فصل جديد من التوتر تشهده العاصمة الباكستانية إسلام أباد بعد ساعات من مصرع أسامة بن لادن، لا تكاد عيناك تغفل حالة الترقب الأمنى تحسباً مما تخفيه قادم الأيام، هنا فى هذه المدينة التى تحتضنها غابات طبيعية، وتعتبر أجمل مدن باكستان وأكثرها نظافة وأحسنها تخطيطا، عانى الأهالى من أهوال تفجيرات ضربت معالم سياحية ومبانى حكومية وجامعية وتجارية بارزة، حتى الفندق الذى نزلنا فيه شهد تفجيرين فى الأعوام الماضية راح ضحيته عشرات الباكستانيين ومهندس مصرى، فيما لم تصل نيران الموت للأمريكيين الذين أعلن تنظيم القاعدة حربه على وجودهم فى هذه البلاد.
عشية قتل بن لادن فى «أيبت آباد» التى لا تبعد كثيراً عن العاصمة إسلام آباد، أفاق الباكستانيون على هول مفاجأتين، الأولى أن زعيم تنظيم القاعدة عاش آخر أيامه متخفياً فى مكان لا يمكن توقع وجوده فيه، فى منتجع «أيبت آباد» السياحى بالقرب من قواعد للجيش، وكما اختبأ موسى فى بيت فرعون، لم يجد بن لادن أفضل من التخفى بجوار أكاديمية «كالاكون» العسكرية فى أيبت آباد.والمفاجأة الثانية، أن القوات الخاصة الأمريكية قامت بعملية عسكرية معقدة، شملت إنزال قوات على أرضهم، دون تفسير واضح من حكومتهم أو الجيش الباكستانى، أضاعت المفاجأة الثانية أى تعاطف شعبى مع الحكومة فى حربها على الإرهاب، حتى أصحاب الاتجاهات الليبرالية الذين يرون زعيم القاعدة مسؤولا عن قتل باكستانيين وجر البلاد لحروب عديدة فى منطقة القبائل انتقدوا تفريط حكومتهم فى السيادة الوطنية على تراب باكستان، والسؤال الذى لازم الألسنة وتعيد طرحه وسائل الإعلام هنا صباح مساء، هو كيف تمت هذه العملية دون علم من أجهزة الاستخبارات الباكستانية العريقة، ومن سمح للأمريكان بهذا التحرك المنفرد دون تنسيق مع أصحاب الأرض؟ لكن هذه الأسئلة ربما يكون مبكراً جدا الإجابة النهائية عليها. فى الشارع الباكستانى تظهر استطلاعات رأى أجرتها وسائل إعلام باكستانية واسعة الانتشار تعاطفاً شعبياً واسعاً مع بن لادن بعد مقتله، ونقلت قناة «جيو» الخاصة واسعة الانتشار أن نتائج استطلاع مكتوب وزعته على عينة من الشعب الباكستانى أظهرت غضب 85% من الباكستانيين من طريقة تصفية بن لادن، ودخول القوات الأمريكية أراضيهم دون إذن، ونتائج مماثلة أيضا أظهرتها صحيفتا «جنك» و«نواى وقت» الباكستانيتين.
هذا التعاطف الواسع تلمسه فى حوارك مع رجل الشارع العادى، مثل سائقنا «شاه نواز» الذى رافقنا إلى المدينة التى لاقت شهرة واسعة بعد مقتل بن لادن.الطريق إلى «أيبت آباد» تكسوه الخضرة وأشجار الفاكهة السامقة وسط الحقول على مرمى البصر، بعد قليل تبدأ سلاسل الجبال فى الظهور، وفى منتصفها تقع المدينة على هضبة خصبة بين جبال شاهقة تكسوها الثلوج غالباً أيام السنة، وفى الصيف– كما هو الحال الآن– يبدو الطقس رائعاً ويستهوى الهاربين من حرارة المدن الباكستانية ورطوبتها الخانقة.
فى سوق المدينة الرئيسى، استوقفنا عدداً من المواطنين لسؤالهم عن رأيهم فى مقتل بن لادن، الحاج رفيق الله صاحب مزارع يملك محلا لتجارة الفاكهة، يبدى تشككه فى صحة رواية قتل أسامة بن لادن، ويرى أنها إن صحت تظهر سوء عمل حكومة بلاده، أسأله هل ترى العملية العسكرية التى تمت هنا قبل أيام عملاً جيداً؟، يجيب بلغة أوردية لا تخلو من لهجة الهندكو المحلية «عمل خاطئ تماما، بن لادن مسلم عربى، وهو جارنا وضيفنا، ومن قتله أمريكيون احتلوا أفغانستان ولا يريدون لنا الخير، وأنا حزين لأن حكومتنا سمحت بذلك، والآن يمكنهم الدخول فى أى وقت وقتل من يريدون حتى من أبناء شعبى، ولن يسألهم أحد لماذا فعلتم ذلك»، قاطعته بسؤال «لكن بن لادن أيضا لم يستأذن للجلوس فى أيبت آباد، وتسبب فى تفجيرات راح ضحيتها باكستانيون؟»، فيجيب «من واجبنا حمايته طالما أنه يحارب أمريكا، وهو لا يقتل الباكستانيين، ولكنه يريد إخراج الأمريكان من أراضى المسلمين».
