تتطلع عيون الملايين، سواء من حجاج بيت الله الحرام أو باقى المسلمين فى شتى بقاع الأرض إلى جبل عرفات العتيق، رافعين أكفهم إلى السماء بالدعاء مرددين نشيدهم الأبدى «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك».
وفى قلب هذا المشهد النورانى تتجلى قدرة الله (جل جلاله) فى عرفات ومنى ومزدلفة، مصحوبة بتمتمات الشفاه بكلمات الله الواحد الأحد، بينما قلوب الجمع الوفير وجلة بين الصدور من فرط بهاء المشهد الروحانى السنوى فى أقدس موسم إسلامى.
تلك الأجواء الروحانية التى ترفرف على المشاعر المقدسة داعبت خيال الشعراء على مر التاريخ، فأنتجوا لنا مئات القصائد والأغنيات التى تسجل جلال تلك الأيام المباركة، فجاءت أناشيد عذبة فى صورة نفحات روحانية على حنجرة أساطين الطرب لتحل البركة وتزين أرشيف هؤلاء، بينما نطرب نحن مستحضرين تلك المشاهد التى لا تنسى فى بهاء ودعة.
كانت أغنيات الحج فى القرن التاسع عشر مقصورة على المنشدين والمداحين الشعبيين وعازفى الربابة، ينشدون بالغناء قصة مناسك الحج، والتى تزدان بمديح النبى (صلى الله عليه وسلم) ومحاسنه، ونبل أخلاقه الكريمة وصفاته الجميلة والمعجزات التى اشتملت عليها سيرته الذاتية، وكان هؤلاء المداحون يمرون فى شوارع وميادين القرى والكفور والنجوع، ينشدون بداية من «طلعة المحمل» آخر شهر ذى القعدة، وهى باتجاهها نحو مكة حاملة كسوة الكعبة الشريفة، حتى رجوع الحجاج إلى منازلهم سالمين معافين وخالين من المعاصى والذنوب، وكانت تغطى هذه المدائح والتواشيح الكثير من مراحل الحج، وطقوسه، ووسائل النقل له، فمرة ينشدون فى «موكب المحمل»: «ودينى يا دليل ودينى/ ع النبى أشوفه بعينى/ النبى أهو عدا وفات/ على منى وجبل عرفات»، وينشدون فى انتظار الباخرة «يا زايرين النبى خدونى معاكم/ تركبوا البواخر وأنا أمدحه وياكم/ الباخرة عما تنادى/ يلا يا زوار الهادى/ الباخرة طالعة قدامى/ رايحة للحج التهامى/ حج النبى دا غرامى»، وقبل ركوب الحجاج الباخرة من ميناء السويس، كانوا غالبا يزورون مقام «سيدنا الغريب»، فينشدون «ياللى دعاك النبى زور الغريب قبليه / تاخدك بواخر وتروح فى الشروق قبليه»، وغيرها من الأناشيد التى كانت «تحنينا» للحجاج المسافرين، لترقيق مشاعرهم وحثهم على العودة إلى أهاليهم، وزادا للحجاج فى رحلتهم الوجدانية.
طلعت حرب سبب انتشار أغانى الحج
لم تعرف مصر أغنيات الحج، أو غيرها من أغنيات المناسبات، سواء الوطنية أو الدينية أو حتى الدنيوية بشكل ذائع الانتشار إلا بعد ثورة 1919، حيث كان هذا النوع من الغناء بعيدا تماما عن تناول الشعراء والملحنين والمطربين، وإن كانت الأغنية الدينية التى تتحدث عن الغفران والتوبة أو التى تناجى الله (عز وجل) موجودة بقوة على حناجر شيوخ الغناء، ومع ثورة 1919 ووجود موسيقار عبقرى مثل سيد درويش عرفت مصر الأناشيد والأغنيات الوطنية والدينية والدنيوية، وظلت الأغنيات التى تتحدث عن مناسبة مهمة مثل الحج بعيدة تماما عن حناجر المطربين والمطربات، حتى افتتحت الإذاعة المصرية عام 1934، وبدأت تهتم بكل المناسبات، فظهرت أغنية «الحج».
