فى صباح الخامس والعشرين من يناير، خرج الشباب يطلبون الحرية والديمقراطية، وفى الثامن والعشرين من يناير، شارك الإخوان المسلمون فى جمعة الغضب.. وفى 19 مارس، شارك المصريون فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية.. ومن يومها تغير المشهد.. الميدان الذى كان رمزاً لمصر خرجت منه طوائف وتيارات واتجاهات ومعارك وصراعات وفتن.. وبمرور الوقت ورغم المحاولات المضنية لشباب الثورة، بدا أن الشعب انفصل عن «التحرير»، مدفوعاً إلى وجهة أخرى قادها الذين انتبهوا إلى ضرورة التواجد فى الشوارع والحوارى والأزقة والأرياف دون الميادين التى كانوا يستغلونها أحياناً فى «استعراض القوة».
لم يرسم الذين نزفوا دماءهم فى ميادين الحرية، صورة لما سيأتى، كانوا يريدون الحرية والكرامة فحسب، ونالوا الشهادة، ونالت مصر «الحرية والعدالة».. هذا ما يختصر به الثوار المشهد الحالى للبلاد، بعد المرحلة الأولى للانتخابات التى اكتسحها الإسلاميون، بقيادة حزب «الحرية والعدالة» التابع لجماعة الإخوان المسلمين، يليهم السلفيون بزعامة حزب النور.
القراءات البعيدة للحالة المصرية تذهب إلى تفسيرات متطرفة لنجاح الإسلاميين، والقريبون الذين يعرفون طبيعة المصرى يدركون أنه أبعد ما يكون عن التطرف، متدين لكنه مولود بالسماحة بفطرته.. ما الذى حدث إذن، ولماذا لجأ المصريون إلى الذين قالوا لهم إن السياسة الصحيحة تبدأ باللجوء إلى السماء، ولماذا قرروا أن يمنحوا الفرصة لرافعى الشعارات الدينية؟!
«المصرى اليوم» لا تحاول أن تحلل نتائج الانتخابات، فهى واضحة، لكنها تريد أن تساعد قارئها على معرفة: لماذا جاءت هذه النتيجة، تطرح الأسئلة على الرابحين والخاسرين والمحللين والخبراء والسعداء والمحبطين، وتأتى بالإجابة من أصحاب القرار الذين وقفوا فى طوابير الاحتفال بأول انتخابات حرة فى تاريخ مصر. ومثلما كنا أول من طرح السؤال الصعب: «مصر إلى أين؟»، فإننا نطرح السؤال الأكثر صعوبة: «الشعب إلى أين؟»..
د. أحمد عكاشة: مؤيدو الإسلاميين يريدون مَنْ يحقق لهم متطلبات الحياة والجنة
هل كانت مفاجأة أن يمنح المصريون الإسلاميين اكتساحاً فى المرحلة الأولى من الانتخابات؟ وهل تتعارض تلك النتائج مع وسطية الشعب واعتداله؟ هل يريد المصريون حقاً أن يحكمهم رجال يتكلمون باسم الدين؟ أسئلة ربما لا تحتاج إلى سياسيين، لأن الكلمة كانت للأغلبية، والأغلبية تحتاج إلى من يقرأ اختياراتها ويغوص فى دوافعها.
يقول الدكتور أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسى، رئيس الجمعية العالمية للطب النفسى، إن نتائج المرحلة الأولى تؤكد أنها ليست انتخابات سياسية وليست لها علاقة بالبرامج الانتخابية أو المصلحة العليا لمصر، بل كانت انتخابات طائفية بين 3 تيارات: إسلامية وعلمانية وقبطية، وهو الأمر الذى يؤكد أن طبيعة المصرى مختلفة فى فهم الديمقراطية.
ويوضح أن طبيعة ميول المصريين للإسلاميين التى بدت واضحة من نتائج الانتخابات تختلف من شخص لآخر، فمن أقدم على انتخاب السلفيين له دوافع ومبررات تختلف عن المتمسكين بالإخوان المسلمين.
«ما حدث يؤكد فكرة أن الانتخابات لا تعبر إطلاقاً عن المجتمع المصرى، فهناك 50% تحت 30 سنة أغلبهم لم يشاركوا فى الانتخابات ولا وجود لهم تحت قبة المجلس، وكذلك 50% من النساء، وما يقرب من 10% أقباط فقدوا الأمل فى النتائج فلم يذهبوا للترشح من الأساس، فإذا كانت نسبة من المجتمع لا تمثيل لها بالنسبة لعددهم فإن النظام الانتخابى المأمول لم يحدث بعد».
وينتقد «عكاشة» استمرار الانتخابات على مدى 3 شهور، فيما يقول الواقع إن الشعب «نفسه قصير» أو يمل سريعاً وسرعان ما تذهب حماسته تجاه الحدث. لذلك سيكون المشاركون فى الانتخابات أقل وأقل بمرور الوقت.
فالمصرى بطبيعته غير قادر على المثابرة والإصرار لمدة طويلة، وأكبر دليل على ذلك أن من ذهب فى المرحلة الأولى لم يذهب فى الإعادة، فما بالك بمن ينتظر دوره بعد 3 أشهر، بالطبع ستكون النتيجة مخزية وغير معبرة على الإطلاق لكل فئات الشعب كما يظن البعض.
يرصد رئيس الجمعية العالمية للطب النفسى مجموعة من التفاصيل الخاصة جدا بالمواطنين الذين منحوا أصواتهم للتيار السلفى ويختصرها فى نقاط محددة:
- غالبيتهم من الفقراء والجهلاء.
- يعتقدون أن كلمتى «الحرية والديمقراطية» من المصطلحات الخاصة بسكان المدن فقط.
- مصدر ثقافتهم الوحيد هو خطيب المسجد، ثم القنوات الدينية.
- بعضهم فقد متعة الدنيا فبدأ البحث عن الطريق إلى الجنة وهى رسالة السلفيين دائماً.
- أكثرهم من الفقراء بدرجة كبيرة والباحثين عن قوت يومهم كأقصى طموحهم.
- يبحثون عن الجانب المحافظ ويلجأون إلى من يعتبرونهم أكثر إيماناً ومعرفة بالدين.
- يبحثون عن الحياة الكريمة اجتماعياً واقتصادياً بعيداً عن أى فكر سياسى.
- محبطون يعانون شقاءً شديداً فى حياتهم ويبحثون عن كل ما هو عكس النظام السابق.
- نساؤهم لم يذهبن للانتخاب، بل للبحث عن الحق، والمقصود به الدين وليس السياسة.
تختلف دوافع وشخصيات مؤيدى الإخوان بصورة كاملة عن مؤيدى السلفيين رغم أن المنبع يبدو ظاهرياً واحداً لكليهما. ويحدد الدكتور أحمد عكاشة ملامح ناخب الإخوان فى:
- يبحثون عن متطلبات الحياة ومن يحقق لهم ذلك.
- هناك من تعاطف معهم بسبب تاريخهم مع الاضطهاد رغم تعاقب الأنظمة.
- أكثرهم تواصلوا معهم على مدى أكثر من 60 سنة من خلال أرضية قوية.
- باحثون عن الوسطية لخوفهم من التشدد الذى ظهر به السلفيون.
- نسبة فهمهم للإسلام المستنير فى الثقافة والتعليم متوسطة لا يمكن القول إنهم جهلاء.
- لديهم وعى سياسى متواضع وأكثرهم فقراء أيضاً.
- أغلبهم استفاد بخدماتهم من مستوصفات ومدارس ومراكز تعليمية بأسعار رخيصة.
سياسيون: الشعب يطبق نظرية «خلينا نجرب»
قال عدد من الخبراء والسياسيين إن نسبة التصويت المرتفعة للتيار الإسلامى بشكل عام وحزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص فى المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب- تعود إلى عدة عوامل منها التواجد القديم لجماعة الإخوان منذ عام 1928، والعمل داخل المجتمع ومساعدة الفقراء وتوزيع السلع التموينية، كذلك حجم القدرات المادية والبشرية والدعاية الضخمة لحزب الحرية والعدالة، إلى جانب ضعف باقى المرشحين والأحزاب إلا فى حالات فردية.
