من فات قديمه: «ناظر الأشغال» يتدخل لإخماد «فتنة المظلات العشوائية» فى المنيا

كتب: اخبار الخميس 29-11-2018 23:49

تبقى حكايات زمان خير شاهد على مصر التى كانت، وتظل الوثائق المصاحبة لتلك الحكايات آلة توثيق أسطورية تبهرنا وتنقلنا فى غمضة عين وليس أكثر عبر آلة الزمن السحرية إلى أوقات مضت وأزمان ولت.

كانت وظيفة مهندس الرى بكل مديرية أو إقليم منصبا جليلا مرموقا لا يضاهيه سوى منصب مهندس التنظيم، وإذا كانت تعاملات الأول تحتكر سوق الريف وعالم القرى فإن الثانى كان يحتل موقع الصدارة لدى سكان البنادر والمدن بحكم أنه المسؤول الأول عن كل ما يتعلق بالمنازل والشوارع والمتاجر فى الإقليم الذى يعمل به، فهو بتداخله هذا مع احتياجات الناس إمبراطور متوج تتعلق بكلمة من لسانه أو تأشيرة من يده مصالح عشرات الآلاف من البشر مثلما حدث مع سكان بندر المنيا فى خريف 1895 الذين اندلع خلاف حاد بينهم وبين مهندس التنظيم وصل إلى حد «الفتنة» كما سمته الوثائق التى شرحت لنا الموضوع بالتفصيل والتى تنفرد «المصرى اليوم» بنشر جانب منها لأول مرة.

كان مسرح الأحداث هو القلب التجارى للمنيا القديمة أو منطقة «قبلى» كما يسميها الأهالى الآن وقت أن كان الحيز العمرانى للمدينة محصورا فى تلك البقعة الصغيرة الممتدة من مطرانية الأقباط التى كانت مطلة على النيل مباشرة حينذاك من الشرق وحتى شريط السكة الحديدية من الغرب، وما بين ميدانى السلطان الحبشى والبوستة فى الشمال وحتى مدرسة الإرسالية أو الآباء اليسوعيين فى الجنوب، وبالمناسبة فإن هذه المدرسة واحدة من أقدم المدارس الأجنبية بالصعيد بل بمصر كلها، وقارب عمرها من 150 عاما كما أنها كانت تضم واحدة من أقيم وأندر المكتبات العامة الزاخرة بروائع المجلدات ونفائس الكتب فى كل علم، ولكن لنعد إلى مهندس التنظيم الذى أصدر قرارا قاسيا يقضى بإزالة المظلات القماشية والخشبية التى كان يستخدمها التجار والأهالى كأسقف بدائية فى الشوارع لتقيهم قيظ شمس الصعيد الحارقة خلال أشهر الصيف الطويلة وهطول الأمطار فى الشتاء وهى استخدامات وأسباب على الرغم من وجاهتها كانت لا تجد قبولا لدى مهندس التنظيم الذى تعامل مع الموضوع من زاوية أخرى تمثلت فى أن هذه المظلات العشوائية البدائية قبيحة الصورة، فبخلاف أنها غير مرخصة فإنها تنذر بكارثة فى أى لحظة فلو طالت شرارة واحدة أى جزء منها فسوف تحترق المدينة بأكملها خلال ساعات، فهى عبارة عن سقيفة تغطى قلب المدينة بأكمله تقريبا، وقد تعرضت مدينة ميت غمر بالدقهلية لهذه المأساة بالفعل، واحترقت عن آخرها لاحقا، وكان هذا التخوف الذى ملأ قلب المهندس هو دافعه لأن يرفض كل الرجاءات والوساطات المتكررة من أهالى البندر وأعيانه الذين اضطروا فى النهاية وبعد فشل كل مساعيهم السلمية إلى رفع شكوى إلى الخديو مباشرة، وكان وقتها ما زال موجودا بمقر الحكم الصيفى بالإسكندرية وهى شكوى استجمعوا فيها كل المخالفات التى ارتكبها المهندس ورجاله فى البلدية وإدارة التنظيم من عينة سوء المعاملة والتعنت فى تنفيذ القانون واللوائح وأخذ الرشاوى، وقد وصل الأمر بالأهالى إلى حد التهديد بتنفيذ إضراب عام حتى يصل رد الخديو!.

