المشهد الكونى الباهر: الشمس تولد فى الأفق الشرقى، ومثل كل ملك مهيب يترقب الرعية بشائر مقدمه، تصبح السماء مزيجا أخاذا من لونى الفضة والفيروز. ذلك المزيج النادر الذى يتألق بالفتنة كلما ازداد تألق الفضة النفيسة. ولا ريب أن مخاض الفجر كان- مثل كل الأعمال الجليلة- لا يخلو من الألم، والدليل هو اللون الأحمر الذى شرع يمتزج بالألوان الفاتنة على صفحة الأفق الممتد.
بعد مهرجان الألوان الحافل بدت الشمس كطفل فى كامل نضارته يتدحرج فى نعومة عبر السماء.
مشهد جليل لكن أحدا لم يره. حتى هذا العصفور الوحيد النائم على غصن لم يره فقد كان غارقا فى أحلامه اللذيذة.
■ ■ ■
استيقظ العصفور موقنا أنه قد تأخر فى نومه إلى حد غير مسبوق. وبالغريزة وحدها أدرك أن شيئا غير مألوف يدور حوله. شيئا لم يعلمه بعد ولكنه يوشك أن يعلمه.
إنه الصمت. الصمت المريب الذى ران على الغابة على غير العادة فى مثل هذا الوقت المبكر من الصباح.
فى مثل هذا الوقت من كل صباح تتصاعد أناشيد الفرحة بالصباح الوليد، وتعلو أغاريد الطيور مسبحة بحمد خالقها المجيد.
وإنه ليتساءل. أين ولت الطيور الصادحة التى يستخفها المرح فتتسابق إلى الحب الطازج والأرز المتناثر؟ أين أناشيد الحب ومواكب العاشقين؟ أين زقزقة الصغار البريئة المفعمة بحب الحياة؟
ثمة شىء مريب حدث أثناء نومه فما هو؟
أسئلة كثيرة تحيره.
فليحلق قليلا فوق الغابة. فلعل أسراب العصافير على مقربة منه دون أن يدرى.
شرع يحلق فوق الغابة الخضراء فأدهشه اختفاء كل مظاهر الحياة. لا طيور ولا حيوانات. لا أحد على الإطلاق.
وحيد فى هذا العالم. هذا هو حاله باختصار.
■ ■ ■
عصفور ضعيف هو. كان كل ما يعنيه من قبل هو ممازحة الطيور واللهو البرىء والتقاط الحب والشجار أحيانا والغزل دائما. ولكنه قدره الذى جعله آخر مخلوق على وجه الأرض. قدره الذى جعله المختار من بين المخلوقات جميعا كى يبعث رسالة امتنان أخيرة لخالق الحياة.
لا يملك سوى الغناء.....
يلمس حقيقة الكون إذ يغنى أنشودة حب للخالق العظيم، لمشيئته سبحانه حين قال كن، فكان الكون. ملايين النجوم ترمقها ملايين العيون، غابات خضراء ترصعها زهور حمراء، لبن وعسل ورحيق. وقدر يرعى خطى الكائنات حتى ولد العاشقون والشعراء.
ما الذى بوسعه الآن أن يفعله؟ ما الأمر الوحيد الذى تجيده الطيور؟
■ ■ ■
مضى يطير فى الفضاء. يحلق رغم جناحيه المنهكين. يصعد حتى لا يكاد يتبين الأرض. يرتفع حتى يوشك أن يلامس السحب.
وهناك فى الأعالى التى لم يبلغها أحد سواه، راح يصدح بغناء عذب لم يغنه طائر من قبل. أنشودة حب لم ينشدها شاعر. صلاة يرفعها هناك، للخالق الرحيم المتعال الذى خلق الحياة.