ويوضح أحمد دراج، المنسق العام المساعد للجمعية الوطنية للتغيير، أن الكشف عن كم الفساد الكبير فى مصر من رموز النظام السابق دفع الناخبين إلى اختيار من يتصورون أنه غير فاسد، بالإضافة إلى بساطة الشعب المصرى الذى يذهب إلى الانتخابات، ولا يعرف إلا حزب الإخوان الذى يتفاعل مع الطبقات الفقيرة من خلال قوافل العلاج والمساندات والعطف، وأرى أن اختيار الناخب لهم كان على هذا الأساس.
وأضاف دراج أن هناك إحساساً لدى بعض الناخبين بالرغبة فى التصويت للرابح، ويتصورون أن من سيكسب هو جماعة الإخوان وحزبها، ولذلك يصوتون لها، إلى جانب تعاطف جانب كبير من الناخبين معها لأنها فى نظرهم تعرضت للظلم منذ نشأتها.
وأوضح محمد الأشقر، المنسق العام لحركة كفاية، أن إمكانات الإخوان الدعائية هائلة، إلى جانب تركيزها على البعد الدينى أكثر من أى قوى أخرى ما دفع الناس لاختيار مرشح الإخوان، بالإضافة إلى ضعف المرشحين الآخرين، فمعظمهم لا يعرفه الناس، وفترة الدعاية الانتخابية كانت قصيرة.
وقال الأشقر: «جماعة الإخوان وحزبها يتعاملون بنفس أسلوب الحزب الوطنى لأنهم يأخذون بطاقات الرقم القومى من المواطنين لضمان التصويت لهم مقابل حقائب السلع التموينية، إلى جانب ذهاب أعداد كبيرة من الناخبين إلى اللجان خوفاً من الغرامة، ولا يعرفون إلا الإخوان فيصوتون لهم».
ويرى النائب مصطفى بكرى، عضو مجلس الشعب الفائز فى الجولة الأولى، أن التصويت للإخوان والتيار الإسلامى ليس مرتبطاً بتوجه أيديولوجى وعقائدى بل مرتبط أكثر بالعوامل الخدمية، كما أن الناخب يشعر بالملل من الوجوه القديمة، ويتعاطف مع الإخوان الذين تعرضوا للقمع على مدار تاريخهم.
وأضاف بكرى أن الناخب ذهب للتصويت لمن هو أقرب إليه انطلاقاً من الإحساس بالأمان لكل من أدى دوراً اجتماعياً، أو تعرض لقهر من السلطة أو اقترب من التقوى والدين، ولكل هذا اختار الناخبون التيار الإسلامى والإخوان المسلمين.
وقال علاء عبدالمنعم، عضو مجلس الشعب السابق، إن هناك كتلة تصويتية ثابتة تذهب للإخوان، بالإضافة إلى جزء كبير متأثر بالشعارات الدينية، وطبقة ثالثة تتجه للتصويت للإخوان انطلاقاً من فكرة «خلينا نجرب» طالما أننا نستطيع تغييرهم إذا أخفقوا فى المرة القادمة، أما الشريحة الأخيرة فهى شريحة المستفيدين من السلع التموينية والخدمات المباشرة التى يحصلون عليها.
وقال الدكتور عمرو هاشم ربيع، خبير النظم السياسية بمركز الأهرام للدراسات، إن جماعة الإخوان منذ تأسيسها عام 1928 تقدم خدمات دورية وسلعاً للمواطنين وتقوم بتوزيع اللحوم مجاناً أو بثمن رمزى، وأضاف أن هناك كتلة تتعاطف معهم بسبب الاعتقالات والمحاكمات العسكرية وغيرها، إلى جانب أننا مجتمع متدين ويتأثر بمن يتحدث باسم الدين ويصوت له.
سألنا الذين منحوا أصواتهم للإسلاميين فقالوا: ناس طيبين ويعرفوا ربنا
فى أسيوط قال محمد نبيل، إنه صوت للإسلاميين، وخاصة حزب «الحرية والعدالة»، لرغبته فى تطبيق النموذج التركى على أرض مصر، وتجربة رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان، التى اعتبر أنها صنعت تركيا من العدم والفوضى، وجعلتها دولة إسلامية متقدمة يخشاها العالم، معرباً عن أمله فى أن يطبق إسلاميو مصر هذه التجربة، وفى حالة لم يحققوا ما انتخبهم الناس من أجله، فإن الميدان- يقصد التحرير- موجود ولن نقبلهم.
وقال أشرف على إسماعيل، حاصل على ليسانس لغة عربية، إنه صوت للاسلاميين لأنهم يريدون الإصلاح والتغيير، وسوف تنصلح أحوال الناس فى حالة قيام الدولة على أسس إسلامية صحيحة، ويستفيد منها الأقباط قبل المسلمين، مشيراً إلى أن البديل الآخر كان اختيار مرشحى أحزاب ضمت فلول «الوطنى»، وهو ما يرفضه تماما، أو أحزاب ضعيفة فى نشأتها ولا تعرف السياسة جيدا، وأضاف: «سوف نعطيهم الفرصة لإثبات حسن نواياهم، وإذا فشلوا فتغييرهم سيكون حتميا».
وقالت رشا دياب، مدرسة، إن السبب الرئيسى وراء اختيارها الإسلاميين، هو التكتل القبطى الذى وجدته أمام اللجان وتسبب فى غيرتها على الإسلام، فصوتت للإسلاميين، ولو أنها لم تر هذا المشهد لفكرت فى حزب آخر.
وفى الإسكندرية قالت زينب الدويك، ربة منزل،: «أعطيتهم صوتى لأن خدماتهم مغرقانى، وفى كل مناسبة يفتكرونى، وعارفين ربنا كويس، وأنا لا أعرف القراءة والكتابة، ولكننى أعرف أنهم بيخدموا الناس كلها».
وقالت كوثر محمد السيد، ربة منزل، إن تصويتها لصالح الإسلاميين كان استجابة لطلب زوجها الذى قال لها إن الإسلاميين «كويسين وهينفعونا وهينفعوا العيال». وقال محمد فؤاد، طالب جامعى: «انتخبت حزب النور تلبية لرغبة والدى الذى يميل إلى فكر التيار الإسلامى خاصة السلفى، رغم أنه لا يعرف بقية المرشحين سواء المستقلين أو مرشحى الأحزاب».
وأرجعت نورهان سعيد، طالبة جامعية، اختيارها للإسلاميين إلى أن غالبية التيار الإسلامى، خاصة السلفيين يدخلون الحياة السياسية لأول مرة فى تاريخهم، وبالتالى لابد من إعطائهم الفرصة دون النظر إلى محاولات البعض تخويف المجتمع منهم.
وفى كفر الشيخ قال محمد النحاس، من برج البرلس: «انتخبت قائمة الإخوان المسلمين، لأن الإخوان معروفون سياسيا منذ 80 سنة، ويمارسون السياسة منذ هذا التاريخ، ولديهم خبرة سياسية ومن حقى الاعتراض عليهم فى أى وقت، أما السلفيون فيتحدثون باسم الدين ولا يجوز الاعتراض عليهم، لذا لم أصوت لهم، لأن ذلك مخالف للديمقراطية، حيث يرفضون أى رأى يخالفهم، وأثناء الثورة كانت آراؤهم ضدها، وكانوا يعتبرون الموجودين فى ميدان التحرير، خوارج، والضحايا ليسوا شهداء».
وقال إسماعيل القلفاط، محام من البرلس،: «انتخبت قائمة الحرية والعدالة لأن الإخوان تيار معتدل مقارنة بالسلفيين، فضلاً عن علاقتى بأحد المرشحين فى القائمة».
ورأى مصطفى عبدالمطلب، ترزى من مدينة دسوق، أن الإخوان قضوا سنوات طويلة فى المعتقلات لإبعادهم عن الحياة السياسية، وأنه انتخبهم لأنهم من حقهم أن يأخذوا فرصتهم ثم يتم تقييمهم بعد ذلك.
