«سيظن البعض أننا فى الشرق شعوب عاطفية، يجرفها الحنين صوب ما انقضى من أيامنا الفائتة.. لكن ماذا يقول هؤلاء عن الكاتب الفرنسى الشهير «مارسيل بروست» الذى كتب ملحمته الأدبية: «البحث عن الزمن المفقود» فى سبعة أجزاء؟.. وعندنا طه حسين الذى كتب رائعته «الأيام».. كثيرون هم الذين استوقفهم الزمن ودعاهم إلى الغوص فى أعماقه وأبعاده الظاهرة والكامنة».
هكذا تدخل «نوال مصطفى» إلى عالمها السردى الخاص، فى رواية «الزمن الأخير» مفعمة بالحنين إلى كل ماهو ماض، تلك النوستالجيا التى اعتبرتها مرض العصر المنتشر بين كثير من الأدباء والشعراء والفنانين بصفة عامة، طارحة سؤالاً وجوديا عبر سطور روايتها «متأزمة» المواقف والشخصيات.
هل سأل أحدكم نفسه: ما أسباب هذا المرض.. هل شغلكم البحث عن إجابة لهذا السؤال المستمر.. والمتجدد؟
الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، فى طبعتها الجديدة، واحدة من روايات البحث عن الزمن التائه، البحث عن الذات، وربما جلدها فى بعض الأحيان.. تدرك نوال مصطفى من سطور روايتها الأولى أن ثمة فرقا شاسعا بين الخوف من تداعيات العمر وترهاته، وبين الأمل فى غد قد تتفتح زهراته على حب جديد ولحظات- حتى لو قصرت- يجب أن تعاش كما يحلو لنا وللحظات ذاتها.
«ماذا لو فوجئت بنوع غريب من الاحتلال لوجدانك وأفكارك ومشاعرك؟ نوع ينفذ إلى مناطق النشوة والرضا والسعادة فيحركها ويحفزها لتبدع؟».
سؤال وجودى جديد غاصت فيه «شهد»، المعادل الموضوعى لنوال مصطفى ذاتها، باحثة فى بئر الزمن المفقود عن «طارق»، الحبيب الذى ترك بصمته على قلب «شهد/ نوال» فى لحظة من لحظات العمر لم يخفق بريقها إلى حين، معلنة أن الثقب الصغير الذى بدا فى حجم الدبوس، تحول فجأة إلى شق يتسع يوما بعد يوم، حافرا لنفسه- كما تنبأت- طريقًا بين صخور القلب التى تكونت بفعل ترسبات الزمن.
«طارق وشهد» إذن بطلان أسطوريان اجتمعت فيهما كل ما وضعه أرسطو من مواصفات لبطل مأساوى، قادر بتصرفاته واندياحاته واندفاعه- بلا رغبة فى العودة- نحو قدره أن يثير فينا مشاعر الخوف والقلق والشفقة، فأحدث لقاء الحبيبين زلزالا حرك الثوابت المستقرة منذ سنوات بعيدة فى أعماقهما.. فهل كانت المغامرة محسوبة، أم تراها كانت مغامرة عبقرية كسرت حوائط الحسابات الجامدة التى تحولنا من بشر نحس ونحب ونبكى وننفعل ونلهو ونحزن إلى تماثيل أسمنتية كالحة اللون.. عديمة الإحساس؟
اعتمدت نوال مصطفى فى روايتها، «الزمن الأخير»، بعضا من الواقعية السحرية. ولأن هذه الواقعية تقوم على أساس مزج عناصر متقابلة فى سياق العمل الأدبى، فتختلط الأوهام والمحاولات والتصورات الحالمة بسياق السرد الذى يظل محتفظا بنبرة حيادية موضوعية كتلك التى تميز التقرير الواقعى.
توظف هذه التقنية عناصر فنتازية كقدرة الشخصية الواقعية على السباحة فى الفضاء والتحليق فى الهواء وتحريك الأجسام الساكنة بمجرد التفكير فيها أو بقوى خفية بغرض احتواء الأحداث السياسية الواقعية المتلاحقة وتصويرها بشكل يذهل القارئ.
وفى الرواية، عاشت «شهد»، وغاصت فى حياة «نوال مصطفي» فشاركتها الحلم والحقيقة، شاركتها سنوات التردد والألم والخوف من «قادم» لا يفرق بين عالم وجاهل، بين واقعى وواهم، بين قاض وجلاد.
