماته ومن ناحية القراء يكفى أن الناس باتت تردد كتاباته وكأنها حكم مأثورة.

د.نسمة يوسف إدريس تتحدث لـ«المصرى اليوم»