وفى بورسعيد قال محمود صابر، إخصائى اجتماعى بالمستشفى العام، إنه اختار حزب الحرية والعدالة، لأنه معتدل ولديه كوادر قادرة على تقديم حلول لمشاكل مصر، وأن الإسلام فى نظرهم دين ودولة.
وقال إيهاب حسين، يعمل بالقطاع الخاص، إنه اختار حزب النور، نكاية فى حزب «الحرية والعدالة» الذى اتهمه بالعداء للسلفيين.
وقال حامد فاروق، موظف، إنه اختار حزب النور، لاقتناعه التام بضرورة تطبيق الشريعة فى حياتنا، لأن كلمة الله يجب أن تكون فوق الجميع، كما أنه حزب لديه رؤية سياسية دينية جيدة.
وفى الفيوم قال أحمد صلاح، دبلوم فنى صناعى: «انتخبت الأحزاب الإسلامية لأننى مسلم ويجب أن أناصر الإسلام، وأعتقد أن برامجهم بها الكثير من المزايا غير المتاحة فى الأحزاب الأخرى».
وقال إسلام حسن، صاحب مكتبة: «الإسلاميون هم رجال هذه المرحلة والأصلح والأقدر على تولى شؤون المسلمين، والأحزاب الأخرى لم تقدم شيئا كى أنتخبها».
وقال محمد سيد محمود، مأمور ضرائب، إن الأحزاب الإسلامية لها مصداقية فى السلوك الفردى وسوف تحقق كل ما يتمناه الشعب.
وفى دمياط قال عبدالسلام محمود، موظف على المعاش: «انتخبت الإخوان لأنهم تعرضوا على مدار سنوات حكم الرئيس السابق حسنى مبارك، للقمع والاضطهاد، وتم اعتقال الكثير منهم، ومن حقهم ممارسة العمل السياسى». وقال سامى الطويل، نجار: «اخترت السلفيين لأنهم ناس طيبين وبتوع ربنا، ولم تلوثهم السياسة».
وقالت سحر طلعت، موظفة بمديرية الزراعة: «انتخبت الإسلاميين لأنهم مش هيسرقوا أو ينهبوا زى بتوع الحزب الوطنى المنحل». ووصف حمدى الزفتاوى، ترزى، السلفيين بأنهم طول عمرهم غاويين أعمال الخير.
وفى البحر الأحمر اعتبر عبدالحق وزيرى، مدرس أزهرى، أن الإخوان هم الأحق بإدارة أمور البلاد، لأن النظام السابق ظلمهم، ويجب منحهم الفرصة لإدارة البلاد.
ويرى أحمد بشرى، محام، أن التصويت لصالح الإسلاميين جاء لأن الناس كرهوا المنتمين للحزب الوطنى المنحل الذين جاءوا على رأس قوائم بعض الأحزاب، ومنها الوفد، وأنه من حق الإخوان الحصول على فرصة لإثبات وجودهم. ويرى عبدالله بخيت، عامل فى كافيتريا، أن الإخوان هم الأفضل للنهوض بالبلد.
وفى الأقصر قال جابر محمد أبوالحجاج، خبير زراعى: «أعطيت صوتى لمرشحى الحرية والعدالة، لإعطاء الفرصة لهم لممارسة العمل السياسى والوصول للحكم».
وقال حسن محمد حسن، سائق: «أعطيت صوتى لحزب النور، لضمان المحافظة على المادة الثانية من الدستور التى تجعل من الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً للتشريع، وهذا الحزب هو أكثر ضامن لعدم تغيير المادة، التى أرى أن هناك جهات تسعى لتغييرها».
وقال مصطفى محمود يوسف، طالب بكلية التجارة: «أدليت بصوتى لحزب الحرية والعدالة لأنه طرح مرشحين مميزين، عكس بقية الأحزاب التى قدمت مرشحين غير مناسبين وليس لهم أى رصيد فى الشارع، ودفعت بهم لملء القوائم فقط، بغض النظر عن إمكاناتهم التى تؤهلهم لجذب الناخبين أم لا.
شهود من خارج العاصمة: بالخلطة السحرية واللعب على وتر الدين فاز الإسلاميون
أرجع عدد من نشطاء الحركات السياسية فى المحافظات، الصعود الكبير للإسلاميين فى المرحلة الأولى لانتخابات مجلس الشعب- إلى عدة عوامل منها استخدام الإسلاميين الدين فى التأثير على المصريين العاطفيين بطبعهم، وقلة الوعى السياسى لدى الناخبين، والإمكانات التى يمتلكها الإسلاميون، التى ساعدتهم على الإنفاق الضخم، علاوة على ضعف الأحزاب المنافسة والقوى المدنية، التى فشلت فى توثيق علاقتها بالمواطنين العاديين، على حد قولهم.
قال عبدالرحمن الجوهرى، منسق حركة «كفاية» فى الإسكندرية، أحد المرشحين على قائمة «الثورة مستمرة»، إن التيار الإسلامى لم يكن يتوقع أن يحقق هذه النسبة فى المرحلة الأولى، مرجعاً أسباب تفوقه إلى (فقدان الوعى السياسى لدى قطاع كبير من الناخبين والجهل والأمية السياسية، واللعب على وتر الدين، والبعد الطائفى فى مواجهة القوى السياسية).
وقال السيد بسيونى، الناشط السياسى، إن «التيار الدينى يتمتع بتعاطف الشعب الذى يشعر بأن هذا التيار كان مضطهداً من النظام السابق، مشيراً إلى أن الأحزاب الإسلامية وجهت الناخبين وحشدتهم أمام اللجان للإدلاء بأصواتهم، بالإضافة إلى حصول التيار الإسلامى على أصوات عدد كبير من البسطاء، خشية الغرامة لمن لا يدلون بأصواتهم، كما أنه ينفق على الدعاية بشكل كبير جداً».
وقال هيثم أبوخليل، المتحدث باسم حزب الريادة: «التيار الدينى تعرض للتنكيل به فى الفترة الماضية، ولم يكن أحد يسمع صوته، والآن حصل على تعاطف كبير من الشعب، الذى يريد أن يجرب النموذج الإسلامى، والخلطة السحرية التى يلعب عليها التيار هى خلط الدين بالسياسة، وكان أحد أهم العوامل لتصاعد دوره».
وقال محمد إيهاب، سكرتير حزب الغد، جبهة «أيمن نور»، فى بورسعيد، إن «التيار المدنى بتنوعاته لم يطرح بدائل مقنعة للرأى العام، وكانت هناك فجوة بين مكوناته مثل الفجوة بين من يملكون المال والإمكانيات كحزب المصريين الأحرار وبين أصحاب الخبرات السياسية مثل التجمع وغاب التنسيق بينهم».
وقال نصر الزهرة، رئيس لجنة الوفد ببورسعيد: «تعاطف الناس مع الإسلاميين لسببين، هما البحث عن الاستقرار، واختيار من لم يشارك فى مظاهرات التحرير، ولأن الإسلاميين أعدوا أنفسهم مبكراً للانتخابات، فيما انشغلت القوى الأخرى بالمظاهرات».
واعتبر السيد زرد، رئيس مركز مساواة لحقوق الإنسان، النتائج منطقية، وقال: «التيارات الإسلامية موجودة بالفعل على الصعيد الاجتماعى والإنسانى والشارع معهم منذ عهد (مبارك)، وظهر ذلك فى انتخابات 2005 مقابل التيار المدنى، الذى لم يقدم تصورات جديدة، وبدا شديد الاهتراء والنخبوية، وبرهن الإخوان على فهم جيد».
وقال هانى الجبالى، المحامى: «استفادت التيارات الإسلامية من الفراغ السياسى بعد سقوط الكيان الإدارى لنظام مبارك المعروف بـ(أمن الدولة)، وأعدوا عدتهم منذ الاستفتاء على الدستور، وأتيحت لهم منابر المساجد التى استخدموها جيداً فى تشويه كل القوى المدنية، ووصموها بالكفر، ودعوا لأنفسهم باعتبارهم الأكثر إيماناً، إضافة لإمكانيات مالية كبيرة لم تتوفر لغيرهم».