كانت البداية، وكما يقول الباحث الموسيقى الدكتور نبيل حنفى محمود: من خلال شركة «مصر للتمثيل والسينما» التى تأسست عام 1925، وشركة «مصر للملاحة البحرية» التى دشنت فى عام 1934، وإلى هاتين الشركتين الرائدتين يرجع أول ما حفظ الغناء المصرى من أغنيات الحج، حيث شهد عاما 1935 و1936 انتظام خطى ملاحة عملت عليهما بواخر «شركة مصر للملاحة البحرية» فيما بين مصر وكل من أوروبا والمملكة العربية السعودية، حيث خصصت الشركة الباخرتين «النيل والكوثر» لنقل الركاب فى رحلات صيفية بين ميناء الإسكندرية وميناءى «جنوة ومرسيليا»، بينما سُيرت الباخرتين «كوثر وزمزم» بين ميناءى السويس وجدة لنقل حجاج بيت الله الحرام، ولما كانت شركة «مصر للتمثيل والسينما»، تمتلك من الإمكانات الفنية من قاعات للتسجيل الصوتى، مما جعلها تنتج أغنيات، وبحس تجارى راق، بعد أن أنتجت فيلم «وداد» لأم كلثوم، سخرت الإمكانات التى تمتلكها لإنتاج مجموعة من الأغنيات عن الحج، واستعانت ببعض الملحنين من ذوى النشأة الدينية مثل زكريا أحمد، أحمد عبدالقادر، محمد الكحلاوى، وكانت أغنية «اشتياق الحجاج» التى لحنها وغناها محمد الكحلاوى والتى أذيعت فى الثانية عشرة من ظهر يوم الأحد «26/ 4/ 1936» هى أول تلك النوعية من الأغنيات.
وهنا يقول الدكتور نبيل حنفى: لقد زاد اهتمام شركة «مصر للتمثيل والسينما» بما أنتجت من أغنيات عن الحج، حتى إنها ضمنت أول حفلة غنائية نقلتها الإذاعة يوم الثلاثاء الخامس من يناير 1937 تحت مسمى «حفلة بنك مصر الموسيقية»، ضمنتها مجموعة من الأعمال الغنائية التى تناولت شعائر الحج من هذه الأعمال « ذهاب الحجاج» تأليف بديع خيرى، تلحين زكريا أحمد، وغناء نجاة على والتى مزج فيها بديع خيرى بين مشاعر الحج والدعاية لبنك مصر الذى كان يرأسه طلعت حرب فقال:
صون يا نبى حجاجك نالوا الشفاعة بيك
ويا بحر هدى أمواجك زمزم وكوثر فيك.
كما غنت نجاة على أيضا مجموعة من الأغنيات عن الحج منها أنشودة «عودة الحجاج» لبديع خيرى وزكريا أحمد، وفيها تقول:
«مبروك عليك الحج والفرض اتوفى».
ولم تكتفِ نجاة بهاتين الأغنيتين فقط، ولكنها قدمت أيضا أغنية «يا رايح جدة على زمزم» كلمات حسن صبحى، ألحان محمد القصبجى، فضلا عن مجموعة مواويل تتناول بعض الطقوس والشعائر فى الحج منها «سيرى يا زمزم»، و«ياللى انت رايح تحج البيت».
وقدم المطرب صالح عبدالحى، فى نفس المناسبة كدعاية لبنك مصر أغنية «ضيف النبى مكروم» كلمات بديع خيرى، ألحان محمد القصبجى، وفى عام 1937 قدمت المطربة حياة محمد أغنية بعنوان «عودة الحجاج» كلمات يونس القاضى، ولحن عبده قطر يقول مطلعها:
«الفرحة تمت يا حجاج طفنا وزرنا وحجينا
كوثر وزمزم فى الأمواج تحادينا وتسمى علينا
ما أحلى وقوفنا فوق عرفات ودخولنا فى روضة الهادى».