تكاد آراء السكان المحليين هنا تتفق على أنه على الرغم من أن بن لادن قد يكون غير مقبول لشخصه وتسبب فى مشكلات لبلادهم، لكن ذلك لا يبرر أن تكون مدينتهم مسرحاً لعمل عسكرى أجنبى وهم محاطون بالجيش الباكستانى من كل جانب.
هكذا يقول زاهد أحمد، ويضيف «ما حصل شىء سيئ، ربما يكون بن لادن لم يقتل، وبغض النظر إذا كان المقصود هو أو غيره، أنا لا أقبل أن تدخل طائرات وتقتل أحداً على أرضنا لأجل مصالح انتخابية أمريكية، لقد قتلوا بن لادن 10 مرات قبل ذلك، لكن هدفهم هو كسب الانتخابات.
نسأل مواطناً آخر: هل كنت تتوقع وجود بن لادن فى مدينتكم؟، فيجيب «لم أتوقع، كنت أظنه فى بيشاور أو أفغانستان، هذه دراما، لا نصدق ما صرح به الأمريكان». نتابع السؤال هل تعتقد أن بن لادن كان جيدا؟ فتأتى الإجابة: نعم.. رجل جيد، صاحب دين، ليس لدى فكرة حقيقية أو معلومات عن مسؤوليته بشكل مباشر عن عمليات التفجيرات، كل مصادرنا عن ذلك وسائل الإعلام «هكذا كان رأى غلام أحمد الطالب فى مدرسة أيبت آباد الثانوية للبنين». توجهنا إلى حى «بلال تاون» الراقى فى أطراف المدينة حيث مسكن بن لادن، يقع البيت وسط حقول القمح الذى آن حصاده، وترتفع أسواره 3 أمتار، لم يسمح الجيش الباكستانى باقتراب الصحفيين بعد ثلاثة أيام من المعركة التى أفضت إلى مصرع بن لادن، لكنه سمح لنا بالتصوير والتجوال فى محيط الحى والشوارع المجاورة. جيران بن لادن طيبون، ولم يهتموا كثيراً بالتدقيق فى هويات الساكنين الجدد، لأنه من العادى أن يشترى الناس أراضى ومنازل لأن المنطقة ذات طابع سياحى، هكذا يقول آصف محمود، الذى يسكن فى ذات الحى، يحكى الرجل كيف سمعوا أصوات انفجارات ومروحيات فى المكان فى منتصف ليلة الثانى من مايو الجارى، ويقول: «ظننا أن الجيش يقوم بتدريبات، ولم نعرف بالخبر إلا من وسائل الإعلام التى بدأت تتوافد على المدينة طوال الليل ومع ساعات النهار الأولى».
يبدى الرجل أسفه على مقتل بن لادن، ويقول إنه لم يره قبل ذلك فى المنزل، لكن باكستانيين كانوا يترددون على المكان ويعاملون السكان باحترام، ويبدى غضبه من الفزع الذى تسبب فيه الأمريكيون لأولاده بسبب الحادث. صار بن لادن أيقونة شعبية للوقوف فى وجه الأمريكيين، وهنا فى «أيبت آباد» صلى المواطنون صلاة الجنازة على روحه وسط مظاهرات لإسلاميين مناهضين للوجود الأمريكى فى المنطقة، ومما ضاعف شعور الباكستانيين بعدم الرضا عن قتل زعيم القاعدة بهذه الطريقة غياب رواية رسمية باكستانية محكمة لتفسير ما جرى على أراضيها، فرئيس الوزراء، يوسف رضا جيلانى، ألقى بياناً فى مجلس الشعب الباكستانى لم يلق قبولاً من المعارضة بأجنحتها الإسلامية الممثلة فى الجماعة الإسلامية والعلمانية، مثل لاعب الكريكيت الشهير عمران خان الذى اقتحم عالم السياسة وأسس حزب «الإصلاح»، ونواز شريف، الخصم السياسى اللدود لحكومة حزب الشعب الحالية برئاسة آصف على زردارى زوج بينظير بوتو.ركز بيان رئيس الوزراء على أن ما حدث نصر لباكستان فى حربها ضد الإرهاب، واعتبر ما حدث فشلاً استخباراتياً وقعت فيه أذرع المخابرات الباكستانية الرئيسية«ISI» و«IB»، لأنها لم تعرف بوجود بن لادن على الأراضى الباكستانية ولم تتنبأ بالعملية العسكرية الأمريكية التى أدت إلى مقتله.
