«لا غرفة التوقيف باقية.. ولا زرد السلاسل»، كان شعر محمود درويش، مفتتحًا لدعوة زفاف فلسطيني، أُقيم في 30 يونيو الماضي، بقرية صفا في رام الله، حيث عُلّقت الزينات، ورُفعت الأعلام، وامتلأت قاعة «أبوحسن» الكبرى للزفاف بالرقص والزغاريد، إلا أن العروس صمود كراجة جلست وحيدة دون زوجها جميل عنكوش. «صمود» وقفت على تلّة بالقًرب من سجن «عوفر» الإسرائيلي، في يوم زفافها بردائها الأبيض، وأشارت بيدها: «جميل هناك».
القصة بدأت قبل نحو 15 عامًا، في 2003، عندما اعتقل جميل عنكوش، وجرى إيداعه سجون الاحتلال حيث يواجه حكمًا بالسجن 20 عامًا. في ذلك الوقت، كانت صمود ياسر حسن كراجة، طفلة في عمر الـ15 سنة، لا تعرف عن «جميل» شيئًا، حتى 6 سنوات تالية، عندما أقدمت «صمود» على طعن جندي إسرائيلي في حاجز قلنديا العسكري، واعتقالها على إثر حكم بالسجن لعشرين عامًا.
«العلاقة كانت كتير غريبة»، تحكي «صمود» لـ«المصري اليوم» بابتسامة الذكرى، فتقول إنه بعد اعتقالها، أذاعت القناة الأولى الإسرائيلية مقطع فيديو لعملية الطعن ولحظة القبض عليها، ذاك الفيديو الذي شاهده «جميل» داخل السجن، فاهتز قلبه بيدِ النضال، ويدِ الحُب.
في الشهر التالي لاعتقالها، تسلّمت «صمود» خطابات عديدة من رفقاءٍ متضامنين معها، كان بينهم خطابٌ من «جميل»، تجاهلته مع خطابات أخرى، لكنه أعاد الكرّة لشهرٍ ثانٍ وثالث، حتى أدركت «صمود» أن هناك أمرٌ ما، فقرأت خطابه الذي يمدحها فيه ويفتخر بها ويشد على أزرها، لكن اهتمام «جميل» أثار حفيظة صمود كراجة، والتي تحرّت عنه لتتأكّد أنه ليس جاسوسًا.
توالت الخطابات، شهرًا بعد شهر، وأصبحت «صمود» تنتظر كلمات «جميل» مع كلّ هلالٍ يبزُغ، لكن بعد عامين، أُطلق سراح صمود كراجة في صفقة «وفاء الأحرار» أكتوبر 2011، تقول في لقاءٍ مسجّل: «بعت لي جميل في آخر رسالة قبل ما أروّح، أنه راح يشتاق لي ويشتاق للرسالة، وراح يستناني أني أبعت له.. روّحت وكل العالم فرحانة بيّ وأنا فرحانة بالدنيا، لكن كان في شي ناقص.. وهو رسالة جميل».
في مارس 2012، عُقدت خطبة الحبيبين على طرفيْ جدار المُعتقل، واشترت «صمود» خاتمها وارتدته بنفسها، وصمدت الخطبة لثلاث سنوات قبل أن تنهار أمام ضغوط الأهل وهم يرون ابنتهم تنتظر حبيبًا داخل السجن، من يدري متى سيخرج، وبدا والدا «جميل» مشجعين على خطوة الانفصال لمصلحة «صمود»، الحبيبة التي فسخت الخطبة، لكنهما ظلّا على عهدهما رغم ذلك، حتى الزواج قبل شهور.
لم يرَ كل من صمود وجميل بعضهما البعض قط من قبل، لكنهما يستعينان على ذلك بالخطابات والصور الفوتوغرافيّة، تقول «صمود» التي بلغت عامها الثلاثين الآن: «نفسي أزوره وأشوفه.. أشوف كيف حركاته لما يزعل ولما يفرح».
الأسير حسن كراجة، هو شقيق «صمود»، والذي يقضي حاليًا فترة اعتقاله الثالثة في السجن، وهو والد لطفلين وزوج الناشطة ثمينة حُصري، إلى جانب أخ آخر لـ«صمود» في المعتقل كذلك، واثنين من أبناء عمومتها، وأخٍ لـ«جميل».
في فترة ما من سجنه، كان «حسن» في زنزانة واحدة مع «جميل»، يطمئن «صمود» بخطاباته إذا تعثّر الزوج في ذلك، حسن كراجة الذي اعتُقل من منزله 11 سبتمبر الماضي، وكان اعتقل سابقًا مرتين أمضى خلالهما ما يقارب 40 شهرًا في سجون الاحتلال على خلفية نشاطه في الدفاع عن حقوق الإنسان، وكان شغل عدة مناصب أبرزها سفير الشباب العربي سابقًا مع جامعة الدول العربية، ومثّل فلسطين في العديد من المؤتمرات والندوات حول العالم؛ للدفاع عن قضايا فلسطين وحقوق الإنسان.
يبدو أن «صمود» تمثّلت في قدرها قبل أن يوافقه اسمها بسنواتٍ طويلة. يخيّم الحُزن على صوتها، وتقول لـ«المصري اليوم»: «كتير صعب إن أنا خطيبي وحبيبي وزوجي في السجن وكمان أخوي أكيد الحياة مش أسعد ما يكون.. وبحكي لجميل دايمًا أن أنا تعبانة كتير، وكتير كمان على أخويا اللي تارك مرته وأولاده»، هكذا يقضي 6 من أسرة صمود كراجة –الأسيرة المحررة- سنواتهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بين أكثر من 6500 فلسطيني يقبعون في السجون الإسرائيلية،- بحسب تقريرٍ أخير لـ«العربية»- أمضى بعضهم أكثر من 30 عامًا في المعتقل حتى الآن، ومن بين المعتقلين أكثر من 350 طفلاً يواجهون ظروف اعتقال ومحاكمة لا تتناسب مع سنهم الصغير.
«- بتحبني ولّا بتحب فلسطين؟
= بحبّ فلسطين بالأول».
* من خطابات الأسيرة المحرّرة صمود كراجة وزوجها المعتقل جميل عنكوش.