فريد الأطرش ينقذ سمعة أسمهان
توالت أغنيات الحج بعد ذلك، ففى عام 1938 أسندت الإذاعة بناء على طلب رائد الإقتصاد «طلعت باشا حرب» إلى المطرب فريد الأطرش أغنية كتبها بديع خيرى بعنوان «محمل الحجاج» ليقوم بتلحينها وغنائها يقول مطلعها:
«عليك صلاة الله وسلامه شفاعة يا جد الحسنين
دا محملك رجعت أيامه هنية واتهنت به العين».
وتحمس «فريد» لغنائها جدا، وبالفعل قام بأدائها وأذيعت بالفعل على مدى عام كامل بصوت فريد الأطرش، لكن بعد مرور عام وتحديدا فى عام 1939 تم طلاق شقيقته أسمهان من زوجها الأمير حسن الأطرش، وعادت لمصر من جديد، وبدأت فى تمثيل فيلم «انتصار الشباب»، لكنها قامت ببعض التصرفات الطائشة المتهورة، وبدأت الصحف المصرية تكتب عن تصرفات المطربة الدرزية وإدمانها شرب الخمر، فأحب فريد أن يثبت للجميع أن ما تنشره الصحف عار من الصحة فطلب من شقيقته إعادة غناء أغنيته «محمل الحجاج»، وبالفعل سجلت أسمهان الأغنية والتى أذيعت لأول مرة فى بداية سبتمبر عام 1939 باسم «عليك صلاة الله وسلامه».! واختفت الأغنية بصوت فريد الأطرش، وإن كان يوجد نسخة منها فى إذاعة الـ«بى بى سى» البريطانية.
نجاة الصغيرة تبدأ مشوارها بأغنية عن الحج
شهدت الأربعينات من القرن الماضى مجموعة كبيرة من أغنيات الحج لعدد كبير من الأصوات النسائية والرجالية، نذكر منها «يا جاى من مكة» كلمات السيد إبراهيم السيد، لحن وغناء سيد مصطفى، «سفر المحمل» كلمات محمد على رحيل، لحن وغناء أحمد عبدالقادر، «على بيت الله» كلمات عبدالباسط عبدالرحمن لحن وغناء أحمد عبدالقادر، وشاركته الغناء المطربة شافية أحمد، «يا هناه» كلمات إمام الصفطاوى، لحن كامل أحمد على، غناء كارم محمود، وغنى كارم أيضا فى نفس الفترة أغنيته الشهيرة «يا مسعد الحجاج» كلمات أحمد فؤاد شومان، لحن على فراج، والتى يقول مطلعها:
يا مسعد الحجاج يا هناهم والله مناى أحج معاهم
فاتوا الوطن والغربة تهون وراحوا يتهنوا فى حماه
ويمتعوا الأنظار فى جنة الأنوار.
وجدير بالذكر أن المطربة «نجاة الصغيرة» بدأت مشوارها الفنى وهى طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها بأغنية عن الحج، ولهذه الأغنية قصة، ففى عام 1946 وبالتحديد يوم الأحد 13 أكتوبر، كانت الطفلة المحبوبة لديها أول حفل جماهيرى على مسرح حديقة الأزبكية بالقاهرة، ويومها غنت «حبيبى يسعد أوقاته» لأم كلثوم، وسط تصفيق وتهليل جمهور الحاضرين، ومن بين هؤلاء كان الإذاعى محمد محمود شعبان الشهير بـ«بابا شارو»، الذى أعجب بحلاوة صوت «نجاة الصغيرة»، وطلب من والداها الذى كان يصحبها زيارته فى اليوم التالى فى مكتبة فى العمارة رقم 5 بشارع شريف، حيث مكاتب موظفى الإذاعة، وحضرت نجاة ونظرا لعدم حاجتها لاختبار مسبق فقد اصطحبها مباشرة إلى ملحن ركن الأطفال الموسيقار «أحمد خيرت»، ليلقنها نشيدا كان قد ألفه ولحنه استعدادا للاحتفال بعيد الأضحى ومناسك الحج بعنوان: «طوفوا ببيت الله يا معشر الحجاج»، لتكون هذه الأغنية ثانى أغنية خاصة للطفلة الشهيرة بعد أغنيتها الأولى «غنى يا كروان»، الطريف أن المطربة أنهت غناءها الدينى بأغنية أيضا عن الحج بعنوان «لبيك اللهم ما لبيك» كلمات أحمد شفيق كامل، وتلحين محمد عبدالوهاب، وبينهما أغنية «يا رايحين أرض الكرامة» تأليف عبدالفتاح مصطفى ألحان محمد الموجى.