يرفض مراقبون وعسكريون سابقون تعليق المسؤولية على شماعة الفشل المخابراتى فقط، ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، فيقول الجنرال المتقاعد «حميد جل» الذى عمل طويلا فى الاستخبارات: «عملية كهذه تحتاج دعماً لوجستياً على الأرض من السلطات الباكستانية، لا يمكن تصور أن تدخل قوة كوماندوز لتقوم بعملية إنزال وتخوض معركة لأربعين دقيقة، ثم تخلى الموقع وتنسحب حاملة جثة بن لادن، وتعود أدراجها من حيث أتت خلف الحدود الأفغانية التى تبعد 350 كيلو متراً على الأقل من موقع الحادث».
يشير الرجل الذى عرف بعدائه للوجود الأمريكى فى المنطقة إلى رواية يتناقلها كثير من المحللين العسكريين والصحفيين الباكستانيين المطالعين للأحداث، وهى أن تنسيقاً تاماً جرى بين باكستان وأمريكا على أن تقوم قوات السيلز الأمريكية الخاصة بالعملية بمظلة حماية باكستانية، وأن 4 طائرات أمريكية من طراز شينوك وأباتشى أقلعت من قاعدة «غازى» الجوية التى لا تبعد عن منزل بن لادن أكثر من 30 كيلو متراً، واتخذت نقطة إنزال على بعد أمتار قليلة، وخاضت معركتها ثم عادت بعد أن سقطت إحداها لعطل فنى أو تصادم، وأن الرادارات الباكستانية رصدت طائراتF16 أمريكية كانت تحلق بكثافة على الحدود الأفغانية بالقرب من جلال آباد تحسبا لأى طارئ. الرواية السابقة تنفيها الحكومة الباكستانية وجيشها بقوة، وفى المقابل تقول إنها تندد بما قامت به أمريكا من عمل عسكرى على انفراد ودون تعاون مع الجانب الباكستانى.
«المصرى اليوم» التقت مسؤولاً رفيعاً بالجيش الباكستانى رفض الرواية السابقة، وأكد أن العملية تمت دون تدخل من قوات جيشه، يقول الجنرال أطهر عباس، الناطق الرسمى باسم الجيش الباكستانى: «مشكلتنا مع الأمريكيين أنهم تحركوا بشكل منفرد ودون تنسيق مع باكستان»، لكنه يرى فى النهاية أن قتل بن لادن خطوة لوقف الإرهاب الذى عانت منه بلاده طويلا، ويضيف: «لقد فقدنا 5 آلاف عسكرى فى هذه الحرب، ونحو 30 ألف مدنى راحوا ضحية التفجيرات والعمليات الحربية فى إقليم القبائل ومختلف المدن الباكستانية».
وينتقد عباس إغفال الأمريكان لتضحيات الجيش والشعب الباكستانى فى الحرب على الإرهاب– على حد وصفه- ويقول رداً على مطالب أمريكية بزيادة مشاركة باكستان فى الحرب على الإرهاب: «نحن نتحرك وفقاً لمتطلبات أمننا القومى، وأمريكا تواصل الضغط للقيام بأعمال عسكرية فى مناطق يعتقد أنها تأوى عناصر من القاعدة وطالبان، ونحن نرى أننا لا يمكن أن نقوم بعمل عسكرى بكلمة من أمريكا، وحين نتحرك نأخذ فى اعتبارنا أن نكسب الرأى العام وتعاطف السكان المحليين مع أهدافنا، لا نريد أن نلجأ لاستخدام القوة ضد شعبنا، لقد نجحنا فى تطهير منطقة سوات من القاعدة وطالبان بفضل تعاون السكان المحليين، وكذلك فعلنا فى «مهمند» و«أوركزى» فى وزيرستان، وإذا كان البعض يرى أن باكستان لم تفعل ما عليها فعله من منطلق مصالحها فقط فهذه ليست مشكلتنا. قتل بن لادن فى أيبت آباد، ووضع القدر نهاية أسطورته فى هذا المكان الهادئ، لكنه عاش حياة صاخبة منذ توجه للجهاد ضد الروس فى بيشاور الباكستانية فى الثمانينيات، ثم تأسيسه لتنظيم القاعدة وتحوله للمطلوب رقم 1 فى العالم، لكن موته ينذر بهجمات انتقامية لتنظيم القاعدة وحليفه طالبان، فيما تعيش أمريكا حالة انتعاش بعد قضائها على زعيم القاعدة ربما لا تطول.