وأكد الدكتور عصام الشريف، القيادى الوفدى بالفيوم، أن «أهم أسباب إعطاء الناخبين أصواتهم للأحزاب الإسلامية هو استغلالها المواطن البسيط بإعطائه كرتونة رمضان أو خلافه، مستغلين بذلك اسم الدين واللعب على أوتاره، وهو ما أثر بشكل كبير على الناخبين تجاه تلك الأحزاب وانتخابها وتجاهل الأحزاب الأخرى».
وشدد ميشيل ميلاد، رئيس لجنة شباب حزب الوفد بالفيوم، على أنه «كان يجب أن تكون هناك مساحة من الوقت تخلو من الأحداث، التى تشغل الشعب والأحزاب المدنية التى تعتبر جزءاً منه، حتى تتمكن الأحزاب السياسية من الالتحام مع المواطنين، وأن تصاحب ذلك التوعية الضخمة للمواطنين فى القرى والأحياء الشعبية، الذين كانوا وقوداً للتيارات الإسلامية التى خدع أنصارها المواطنين».
وفسر ممدوح مكرم، عضو اللجنة المركزية للحركة الديمقراطية الشعبية المصرية فى أسيوط، نتائج الانتخابات بقوله إنه «فى الأزمات تكون التيارات الرجعية هى المخرج الوحيد بالنسبة للبسطاء، ولم يكن هناك بديل حقيقى للإسلاميين، والأحزاب القديمة (مهلهلة) وغير قادرة على حشد الجماهير، والجديدة تخوض أول تجربة لها، وكان من الصعوبة أن تبنى قواعد جماهيرية فى الشارع».
وقال أحمد خنفور، المنسق العام للجمعية الوطنية لدعم البرادعى: إن هناك اتفاقاً مسبقاً بين الإخوان المسلمين والمجلس العسكرى قبل سقوط مبارك، وإجراء الانتخابات فى هذا التوقيت بسبب تنسيق بينهم، و«العسكرى» هيأ الفرصة لـ«الإخوان».
وقال أحمد جمال، المنسق العام لحركة 6 أبريل فى أسيوط، إن «اختيار الناخبين الإسلاميين يعود لأن الإنسان المصرى يتأثر بالدين، والناخبون يرون أن الإسلاميين سيطبقون شرع الله».
قادة الأحزاب: البسطاء يبحثون عن «المعجزة والخيار كان بين «الجنة والنار»»
أرجع عدد من قيادات الأحزاب، إقبال الناخبين على التصويت لمرشحى الأحزاب الإسلامية، لوقوع الأحزاب الليبرالية فى أخطاء كارثية فى إدارة العملية الانتخابية وسيادة الأفكار الدينية فى المجتمع، نتيجة تراجع الوعى السياسى والمستوى التعليمى، واستخدام الأنظمة السابقة أدواتها الأمنية فى قمع التيار الدينى واضطهاده لعقود طويلة، وأكدوا أن امتلاك الأحزاب الإسلامية كوادر منظمة، تعمل بجدية وبعقيدة السمع والطاعة لولى الأمر دون اللجوء إلى النقاش والحوار، ساعدهم على سرعة التأثير فى الشارع.
وحمل الدكتور رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع، مسؤولية إقبال الناخبين على التصويت للأحزاب الإسلامية، للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بإعطائه إشارة البدء للتيارات الدينية بمزاولة نشاطها بعد ثورة 25 يناير بشكل رسمى، من خلال السماح لها بتأسيس أحزاب يعلم الجميع أنها قائمة على أساس طائفى، ثم اختياره للمستشار طارق البشرى، المعروف بميوله الإسلامية على رأس لجنة إعداد التعديلات الدستورية التى تم الاستفتاء عليها بعد ذلك، واستغلالها فى الاستقطاب السياسى القائم على أساس دينى، من خلال الدعوة إلى التصويت بـ«نعم» لمنع تعديل المادة الثانية من الدستور، وأشار «السعيد» إلى أن امتناع اللجنة العليا للانتخابات عن تطبيق القانون واتخاذ إجراءات حاسمة ضد استخدام الأحزاب للشعارات الدينية واستغلال دور العبادة، فى الدعاية الانتخابية، أدى إلى جرأة التيار الدينى على مغازلة المواطنين ومخالفة القانون, وهو أحد أهم أسباب سرعة وصول التيارات الدينية إلى القاعدة الأكبر من المواطنين، الأمر الذى افتقدته الأحزاب المدنية التى تعانى فقراً شديداً فى مواردها وإمكانياتها المحدودة.
وأرجع ياسين تاج الدين، نائب رئيس حزب الوفد، إقبال الناخبين على التصويت للأحزاب الدينية، لقيام الأنظمة السابقة بقمع التيار الدينى واضطهاده لعقود طويلة، وما تبعه من تعاطف شعبى، مشيراً إلى أن مرور مصر بمرحلة ضبابية بعد ثورة 25 يناير يجعل المواطنين ينظرون إلى التيار الدينى على أنه يملك بيده المعجزة والخروج الآمن من المرحلة الحرجة، ويعزز من هذا الاعتقاد الخاطئ المزاج العام لدى المواطنين
بالتدين والارتياح لمن يتحدثون باسم الدين. وأوضح «تاج الدين»، أن امتلاك التيار الدينى كوادر منظمة ومرتبة، تعمل بجدية وبعقيدة السمع والطاعة لولى الأمر دون اللجوء إلى النقاش والحوار، ساعدهم على سرعة التأثير فى الشارع، وسرعة استقطاب المواطنين لصالحهم دون معاناة، لافتاً إلى ما وصفه بنجاح التيار الدينى فى حصر المعركة الانتخابية مع الأحزاب الليبرالية على أنها معركة بين الدين والسياسة، وليست معركة فكر أو اختلاف سياسى، فى غفلة كبيرة من الأحزاب الليبرالية، التى وقعت فى الفخ الذى نصبته لهم الأحزاب الإسلامية، مما جعل المواطنين بحكم مستوى تعليم معظمهم، والتدين المجتمعى يجنحون إلى فكر الإسلاميين ورفض الليبراليين. وقال نائب رئيس حزب الوفد، إن الأحزاب الليبرالية وقعت فى أخطاء كارثية فى إدارة العملية الانتخابية، ومنها الاعتماد على فكرة تأجيل الانتخابات البرلمانية مدة محددة فى ظل رفض المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وإصرارهم على التأجيل، بالإضافة إلى الصراعات الحزبية التى أفقدتهم ثقة المواطنين، ما يتنافى مع العقيدة الراسخة لدى الأحزاب الدينية بضرورة السمع والطاعة والامتثال للأمر، وأضاف: «كل هذه العوامل مجتمعة فى ظل استعداد الإسلاميين القوى لخوض معركة انتخابية دون النظر للمستجدات على الساحة السياسية جعلهم يحققون الفوز الكاسح على الليبراليين ويستعيدون ثقة الناخب، ويطرحون أنفسهم بديلاً قوياً بعد سقوط النظام السابق.
وأكد عبدالغفار شكر، رئيس حزب التحالف الشعبى، عضو تحالف «الثورة مستمرة»، أن تقرب الأحزاب القديمة من النظام السابق وعقد صفقات انتخابية مشبوهة واعتمادها على كوادرها التقليدية المنهارة قبل ثورة 25 يناير، يعد السبب الرئيسى فى تنامى دور التيار الإسلامى وفوزه بثقة المواطنين فى الانتخابات البرلمانية، موضحاً أن الأحزاب الجديدة التى تأسست بعد الثورة لم تستطع طرح نفسها لدى الناخب، فى ظل الخبرة الانتخابية التى تتمتع بها التيارات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، التى تخوض الانتخابات بصفة متتالية منذ عام 84.
وأضاف: «سيادة الأفكار الدينية على أفراد المجتمع، نتيجة انخفاض الوعى السياسى والمستوى التعليمى، استثمرت بشكل منظم من قبل الإسلاميين، وأفرزت نتائجها فى المرحلة الأولى من الانتخابات»، موضحاً أن التيار الدينى يعمل مع أقل الشرائح المجتمعية، وعزز سيطرته عليها بأفكاره المتطرفة، ما تفتقده الأحزاب القديمة التى تعمل بفوقية ولا تمتلك القواعد الشعبية.