أم كلثوم تستعير «إلى عرفات الله» من «نجاة على»
فى نهاية عام 1949 راقت للمطربة «نجاة على» قصيدة للشاعر الكبير أحمد شوقى بعنوان «إلى عرفات الله» فقررت غناءها، وأسندت كلماتها للملحن الكبير عبدالفتاح بدير، الذى قام بتلحينها لتتلقفها الإذاعة وتذيعها أول أيام أكتوبر عام 1949، الموافق التاسع من ذى الحجة، وتستمع إليها كوكب الشرق أم كلثوم، وتعجب بكلماتها جدا، لكنها تبدى ملاحظات مهمة على لحن عبدالفتاح بدير، وتقديمه للقصيدة، كما كتبها أمير الشعراء دون تغيير فى كلماتها، وتستأذن «نجاة على» فى غنائها مرة أخرى بلحن آخر، فتوافق نجاة، وتطلب أم كلثوم من الشاعر الكبير أحمد رامى تغيير بعض الكلمات للخروج بالنص من الخاص إلى العام، حيث قام رامى بتعديل مطلع القصيدة من «إلى عرفات الله يا بن محمد»، كما غنتها «نجاة على» ليصبح «إلى عرفات الله يا خير زائر»، كما قام بتغيير قول شوقى «إذا زرت يا مولاى قبر محمد» ليصبح «إذا زرت بعد البيت قبر محمد»، وبهذا جرد نص الأغنية من براثن المديح ليصبح صالحا للتعبير عن كل حاج.
كما تجاوز «رامى» عن كثير من الأبيات فى القصيدة المكونة من 63 بيتا، والتى يمدح فيها «شوقى» الخديو ويصف موكبه، واختار فقط 25 بيتا بزيادة 12 بيتا عن الأبيات التى اختارتها «نجاة على»، وفى السادس من ديسمبر عام 1951 تقف أم كلثوم لتغنى هذه الرائعة بعد تنقيحها فتسلب ألباب وعقول المستمعين، وتصبح هذه القصيدة التى كتبها شوقى عام 1910 معتذرا للخديو عباس حلمى عن تهربه من الاستجابة لدعوته له بمصاحبته فى أداء فريضة الحج، هى الأغنية الأشهر فى التعبير عن مشاعر المسلمين ورغبتهم العارمة فى الفوز بالمشاركة فى أداء هذه المناسك واستكمال أركان الإسلام طوال المائة عام الماضية، جدير بالذكر أن أم كلثوم قدمتها مصورة مع البدايات الأولى للتليفزيون، وأخرجها المخرج السينمائى أحمد بدرخان عام 1963.