من أحد التلغرافات «المشدودة» إلى الجناب العالى- كناية عن الخديو عباس حلمى- والمنشورة صورته بجوار هذه السطور، نقرأ النص الطريف المكتوب بلغة ذلك العصر والذى يقول (إلى المعية السنية بسكندرية بالأصالة عنا والنيابة عن أهالى المنيا نسترحم الحضرة الخديوية إغاثتنا من مهندس تنظيم البندر كإعراضنا «بالسكورتاه» أى خطاب الشكوى أول أمس (أهالى المنيا بالمنيا)

وعندما أدرك المهندس والجانب القليل الذى يؤيده أو يتعاطف معه خطورة الأمر حاولوا استرضاء واستمالة بعض الأطراف القوية المعادية وكان منهم أحد كبار التجار بالمدينة الذى حصل منه المهندس على «عرض حال» مضاد للتشكيك فى مصداقية الشاكين والإيحاء بتحايلهم وطلب منه توجيهه إلى ناظر الأشغال العمومية وجاء فيه (مقدمه لسعادتكم إسماعيل عمر من المنيا إنه فى يوم 29 سبتمبر سنة 1895 بينما أنا موجود بدكانى الكاين بالسوق إذ حضر لى كل من محمد أفندى لبيب ومحمود أفندى كامل من المنيا وبيدهما إعراض ممضى عليه من بعض أهالى البندر وأورونى أنه محرر للداخلية الجليلة بقصد استرجاع السقوفات التى كانت موضوعة بصفة مظلات بالسوق لتحجب الشمس عنا وحضرة باشمهندس التنظيم راغب من المناسب إزالتها لأسباب هندسية ولكونى وقتها كنت مشغولا فى المبيع بالدكان ولشدة الإلحاح منهم على التوقيع على الإعراض فقد وقعت بدون الاطلاع عليه وكان وقتها موجود إبراهيم أفندى كحلة ومحمد أفندى كحلة ثم بعد ذلك علمت أن الإعراض المذكور يشتمل بعض أمور منسوبة لحضرة الباشمهندس المومأ إليه مع إنى برىء من هذه الفتنة الطاغية ولا أعلم على حضرة الباشمهندس من سوء فبادرت بهذا الأنهى- أى الإخطار- ملتمسا النظر رفعا للظلم أفندم. إسماعيل عمر تاجر بالمنيا. 8 أكتوبر 1895).

.. ولكن حسين باشا فخرى ناظر الأشغال لم يعتد بهذا الخطاب وأحال الموضوع إلى مدير مديرية المنيا فى 16 أكتوبر طالبا حل المشكلة وسرعة الرد عليه ولما كان الموقف بالمدينة ملتهبا بشكل واضح لا يحتمل أنصاف الحلول فقد قام المدير بحل المشكلة من جذورها كما يشرح لنا ذلك الخطاب النهائى والحاسم الذى وجهه إلى ناظر الداخلية باعتباره رئيسه المباشر كما أرسل بصورة منه لكل من ناظر الأشغال ورئيس الديوان الخديوى وجاء فيه (ببحث موضوع الشكوى المقدمة من أهالى بندر المنيا ضد حضرة باشمهندس التنظيم خاصتهم واتهامهم لحضرته بسوء السلوك وسوء السيرة وبالرغم من عدم ثبوت صحة ذلك أو حتى بعضه على وجه اليقين إلا أن المصلحة العمومية ومن أجل تطييب خاطر الأهلين ومنع الفتنة الممكن نشؤها من هذا الأمر فقد رأينا وفقا لما خولتموه لنا من سلطة أن نعيد المهندس المذكور إلى ديوان النظارة حتى يتم تكليفه بعمل آخر خارج مديريتنا مع طلب باشمهندس آخر يكون محمود السلوك كما أخبرنا حضرات البكوات والأفندية أعضاء المجلس البلدى بموافقتنا على قيام الأهالى والتجار بوضع السقائف محل النزاع الأول بشرط الحصول على موافقة التنظيم (ديوان المديرية 3 من شهر نوفمبر 1895).

موفق بيومى