وقال فريد زهران، عضو الهيئة العليا للحزب المصرى الديمقراطى، عضو الكتلة المصرية، إن المزاج العام للناخبين يتجه لمرشحى التيار الإسلامى، نتيجة حالة التدين التى تسود المجتمع، وأضاف: «تفتيت الكتلة الليبرالية وعدم توحدها فى فصيل سياسى وانتخابى موحد ساعد بشكل كبير على فوز الأحزاب الدينية.
وأرجع الدكتور محمد أبوالعلا، رئيس الحزب الناصرى، إقبال المواطنين على التصويت لصالح مرشحى الأحزاب الإسلامية إلى ما وصفه بنجاح هذه الأحزاب فى بث فكرة مغلوطة للمواطنين مفادها أن التيارات الليبرالية تنتمى للكنيسة، وأن الأحزاب الإسلامية «زاهدة وتحمل الخير لكل الناس».
شباب «التحرير»: 9 أشهر لم تكن كافية لولادة البديل
يراهم كثيرون، الفصيل الأكثر إحباطاً وخسارة بعد فوز الإسلاميين بالمرحلة الأولى، وحسب وصف الدكتور محمد البرادعى، فإن شباب الثورة يعتبرون النتائج ضد الثورة.
شباب الثورة أنفسهم يحاولون البحث عن الأسباب، أرادوا دولة مدنية وقاتلوا وقتلوا من أجلها، فجاءت التيارات الدينية، أرادوا دستوراً أولاً، فاختار الشعب الانتخابات أولاً، ويقول عدد منهم إن المشهد يحتاج إلى إعادة قراءة وفهم وتحليل، لكنهم يعترفون فى الوقت نفسه بأن الإخوان والسلفيين الأكثر تنظيماً وتواجداً فى الشارع المصرى، ويتهمونهم فى الوقت نفسه باستغلال الدين فى دعايتهم الانتخابية واللعب على وتر الصراع الدينى، كما يتهمون القوى السياسية الأخرى سواء ليبرالية أو يسارية بالفشل فى التواجد بالشارع، والتركيز على الدعاية الانتخابية، والدخول فى صراعات جانبية.
قال خالد السيد، عضو المكتب التنفيذى لائتلاف شباب الثورة، إن قوى الإسلام السياسى هى الأكثر تنظيماً، ونجحت فى بناء شبكة من العلاقات الاجتماعية الواسعة على مدار السنوات الماضية من خلال الجمعيات الخيرية والمساجد والخدمات التى قدموها فى المناطق العشوائية، لافتاً إلى أن اللعب على وتر الدين طرف أصيل فى معادلة الانتخابات هذه المرة، وسيطر على المشهد تماماً.
وأضاف «السيد» أنه فى المقابل لم يتبلور بعد بديل ليبرالى أو يسارى بشكل خاص منذ الثورة، وخلال الـ9 أشهر الماضية ركز الإسلاميون على الانتخابات فى الوقت الذى ركزت فيه القوى الأخرى على تحقيق بقية مطالب الثورة، ومحاكمة النظام السابق، وفضح ممارسات المجلس العسكرى لدرجة أن كل المرشحين الشباب فى الانتخابات كانوا متواجدين بميدان التحرير قبل الانتخابات بأسبوع واحد للمشاركة فى الاعتصامات، ولفت إلى أن البرامج التى قدمها الإسلاميون خصوصا فى الجانبين الاقتصادى والاجتماعى مشابهة لتلك التى كان يتبناها أحمد عز ويوسف بطرس غالى، وهو ما ينذر بفشلهم فى تحقيق مطالب الثورة.
وقال طارق الخولى، المتحدث الرسمى باسم «حركة شباب 6 أبريل»- الجبهة الديمقراطية- إن تأثير الدين كان غالبا على هذه الانتخابات، خصوصا بعد توجيه الكنيسة لانتخاب بعض المرشحين، وهو ما حول الأمر إلى معركة طائفية يحاول خلالها كلا الطرفين حماية مرشحيه، وأضاف: المفاجأة بالنس بة له كانت فى حزب النور السلفى، الذى استخدم الدين بشكل كبير وصل إلى درجة العنف والعدوانية، والهجوم على الطرف الآخر من خلال وصف الكتلة المصرية بالصليبية.
وأضاف «الخولى» أن القدرة المالية لدى التيارات الدينية كانت أكبر وتخطى مرشحوها الحد الأعلى للإنفاق المالى، وحملوا الزيت والسكر واللحوم للناخبين على أنها بداية الخير الذى سيقدمونه للشعب المصرى، خاصة فى المناطق الفقيرة، وأوضح أن الأحزاب الأخرى فشلت فى استقطاب الناس لتواجد صراعات شديدة بينها، وبعد أن نزلت الشارع اصطدمت بالحاجات الحقيقية للناس، وعلى هذه القوى أن تدرك الخطورة التى تواجهها وتتكاتف وتنظم صفوفها.
وقال عمرو حامد، المتحدث باسم اتحاد شباب الثورة، إن خروج الفلول أو على الأقل غالبيتهم من المعركة الانتخابية، بسبب الحرب التى شنها ضدهم شباب الثورة، كان سببا فى عدم وجود بديل أمام المصريين إلا الإخوان والسلفيين، إلى جانب إعلان الكنيسة دعمها فئة معينة من المرشحين واستنفار الإسلاميين لدعم مرشحيهم بدافع دينى.
ولفت معاذ عبدالكريم، عضو ائتلاف شباب الثورة، إلى أن نسبة فوز الإخوان فى المرحلة الأولى أقل من انتخابات 2005 وهو أمر غريب لكن المفاجأة فجرها حزب النور السلفى، الذى استغل عدم وعى عدد كبير من الناخبين للحصول على أصواتهم، وتمادى إلى درجة قيام مندوبين بتلقين الناخبين ليحصلوا على مكاسب سياسية ونجحوا فى استغلال ذلك بشكل كبير، وفيما يتعلق بتحول المعركة الانتخابية، قال: الأمر تحول إلى صراع دينى بين التيار الإسلامى والكتلة المصرية ويحتاج إلى علاج اجتماعى لظاهرة العنصرية، والاستقطاب المبنى على أساس دينى، لإنقاذ المجتمع من الفتنة والتمزق.
فروع «الوطنى»: الانتخابات تحولت إلى معركة بين الجامع والكنيسة
اتفق ثلاثة من قياديى الأحزاب المعروفة بضم عدد من أعضاء الحزب الوطنى المنحل، على عدد من أسباب تفوق الأحزاب الدينية فى الجولة الأولى من الانتخابات من بينها حالة الاستقطاب الدينى التى سيطرت على المعركة الانتخابية، خاصة بعد دعم الكنيسة الصريح لمرشحى «الكتلة المصرية»، لمواجهة مرشحى الأحزاب الإسلامية، إضافة إلى ما تملكه تلك الأحزاب من أموال استغلتها فى الدعاية المكثفة وتوزيع السلع الغذائية والاستهلاكية على الناخبين، بالإضافة لقدرتها على التنظيم الجيد والتواجد فى الشارع منذ سنوات.
أرجع المهندس معتز محمد محمود، رئيس حزب «الحرية» تفوق الإسلاميين فى الجولة الأولى من الانتخابات إلى بروز الطائفية الدينية خلال المعركة، بعد أن تدخلت الكنيسة لدفع أبنائها للتصويت لـ«الكتلة المصرية»، لمواجهة الأحزاب الإسلامية، وهو ما استنفر الناخبين المسلمين، وهم الأغلبية بطبيعة الحال، ودفعهم للتصويت لمرشحى الإخوان والسلفيين، بالإضافة إلى ذلك قامت الأحزاب الدينية بالإنفاق ببذخ على مرشحيها سواء فى الدعاية أو توزيع السلع الاستهلاكية على الناخبين، وهذه الإمكانات لا تتوافر لغالبية الأحزاب الأخرى.