الرئيس السادات يحضر تسجيل «بشاير»
تعد فترة الخمسينات مع اندلاع ثورة يوليو عام 1952 هى المرحلة الذهبية لتقديم شتى أنواع الأغنيات، سواء الوطنية أو الوصفية أو الدنيوية، مثل أغنيات «الربيع والصباح والزهور»، وغيرها، ومن بين هذه الأغنيات برزت أغنيات الحج وازدهرت، فقدمت المطربة التونسية حسيبة رشدى المقيمة فى مصر أغنية «عودة الحجاج» كلمات محمد فتحى مهدى، ألحان سعيد فؤاد، وغنى عبده السروجى «يا اللى دعاك الداعى» ألحان سيد شطا، وأنشدت شافية أحمد «سبع حجات»، كلمات محمد رخا، ألحان كامل أحمد على، وغنت فيفى ماهر «يا سيدنا ونبينا» كلمات إبراهيم رفعت ألحان أحمد صبره، وأبكى أحمد عبدالقادر المستمعين بأغنيته التى لحنها «عرفات» كلمات محمد إسماعيل عز، وقدمت المطربة فايدة كامل قصيدة «طواف» كلمات صالح على شرنوبى، ألحان عبدالعزيز محمد، ولمع سيد مصطفى بقوة كملحن ومطرب وهو يغنى «من فوق جبل عرفات» كلمات عبدالفتاح شلبى، وقدم إبراهيم حمودة رائعته الدينية «حمامات الخير» كلمات الإمام البرعى، ألحان أحمد عبدالقادر، وغنى المطرب الشعبى السيد فرج السيد «حج مبرور» كلمات عبدالفتاح شلبى.
وكانت أشهر هذه الأغنيات أو أغنية هذه المرحلة، هى «بشاير» كلمات مرسى جميل عزيز، ألحان عبدالعظيم عبدالحق، وغناء سيد إسماعيل، والتى قدمها عام 1951، ومازالت تتردد بقوة حتى اليوم، وعن هذه الأغنية قال لى المطرب والملحن الكبير «سيد إسماعيل»، فى حوار مسجل: «فى فترة من الفترات حدث خلاف بسيط بين الموسيقار الكبير أحمد صدقى والمطرب محمد عبدالمطلب، فقرر صدقى أن يعطينى الأغنيات التى كان من المقرر أن يغنيها عبدالمطلب، رغم أننى كنت فى بداية المشوار ولا أحد يعرفنى، وبالفعل غنيت من ألحانه وكلمات بلدياتى مرسى جميل عزيز ثلاث أغنيات، هى (حتى أنت يا قلبى، وبأصعب على روحى، علشان بدك ترضينى)، ونجحت الأغنيات بقوة، وجعلت اسمى يتردد فى الوسط الفنى، وفى أحد الأيام، وبعد نجاح الأغنيات مباشرة، كنت فى الإذاعة فوجدت محمد حسن الشجاعى، رئيس قسم الموسيقى والغناء فى الإذاعة يعطينى كلمات أغنية (بشاير) لمرسى جميل عزيز الذى كان موجودا فى مكتبه، وطلب منى أن أقوم بتلحينها وغنائها، ورحب مرسى جميل بهذا الاقتراح، لكننى عندما قرأت كلمات الأغنية شعرت بخوف ورهبة لأنها تتكلم عن الحج وطقوسه، فقررت إسناد تلحينها لصديقى الملحن عبدالعظيم عبدالحق، وبالفعل لحن عبدالحق الكلمات من أجمل ما يكون، ويوم التسجيل فوجئت بوجود شاب أسمر، كانت الصحف كتبت عنه من سنوات عندما اتُهم بمقتل أمين عثمان ودخل السجن، كان هذا الشاب هو الرئيس الأسبق محمد أنور السادات الذى تربطه علاقة صداقة وطيدة بأسرة عبدالعظيم عبدالحق، وحضر التسجيل فى استديو 1 فى الإذاعة، ويومها هنأنى وهنأ عبدالحق، وتوقع النجاح للأغنية، وهو ما حدث بالفعل». ولم تكن أغنية بشاير هى الوحيدة التى قدمها سيد إسماعيل عن الحج، وإن كانت الأشهر، فقدم (الكعبة) كلمات عبدالفتاح مصطفى، و(على عرفات الله) كلمات مصطفى عبدالرحمن، و(الحجاج) كلمات إبراهيم رجب.