لتقرر من خلالها السباحة ضد التيار، منتصرة لكليهما على كل منغصات الحياة، حتى لو تحقق الحلم عبر سطور روايتها فقط، بينما يبقى الواقع بآلامه شاهدا على استسلام ضحاياه.
«لو تعرف الكاميرا ماذا تفعل فى حياة البشر لأصابها الغرور، وتكبرت على كل الاختراعات البشرية الأخرى، فهذه الآلة الصغيرة تقوم بتخزين الزمن، والقبض على كل لحظة انفلتت، واختفت وذابت فى اللاشىء».
هكذا لخصت نوال مصطفى أحداث روايتها «الزمن الأخير»، مختتمة تلك الأحداث بسؤال تركت للقارئ حرية استشراف إجابته من بين ثنايا الرواية أو من جنبات الحياة: هل يعانى الإنسان من سيطرة فكرة الزمن عندما يمضى به قطار العمر، ويقترب من محطته الأخيرة؟
هل هى محاولة أخيرة لاستعادة ما كان؟ هل تتوقف عجلة الزمن إذا ركضنا مسرعين نسجل اللحظات الفائتة؟
ومما يذكر أن الناقد الكبير صلاح فضل كتب عن الرواية واصفا إياها بأنها تركز على أزمة منتصف العمر عند الرجال والنساء واكتشفوا زيف حياتهم وفراغها المخيف وقال إن نوال مصطفى كاتبة صحفية متمرسة، تعشق القص والسير الأدبية، وأن كتاباتها تتمتع بأسلوب خلاب وحاسة أنثوية مرهفة، كما تتميز بقدرتها على رصد تحولات الحياة وقراءة أحداثها بعين ثاقبة ورؤية سردية مستنيرة، فتقدم صورة لافتة للحياة الإعلامية والوسط الثقافى فى علاقاته المهنية ومناخه الإنسانى، مع تسليط الضوء على احتدام التجارب العاطفية والوجودية الحميمة.
بقى أن نقول إن الهيئة العامة للكتاب أقامت حفل توقيع وندوة لمناقشة أحدث أعمال الأديبة الكبيرة نوال مصطفى رواية «الزمن الأخير » بحضور عدد كبير من الإعلاميين والأدباء والمثقفين بقاعة المركز الدولى للكتاب وتحدث فيه د.شريف الجيار، والكاتب الصحفى والشاعر محمد أحمد بهجت، وحضرتها الكاتبة نهى حقى ود. أشرف توفيق أستاذ النقد؛ والكاتبة الصحفية مها فودة والكاتبة نهاد عرفة؛ والفنان التشكيلى حسين نوح.
د. شريف الجيار أكد أن الرواية فن لا يستطيع أى شخص إتقانه؛ مثلما فعلت نوال مصطفى فى العمل، حيث إن كل شخصية من شخصيات روايتها تحمل عمق وسمات إنسانية موصوفة بدقة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى فيلما سينمائيا. وقال الشاعر أحمد بهجت إن شخصيات رواية «الزمن الأخير» فى رحلة غوص فى النفس البشرية لتضع القارئ فى حالة من التشوق حتى إكمال الرواية للوصول إلى النهاية لنرى ونعرف ماذا فعلت شهد؟، وأشار الفنان التشكيلى حسين نوح الصحفى والأديب إلى الأزمة التى تعيشها الدراما المصرية فى الوقت الراهن؛ والتى يكمن حلها فى رواية مثل «الزمن الأخير» لأنها عمل درامى مكتمل.
ومن بين الأعمال التى صدرت للأديبة نوال مصطفى عدة قصص قصيرة منها: «الحياة مرة أخرى»، و»الملائكة يحبون أيضاً»، و»رقصة الحب»، و»مواسم القمر»، و»المتهمة بالحب»، كما صدر لها رواية بعنوان «الفخ».
وتنتمى رواية نوال مصطفى إلى نوعية الروايات النفسية التى تكشف عن كم هائل من التناقضات الإنسانية التى تتصارع فى نفوس البشر، ويحاول أبطال الرواية حسمها ومواجهتها دوماً، وكأنها معركة دائمة مع الذات قبل أى شىء.