ومن الأسباب المهمة أيضاً، التى يراها رئيس حزب «الحرية»، كانت دافعاً للتصويت للإسلاميين، ما وصفه بـ«المحنة» التى يشعر بها المصريون، ولا يجدون حلاً أمامهم سوى اللجوء إلى الله، ولذلك أعطوا أصواتهم لمن قالوا لهم «إحنا بتوع ربنا».
وقال الدكتور صلاح حسب الله، رئيس حزب «المواطن المصرى» إن حزبى «الحرية والعدالة»، التابع للإخوان المسلمين، و«النور» السلفى، مارسا خلال الانتخابات أسوأ ما كان يمارسه الحزب الوطنى من تزييف لإرادة الناخبين، سواء بشراء أصواتهم صراحة، أو منحهم الرشاوى الانتخابية فى صورة سلع غذائية، كما استغلا المنتقبات فى التصويت أكثر من مرة نيابة عن ناخبات أخريات، وهو ما أثبتناه فى محاضر رسمية.
واتفق «حسب الله» مع رئيس حزب «الحرية» فى تحول الانتخابات إلى معركة بين الجامع والكنيسة، بدلاً من الصراع حول برامج الأحزاب أو المرشحين على المقاعد الفردية.
كما لفت إلى مخالفة المرشحين الإسلاميين القانون باستمرار دعاياتهم عبر قناة الإخوان المسلمين الفضائية حتى يوم الانتخاب، ولم يلتزموا بـ«الصمت الانتخابى» وزاد من ذلك ترويج دعاياتهم للبسطاء تحت شعار «اللى مش هينتخب إخوانى هيخش النار».
وقال الدكتور المغاورى شحاتة، أمين عام حزب «مصر القومى» إن الأحزاب الدينية، خاصة حزب «الحرية والعدالة» تجيد تنظيم صفوفها فى المعارك الانتخابية، ويساعدها فى ذلك ثراؤها الفاحش، وهو ما ظهر فى الدعاية المكثفة لمرشحيها، بالإضافة لتوزيع السلع الغذائية والاستهلاكية على المواطنين الفقراء، وهى أيضاً تملك قاعدة بيانات عن «محدودى الدخل» من خلال جمعياتها الأهلية، وتواجدها فى الشارع على مدى عشرات السنين.
بالإضافة إلى ذلك استغلت ارتفاع نسبة الأمية بين المصريين، والترويج للبسطاء بأنها الوحيدة القادرة على نشر الأخلاق والفضيلة فى المجتمع، ومن خلالهــا فقط سيتحقق العدل.
وذكر أن دعم الكنيسة لمرشحى «الكتلة المصرية» استنفر الكثيرين ودفعهم للتصويت لمرشحى التيارات الدينية الإسلامية، واختتم: وهذا أخطر ما فى المشهد، لأنه يهدد بانقسام الوطن.
مصر.. وطن يتشكل من جديد
انظر ملياً إلى «خريطة مصر»، وقبل أن تعتقد بثباتها منذ دراستك لها فى مادة الجغرافيا حتى الآن، ألق نظرة مدققة على الأشكال المعلوماتية المصاحبة لها، والتى أسفرت عنها نتائج المرحلة الأولى لانتخابات مجلس الشعب، والآن.. أجب عن السؤال: هل ما زلت تعتقد أن خريطة مصر- السياسية وما يستتبعها- على نفس ثباتها؟
دعنا نخض قليلاً فى تفاصيل نتائج المرحلة الأولى للانتخابات فى محافظاتها التسع، وبعد قليل من المعرفة والإدراك، سنكتشف أن خريطة مصر والمصريين أنفسهم تتغير بشكل شبه جذرى، ليس فقط على مستوى تفوق الإخوان المسلمين والسلفيين الذى يصل لحد الاكتساح، وإنما- بالأساس- ما يعكسه هذا الاكتساح من دلالات وإشارات وما له من تأثير شديد العمق- على أرض الواقع.
الإسلاميون»: الشعب اختارنا دفاعاً عن الشريعة والهوية «الإسلامية»
على الرغم من أن شهادتهم عن أنفسهم قد تكون مجروحة، فإن المنطقى أن تجيب التيارات والأحزاب الإسلامية عن ذلك السؤال: ما الذى كان يدور فى أذهان الناس وهم يضعون علامة أمام أسمائكم وقوائمكم، فى أوراق التصويت؟
تقول الأحزاب الإسلامية إن تصويت الناخبين لمرشحيها وقوائمها يرجع إلى دفاعهم عن الشريعة الإسلامية التى يعتبرونها جوهر هوية الشعب، إضافة إلى تاريخها فى مقاومة النظام السابق عكس بعض الأحزاب الليبرالية واليسارية التى ارتمت فى أحضان هذا النظام السابق، وبرامجهم الانتخابية التى لمست رغبات الناخبين.
يقول المهندس سعد الحسينى، عضو المكتب التنفيذى لحزب الحرية والعدالة، التابع لجماعة الإخوان المسلمين: «لنا تاريخ عريق فى مقاومة الظلم، وخدمة المصريين فى الشارع والمؤسسات فى جميع الأوقات، كما أننا نحمل فكرة الالتزام بالشريعة والدفاع عنها بشمولها، ولدينا انتشار واسع فى معظم الأحياء الفقيرة والغنية وأساتذة الجامعات والعمال، ولاشك أن ربط الناس نجاح حزب العدالة والتنمية التركى فى تركيا بإمكانية نجاح حزب الحرية والعدالة أحد أسباب التصويت لنا، مع اختلاف الظروف والتوجهات».
ويرى الحسينى أن البرنامج الانتخابى للحزب ساهم بشكل كبير فى الحصول على تأييد الناس ويؤكد أنه لم ير حزبا آخر أعلن قبل الانتخابات برنامجا ينافس الحرية والعدالة.
ويعتبر الدكتور وحيد عبدالمجيد، المنسق العام للتحالف الديمقراطى أن المواطنين انتخبوا التحالف وقائمة الحرية والعدالة، لأنهم يمثلون التيار الوسطى فى المجتمع بين السلفيين الذين تقوم نظرتهم للسياسة على الدين، والليبراليين الذين يقلصون الدين، ويقول «لدينا برنامج مستمد فى بعض جوانبه من الشريعة الإسلامية وفى جوانبه الأخرى من الحاجات الأساسية للمواطنين، كما أن الناخب شعر أننا يمكن أن نقود البلد فى اتجاه آمن يجعل للمتدينين مكانا فى المستقبل، ويضمن لمن لا يريدون للدين مكانا أن يكون لهم تأثير».
رمضان عمر، عضو الحرية والعدالة الفائز بمقعد العمال بدائرة حلوان يقول إن الناخبين دعموا «الحرية والعدالة» لما لمسوه من خدمات قدمتها الجماعة لهم وإصرارها على إسقاط النظام البائد.
ويرى الدكتور عصام دربالة، رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية أن السر يكمن فى أن صورة الإسلاميين مقبولة لدى الناس بما لديهم من حس إسلامى يمثل ضمير الشعب المصرى. وأضاف: «الجماعات الإسلامية لاقت تعنتا شديدا من النظام السابق وكان هذا وراء إقبال الناس عليها، وينطبق هذا على الإخوان والجماعة الإسلامية والسلفيين، والشعب قارن بين هذه التيارات الإسلامية وبين أحزاب ليبرالية ويسارية كحزب التجمع ممن ارتموا فى حضن النظام السابق ففضل أن يعطى أصواته لمن ضحوا من أجله». وأكد أن الجماعات الإسلامية كانت موجودة وسط الناس لخدمتهم فى العمل الدعوى والخدمى والخيرى و«بالتالى أقبل الناس عليهم رغم الحملات الإعلامية التى يشنها البعض على الإسلاميين والتى رفعت من أسهمهم الإسلامية، وفشلت حملات التخويف والتخوين فى التأثير على قناعة المواطن العادى ولم تستطع إلغاء مصداقية التيارات الإسلامية لدى الناس.. والشعب على مدار 50 عاما مضت جرب المناهج الكثيرة بدءا من الاشتراكية والرأسمالية والديكتاتورية والآن يريد تجربة التيار الإسلامى.. وجزء من الأصوات التى أخذها الإسلاميون جاءت بعد تزكية الكنيسة لمرشحى الكتلة».