أنور وجدى يهزم إسرئيل بـ «يا رايحين للنبى الغالى»
حملت جريدة الأهرام للمطربة ليلى مراد خبرا غير سار، حيث نشرت الجريدة فى عام 1952 - كما جاء فى كتاب «الوثائق الخاصة لليلى مراد» للكاتب والناقد الفنى أشرف غريب- منع الحكومة السورية عرض أفلام ليلى مراد وإذاعة أغانيها من راديو دمشق، لأنها زارت إسرائيل وتبرعت بخمسين ألف جنيه، ونزل الخبر على الجمهور وعلى رأس ليلى مراد كالصاعقة، ورغم عدم وجود «ليلى» فى مصر إلا أنها نفت ما نشر بقوة، وكذلك بادرت بالتقدم إلى القنصلية المصرية فى باريس بطلب بيان تحركاتها هناك منذ وصولها فرنسا وحتى تاريخه.
ولم يقف أنور وجدى مكتوف الأيدى، ولكنه سخّر ذكاءه للمرور من هذه الأزمة أو الكارثة، فطلب من الكاتب والمؤلف السينمائى والمسرحى والغنائى أبوالسعود الأبيارى مؤلف فيلم «بنت الأكابر»، وكما قال الإبيارى لمجلة أهل الفن، أن يضع أغنية عن الحج لليلى مراد وهى تودع جدها «زكى رستم» المقرر سفره حسب السيناريو لأداء فريضة الحج، وهنا يضرب عصفورين بحجر، أولا يؤكد إسلام «ليلى مراد» لبعض المشككين، وثانيا يبطل مزاعم وشائعات إسرائيل التى رددتها فى الصحف، وبالفعل غنت ليلى بصوت كله خشوع وإيمان أغنيتها أو أيقونتها الشهيرة «يا رايحين للنبى الغالى» التى تتردد بقوة كل عام رغم مرور 65 عاما على غنائها.
يغنون لمناسك الحج رغم ديانتهم المسيحية
لم تقتصر أغنيات الحج على المطربين المسلمين فقط، ولكن فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات شهدت تقديم مجموعة من المطربين المسيحيين لأغنيات دينية عن الحج، وهذا يدل على أن المجتمع المصرى والعربى لم يعرف فى هذه الفترة الفتنة الطائفية الدينية، وعاش أجواء من التسامح الدينى، كانت البداية عام 1947 مع المطربة اللبنانية «لوردكاش» التى لحنت وغنت لمؤلف مسيحى يدعى جبران كوينى قصيدة «هذا الحجيج أقبل» وتمت إذاعة هذه الأغنية يوم 19 سبتمبر عام 1947، كما قدمت المطربة «ألكسندرا بدران» الشهيرة «بنور الهدى» فى فيلمها «أفراح» عام 1950، والذى قامت ببطولته مع محمود ذوالفقار، وأخرجه نيازى مصطفى، أغنية بعنوان «الحج» كلمات حسن توفيق، ألحان عبدالعزيز محمود، يقول مطلعها:
مبروك يا حاج وعقبالنا بحجها ويرتاح بالنا
يا سعدك زرت الكعبة وطفت بالصفا والمروة
يا ريتنا كنا معاك صحبة ومن عيون زمزم نروى
وقفت فوق عرفات يا حج بيت الله
وفزت بالبركات يا حج بيت الله.
وفى فترة الستينيات من القرن الماضى، قدمت المطربة «فيروز» رائعتها «غنيت مكة» كلمات الشاعر الكبير سعيد عقل، ولحن الأخوين رحبانى وفيها تتغنى بمكة وبالحج، فتقول فى أحد كوبليهاتها:
لو رملة هتفت بمبدعها شجوا لكنت لشجوها عودا
ضج الحجيج هناك فاشتبكى بفمى هنا يغر تغريدا
وأعز رب الناس كلهم بيضا فلا فرقت أو سودا
لا قفرة إلا وتخصبها إلا ويعطى العطر لاعودا
ويغنى قديس الغناء وديع الصافى رائعته «مكة» من ألحانه وكلمات الشاعر حسن عبدالله القرشى والتى يقول مطلعها:
تهادى على راحتيها الصباح
وشعشع فى شفتيها القمر
وازهت بها الشمس فوق البطاح
وجن بها الليل حلو الصور
وفيها انجلى الحق للعالمين
وفاض الضياء بها وانتشر
محمد فوزى يدشن أغنيات الحج سينمائيًا
كانت السينما المصرية بعيدة تماما عن تقديم أغنيات المناسبات المختلفة حتى نهاية الأربعينيات عندما قدم المطرب الجميل محمد فوزى أغنية «الحج» فى فيلمه «حب وجنون»، الأغنية بعنوان «الله أكبر» كلمات عبدالعزيز سلام، والتى يقول مطلعها:
الله أكبر الله أكبر ياللى زرت البيت وللحرم حجيت
من زمزم اتوضيت وع النبى صليت
نادى الهوى لبيت من فوق جبل عرفات
وبالسلامة جيت وعدت بالبركات
وقدم فوزى أيضا «تلبية» التى كتب كلماتها أبو نواس، والتى تبدؤها المجاميع بـ«لبيك قد لبيت لك، لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك»، وأيضا قدم مداح الرسول الشهير بالحاج محمد الكحلاوى العديد من أغنيات الحج، منها أغنية «الحج» التى كتبها كمال محمد وقدمها الكحلاوى فى فيلم «الصبر جميل» عام 1951 والتى يقول فى بدايتها:
الأولة آه يا فرحكم يا هناكم
والثانية آه نور النبى دعاكم
والثالثة آه بروحى معاكم
أشوف حبيب الله وأقول لعينى آه
جولك صفوف وألوف يا بومقام عالى
وقلبهم ملهوف يارب عقبالى.
من أشهر أغنياته فى الحج أيضا «يا ساكن أرضك الطاهرة» ويقول فيها:
«ركبنا البحر والصحرا عشان نوصل لأعتابك
نبينا رسول ربك أنا جيت لك أزور وأطوف
وطمعان يا نبى فى حبك وطمعان معايا ألوف».
وله أيضا «مدد يا نبى» وفيها:
أنا جيت أزورك يا نبى وأقول مدد
شاهدت نورك يا نبى زاد المدد.
وشاهدنا فى فيلم «بلال مؤذن الرسول» عام 1953 أغنيتين عن الحج بصوت المطربة فاطمة على، كلمات محمود بيرم التونسى، ألحان يوسف صالح أولها يقول مطلعها: «على سير الجمال والله نعيد القول يا حادى/ على حجاج بيت الله وزوار النبى الهادى»، والثانية «يا نور محمد» التى تقول فيها: «يا نور محمد على أرض الحجاز هليت/ ومعاك جبريل يرفرف على الحرم والبيت».
كوكب الشرق تشدو «القلب يعشق كل جميل»
مع نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات بدأت تقل أغنيات الحج، فلم تُقدم أغنيات بنفس الكثرة التى كانت موجودة فى العقود الماضية، فلحن المطرب عبدالعزيز محمود وغنى أغنية بعنوان «يا قاصدين النبى» كلمات سيد مرسى، وغنت المطربة آمال حسين «الحجاج» كلمات محمد إسماعيل، لحن عزت الجاهلى، ورجع وقدم المطرب أحمد عبدالقادر لأغنيات الحج وأنشد «إمتى نعود لك يا نبى» كلمات حسين حلمى المانسترلى، ألحان رياض السنباطى، وينشد الشيخ سيد النقشبندى «سعينا مع الطائفين» كلمات محمد يس قاسم، تلحين سيد إسماعيل، وينشد عبدالغنى السيد واحدة من أجمل أغنياته الدينية «يا حاج بيت الله يا هَنَاك» كلمات إبراهيم رجب ولحن مرسى الحريرى والتى يقول فيها: «حتكون على عرفات مبروك هنيالك/ وفى ساعة الدعوات خلينا على بالك/ واطلب من الرحمن يكتب لنا الغفران/ باب السماء مفتوح لدعاك»، ولمحمد قنديل عدة أغنيات، منها «أهلا بضيوف الرحمن» كلمات نبيل الفكهانى، لحن فتحى حجازى، «فى نور الله» كلمات حسين السيد، لحن أحمد صدقى، وتتحدث عن الشوق للحج وأداء الفريضة والدعاء على عرفات ومنى.