حسب نتائج المرحلة الأولى، فإن السلفيين كانوا المنافس الأول للإخوان، وتتراوح نسبة ما حصل عليه حزب النور بين 20 و25%، ويفسر الدكتور يسرى حماد، المتحدث الإعلامى لحزب النور ذلك بقوله إن جمعية «أنصار السنة المحمدية» التابعة للتيار السلفى تم تأسيسها قبل جماعة الإخوان المسلمين. ويضيف: «قدم السلفيون طوال السنوات الماضية الكثير من الخدمات للشعب فاكتسبوا حبه كما أن الكثير من مشايخ التيار السلفى تعرضوا للاعتقال من قبل أمن الدولة عندما كانوا يتحدثون عن أخلاقيات الخلفاء الراشدين وقدرتهم على إدارة البلاد، وهو الأمر الذى كان يغضب نظام مبارك من علماء السلف، وثورة 25 يناير كان لها دور فى إظهار قوة التيار السلفى الحقيقى».
ويتابع حماد: «المصريون صوتوا للتيار الإسلامى لثقتهم فيه ولإدراكهم جيداً أن الإسلاميين إذا وصلوا إلى الحكم لن يسرقوا كما فعل النظام السابق وسيتعاملون مع الناس بحيادية دون النظر إلى المحسوبية خاصة أنهم سبق أن جربوا العلمانيين والليبراليين فى إدارة البلد، وللأسف الإعلام فى واد والشارع فى واد آخر، الإعلام ضد السلفيين والشارع معهم.. وفى الوقت الذى عمل فيه حزب النور على التقرب إلى الناس للتعرف إلى مشاكلهم انشغلت أحزاب التيارات الأخرى بالإعلام والظهور المستمر فى البرامج التليفزيونية دون أن يدركوا المشاكل الحقيقية للمواطن المصرى لذا صوت المصريون لمرشح «النور» المتدين الذى لديه قدرة على تحقيق أحلامهم».
وقال الدكتور عادل عفيفى، رئيس حزب الأصالة السلفى «الشعب مسلم انتخب من يدافع عن هويته الإسلامية والعربية فى الوقت الذى يسعى فيه مرشحو الأحزاب العلمانية والليبرالية إلى تحويل المجتمع المصرى على الطريقة الغربية، لأن برامجهم فصلت الدين عن السياسة وارتضت بالقوانين الوضعية دون الاحتكام للشريعة الإسلامية ما جعل الناخبين يمتنعون عن التصويت لهم وانتخبوا من يعبر عنهم».
المجلس العسكرى.. أول اللاجئين إلى السماء
.
.
!
ووسط أجواء مليئة بالعقبات والأزمات الكبيرة، كان الإسلاميون إحدى وسائل المجلس العسكرى للخروج الآمن من المأزق، ففى الوقت الذى طالما حال النظام السابق دون أن يكون لأى من الشيوخ صوت مسموع سوى داخل مساجدهم، حتى إن بعضهم كان ممنوعا من ذلك أيضا، أصبح للإسلاميين صوت مسموع ورأى مأخوذ به ويد تمتد لتفض صراعا بين فريقين، أحيانا كانت أحدهما.
عندما اشتعلت أزمة مبنى كنيسة الشهيدين مار جرجس ومارمينا، فى قرية صول، التابعة لمركز أطفيح بمحافظة حلوان، والتى حطم مسلمون غاضبون أجزاء منها، على خلفية أزمة نشبت بسبب وجود علاقة بين شاب مسيحى وفتاة مسلمة، فشلت مفاوضات كل المسؤولين مع الأطراف المتصارعة لحل الأزمة، إلى أن تدخل الشيخان محمد حسان وعمرو خالد، وتوجها إلى أهالى القرية، بتكليف من المجلس العسكرى، وتحدثا إليهم وحاولا تهدئتهم، حتى إن أكثر من 5 آلاف من أهالى القرية أدوا صلاة الجمعة خلف الداعية عمرو خالد وبايعوه على «وأد الفتنة».
لم يظهر الشيخ محمد حسان فى تلك الأزمة وحدها، بل كانت له أدوار عديدة فى أزمات أخرى متتالية، على رأسها أزمة كنيسة إمبابة، التى اشتعلت حين اتصل شاب بالجماعات الإسلامية وقال لهم إن الكنيسة تحتجز زوجته «عبير» فى مبنى خلف الكنيسة، وتدخل حينها الشيخ السلفى للتهدئة أيضا، وحضر لقاء مع الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، لبحث تداعيات الأزمة بين المسلمين والمسيحيين، وتحقيق التنسيق بين التيارات والجماعات الإسلامية لمواجهة مخاطر الفتن الطائفية، بل إن «حسان» حذر أيضا، وقتها، من إسقاط هيبة الدولة، قائلاً: «لا يجوز مطلقاً أن نسقط هيبة الدولة وإلا فانتظروا الانهيار الكبير»، فيما كان منصور عيسوى، وزير الداخلية السابق، وقتها، يصرح محذرا من أن هناك ما يقرب من 3 آلاف سلفى يحاولون اقتحام الكنيسة وأن القوات الأمنية تتصدى لهم.
وفى قنا حين تظاهر الآلاف من الأهالى، للمطالبة برحيل المحافظ اللواء عماد ميخائيل، وتعيين محافظ مدنى من أساتذة الجامعات، تدخل الشيخ محمد حسان والدكتور صفوت حجازى فى محاولة لإقناع معتصمى قنا بإعادة فتح الطرق البرية وإعادة حركة القطارات ومواصلة الاعتصام والتظاهر بطريقة سلمية حتى تتحقق مطالبهم، وكان لهذا التدخل دور كبير فى حل الأزمة.
كان شارع «محمد محمود» شاهدا أيضا على إحدى حالات لجوء الدولة إلى الإسلاميين، بعد أن فشل المجلس العسكرى فى حل الأزمة، واستمرت حالات الكر والفر بين المتظاهرين وقوات الأمن لما يقرب من أسبوع كامل، حينها تدخل الشيخ مظهر شاهين «خطيب الثورة» فى محاولات لعقد هدنة بين الفريقين، وأصدر الأزهر بيانا يطالب فيه قادة الشرطة بإصدار الأوامر، فوراً، بوقف توجيه السلاح إلى صدور المواطنين من إخوانهم وأبنائهم المصريين، مهما تكن الأسباب. وناشد القوات المسلحة التدخل لمنع أى مواجهة بين أبناء الشعب الواحد، وأكد أنه يشد على أيدى أبنائه من الشيوخ والعلماء، الذين وقفوا حائلا وصنعوا دروعا بشرية لتكون حائلاً دون وقوع المزيد من المواجهات العنيفة.
يقول الدكتور عمار على حسن، الباحث السياسى، إن «المجلس العسكرى طيلة 10 أشهر لا هم له سوى تشويه القيادات الثورية، والتشويه ترجم لصالح التيار الإسلامى، الذى استثمر هذا الموقف لصالحه، ولكن موقف الإخوان والسلفيين سيظل على المحك دائما ومحل اختبار من الشعب المصرى، لأن هناك فرقا كبيراً بين إدارة الدولة على المستويين الأدنى والأعلى.
«الدين».. درع المصرى فى الأيام العصيبة
فى كتابه الشهير «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، يضع الكاتب عبدالرحمن الكواكبى يده على سبب انحطاط الأمة العربية، من وجهة نظره، ويرجعه فى كلمة واحد إلى «الاستبداد السياسى»، الذى كانت تمارسه الدولة العثمانية نهايات القرن التاسع عشر على رعاياها، وقت أن كانت تحكم وتملك الوطن العربى من خليجه إلى محيطه، غير أنه فى نفس الوقت لا يعفى الشعوب المحكومة من المسؤولية، فيشرح شخصياتها بكتاباته، ويحلل نفسياتها فى كل مناحى الحياة، من الدين والتربية، حتى الأخلاق والمال، فيقول مثلاً: «والأمر الغريب أن كل الأمم المنحطة من جميع الأديان تحصر بلية انحطاطها السياسى فى تهاونها بأمور دينها، ولا ترجو تحسين حالتها الاجتماعية إلا بالتمسك بعروة الدين تمسكاً مكيناً، ويريدون بالدين العبادة».
وعلى الرغم من أن الكواكبى فى مؤلفه لم يكن يخص شعباً عربياً دون الآخر، فإنه كان كمن يصف حال الناس فى مصر، على اعتبار أنه يقول فى مقدمة كتابه إنه بدأ نشر مقالات فى «أشهر جرائد مصر» أثناء زيارته لها، ثم فى الزيارة الثانية، صنف مقالاته لفصول، أضاف إليها كتابات أخرى لينشرها فى النهاية على هيئة كتاب. الأمر الذى يعنى أن مصر كانت موجودة وحاضرة أثناء الكتابة والنشر، بما يجعلنا نفهم موقعها مما كتبه الكواكبى.
لم يذهب الرجل بعيداً وهو يتحدث عن حال الأمة التى تعانى من مشاكل أخلاقية فتحصر المشاكل السياسية التى تواجهها فى تهاونها بأمور دينها، فهو أمر عرفته مصر على مدار تاريخها وقت الأزمات، يفر أهلها إلى دور العبادة ورجال الدين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، تمتلئ المساجد والكنائس بالمصلين من مختلف الأعمار، يدعون الله، يلتمسون عنده العون، يطلبون منه أن يأخذ بأيديهم، ويلومون أنفسهم طوال الوقت على تقصيرهم فى عبادته.
أحداث كثيرة مرت على مصر لجأ فيها المصريون إلى دور العبادة، أقربها إلى الذهن ما حدث فى أعقاب هزيمة عام 1967، عندما نجحت إسرائيل فى احتلال سيناء بالكامل وهضبة الجولان السورية، والضفة الغربية لنهر الأردن، ومدينة القدس، وغزة، فيما يمكن تصنيفه على أنه «هزيمة منكرة» للعرب وقتها، لم تستوعب عقول الناس الهزيمة، ولم يستطيعوا أن يبتلعوها فى صمت، راحوا يفتشون فى حياتهم عن السبب الذى جعل الإسرائيليين ينتصرون عليهم، ووجدوا الإجابة الجاهزة والسهلة فى تقصيرهم فى العبادة، فأسرعوا يعوضون السنين التى ابتعدوا فيها عن الله، ويطلبون منه سبحانه العون، وهو ما يمكن أن يفسر موجة التدين التى غزت المجتمع المصرى من وقتها حتى الآن. لم تكن هزيمة 67 وحدها هى من دفعت المصريين لدور العبادة، سبقتها وتلتها حوادث كثيرة، يحتفظ لنا المؤرخون بتفاصيل كثيرة عنها، فيكتب عبدالرحمن الجبرتى، المؤرخ المصرى الشهير، فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، الذى أرخ فيه لدخول الحملة الفرنسية مصر، أن نابليون بونابرت قبل وصوله بجيوشه لشواطئ الإسكندرية أرسل منشوراً للمصريين، يطلعهم فيه على مخططه للبلاد التى جاءها بالعلم والتنوير، فيقول فى منشوره: «أيها المشايخ والقضاة والأئمة وأعيان البلد، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون.. الواجب على المشايخ والعلماء والقضاة والأئمة أنهم يلازمون وظائفهم، وعلى كل أحد من أهالى البلدان أن يبقى فى مسكنه مطمئناً، وكذلك تكون الصلاة قائمة فى الجوامع على العادة، والمصريون بأجمعهم ينبغى أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك، قائلين بصوت عال: أدام الله إجلال السلطان العثمانى، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوى، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».
خاطب نابليون المصريين باللغة التى اعتقد أنهم يفهمونها، غير أن ذلك لم يمنع المصريين من أن ينسحبوا إلى المساجد وعلمائها بعد أن ثبت لهم دخول الفرنسيين للبلاد، فتح لهم مشايخ الجامع الأزهر الأبواب على مصاريعها، حملوا معهم عبء الدفاع عن البلاد، وثاروا إلى جوارهم مرتين فى وجه الفرنسيين، وفى كل مرة كانت الثورة تفشل، كانت جموع الناس تعود مرة أخرى لدور العبادة ليلتمسوا فيها الأمان والراحة.
لم يختلف الأمر كثيراً مع انكسار أحمد عرابى على يد القوات البريطانية قبيل احتلالها مصر، ترسم الكاتبة أهداف سويف صورة شديدة الدلالة فى روايتها الشهيرة «خارطة الحب» لشقيق محمود سامى البارودى، وزير الحربية وقت الثورة العرابية، «بارودى بك» كما تسميه «سويف» ثار مع عرابى وانكسر معه، ثم هرب فى النهاية ليختبئ داخل مسجد يقع بمنزله، ورغم أن الخديو توفيق أصدر عفواً عنه، وأبلغ ابنه بأن باستطاعة والده التحرك والخروج من مكمنه، إلا أن «بارودى بك» يرفض، ويظل حتى وفاته داخل المسجد، يصلى، ويعبد الله، ويقول لابنه فى لحظات ضعفه: «إن عرابى لم يكن خائناً، غدروا به ديليسبس غدر به»، انكسر عرابى وانكسرت حركته التى أصبحت تعرف فى الرواية الشعبية بـ«هوجة عرابى» ليجد المصريون أنفسهم فى مواجهة مع الاحتلال الإنجليزى، لم يعد أمامهم ما يستطيعون فعله، فرفعوا فى وجه المحتلين شعارهم الشهير «يا عزيز يا عزيز كبة تاخد الإنجليز»، لجأوا لله طالبين منه أن يخلصهم من الاحتلال الذى قدر له أن يجثم على صدورهم أكثر من 70 عاماً.
مواجهة أخرى مع الاحتلال الإنجليزى كانت هذه المرة تحت قيادة زعيم آخر، وهو سعد زغلول، عندما ثار المصريون فى مواجهة محتليهم للمطالبة بالإفراج عن زعيمهم، الذى نفته سلطات الاحتلال لجزيرة مالطا، كانت دور العبادة هى النقطة التى ينطلق الجميع منها، وهو ما فهمه المحتلون وقتها، فحاولوا بدورهم أن يضربوا الثورة فى مقتل بمحاولة الوقيعة بين المسلمين والمسيحيين، وجاء الرد حاسماً وفورياً: القساوسة يخطبون فى المساجد، والمشايخ يخطبون فى الكنائس، وشعار الثورة الخالد، الذى ارتفع على علم مصر كان «هلالاً يحتضن صليبا»، وفشلت خطط الإنجليز لتنجح الثورة فيما ذهبت إليه. نعبر ذلك سريعاً لنصل لمنتصف الخمسينات من القرن الماضى، عندما واجهت مصر عدواناً ثلاثياً من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل لأسباب متنوعة، فلم يجد الرئيس جمال عبدالناصر بداً من اللجوء للجامع الأزهر، صعد لمنبره وسط الجموع الحاشدة، وخطب خطابه الشهير، معلناً فيه أنه سيقاتل الجيوش المعتدية، وتجاوبت معه الجماهير، التى خرجت من المسجد وهى مصرة على هزيمة الدول الثلاث، وهو ما تحقق فيما بعد بالفعل.
وبعيداً عن الحروب والاعتداءات الخارجية، فإن المصريين تعاملوا مع الظواهر الطبيعية التى هاجمتهم نفس تعاملهم مع الاعتداءات الخارجية، حدث ذلك عدة مرات، كان أشهرها زلزال أكتوبر عام 1992، الذى تسبب فى وقوع عدد كبير من المبانى، وتشريد عدد كبير من المواطنين، وقع الزلزال فى مصر ليحدث حالة من الهلع الشديد بين المصريين، إلى الدرجة التى اعتزلت فيها فنانة شهيرة التمثيل وارتدت الحجاب، فى حين امتلأت المساجد بالمصلين الذى راحوا يستمعون إلى مشايخ كثيرين راحوا بدورهم يذكرونهم بـ«ما فرطوا فى جنب الله».
«