وقبل رحيله، أهدى الشاعر بيرم التونسى أم كلثوم كلمات تتحدث عن الحب الإلهى وعن السلام الذى فى داخل نفس الإنسان الذى يتحقق بزيارة البيت الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، بعنوان «القلب يعشق كل جميل»، وأعطت ثومة الكلمات للموسيقار زكريا أحمد لتلحينها، وبعد استماع كوكب الشرق للأغنية طلبت بعض التعديلات اللحنية فرفض زكريا أحمد، وأرسل الأغنية بصوته للإذاعة البريطانية لتذيعها، واحتفظت سيدة الغناء بالكلمات، وفى بداية السبعينيات أعطتها للموسيقار رياض السنباطى، وقدمتها فى آخر حفل لها، كما قدمت أيضا للسنباطى «الثلاثية المقدسة» كلمات صالح جودت، وقبل رحيله بأيام، غنى محمد عبدالوهاب «لبيك اللهم لبيك»، التى أعادت المطربة نجاة الصغيرة غناءها مرة ثانية.
آخر أجيال الطرب الكبار
مع بداية عصر الثمانينيات والتسعينيات تقلصت أغنيات الحج، واقتصرت فقط على المطربين الحقيقيين الذين يمتلكون وعيا وثقافة وصوتا، فقدم هانى شاكر أغنية «سفينة الحجاج» كلمات محمد كامل بدر، وألحان عطية نصير، وغنى إيمان البحر درويش أغنية للحج، تحدث فيها عن فرحة المسلم بالتواجد فى الكعبة والطواف حولها، وزيارة الرسول، بعنوان «يا فرحة الملتقى»، وأنشد محمد ثروت أكثر من أغنية، مثل «مواكب الحجاج» كلمات فوزى الشلقانى، وألحان الموجى الصغير، «كبرت باسم المولى» و«أنا واقف على عرفات»، وغنت فاطمة عيد واحدة من أغانى تراث الغناء الشعبى، والمعروفة باسم «رايحة فين يا حاجة»، تتغنى بها النساء فى قرى مصر، وتقول كلمات الأغنية «رايحة فين يا حاجة يا أم شال قطيفة رايحة أزور النبى محمد والكعبة الشريفة»، وتغنى أيضا «ربك كتبهالك» كلمات عبدالرحمن سيد الأهل ولحن أحمد صدقى، ويغنى أحمد إبراهيم «لبيك» كلمات سامى أبو النور، وألحان محمد عبدالقادر، وتهدينا زينب يونس أكثر من أغنية منها «يا فرحة الحجاج» كلمات حياة أبوالنصر وألحان فتحى حجازى.
وبعد استعراض أغانى الحج التى اختفت بنكهتها النورانية التى تخاطب وجدان المسلمين فى كل بقاع الأرض، نتعجب من اختفائها فى الوقت الراهن من جانب مطربين لا يجيدون إلا الصخب والضجيج الغنائى الذى لا يخاطب الروح التواقة إلى الغناء، ولكن يداعب أجساد الأجيال الحالية، فتحية تقدير واحترام لأساطين الغناء الذين تغنوا للحج ليبقى شدوهم نفحات نورانية تضىء أرشيفهم إلى أبد الآبدين.