«ما أشبه الليلة بالبارحة».. قاعدة تاريخية تكاد تنطبق على عالمنا العربى، خاصة فى القرن الماضى الذى شهد تراجعاً تاريخياً، وشاع فيه تراجع العلوم، والأنظمة المستبدة، وصارت الأمة العربية أمة تابعة بعدما كانت رائدة فيما مضى من التاريخ العربى، غير أن مثل هذه الأنظمة المستبدة كثيراً ما كانت تنسى أو تتناسى أن التاريخ يعيد نفسه مع ما يندلع ضدها من ثورات، وحركات مناهضة نجحت فى نهاية المطاف فى دحر الاستبداد والقهر لتنتصر مشيئتها فى نهاية الأمر، حيث الله غالب على أمره، وفى مصر تحديداً تكرر هذا التاريخ الثورى أكثر من مرة وفى أكثر من عهد، فقد اندلعت ثورات مماثلة لثورة 25 يناير 2011، مع اختلاف السيناريوهات والخلفيات التاريخية، ومنها ثورتا القاهرة الأولى، والثانية، خلال الحملة الفرنسية على مصر، وثورتا 1919 ضد الاحتلال البريطانى، وثورة 1924، وثورة 1935، وثورة 23 يوليو، التى نجحت بمباركة ودعم شعبيين، ونحن هنا نقدم ملفاً توثيقياً لبعض من هذه الثورات والمظاهرات بتفاصيل أحداثها وشهدائها وأبطالها ونتائجها، ونفتتحها بثورة 1919.
توكيلات «الوفد».. الشرارة التى أشعلت «ثورة 1919»
فى 13 نوفمبر 1918، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتوقيع الهدنة، توجه 3 رجال إلى المعتمد البريطانى للحديث عن مستقبل مصر، فكان هذا اليوم هو الصفحة الأولى فى ثورة 1919، وظل يحتفل به كعيد للجهاد إلى أن ألغته ثورة 23 يوليو 1952.
كانت ثورة 1919 اندلعت بعدما ظن كثيرون فى الخارج أن روح الثورة خبت فى عروق المصريين، ولم يبخل شباب مصر على هذه الثورة بأرواحهم بعدما ظن المستعمر البريطانى أن إزهاق روح بعض الشباب سيرهب الآخرين، فإذا باستشهاد الكثير من الشباب يذكى لهيب الثورة، أما الثلاثة الذين ذهبوا لمقابلة المعتمد البريطانى فكانوا سعد زغلول، وعلى شعراوى، وعبدالعزيز فهمى، وتوسط لهم فى هذه المقابلة حسين رشدى باشا، رئيس الحكومة وقتها، فقال المعتمد البريطانى لـ«رشدى باشا»: «كيف سوغ هؤلاء لأنفسهم أن يتحدثوا باسم الشعب المصرى»، فإذا بهذا الاعتراض يوحى للوفد بعمل صيغة توكيل للوفد ليتحدث باسم الأمة، فكانت حملة التوكيلات فى طول البلاد وعرضها، وأقبلت طوائف الشعب على توقيعها فكان ذلك أول تحد للسلطة.
وإذا بمستشار وزارة الخارجية الإنجليزى، يصدر أمرًا بحظر تداول هذه التوكيلات، فى كل مصر، ومصادرة ما تم التوقيع عليه. وأخذ البوليس يداهم الدور والمكاتب للاستيلاء على هذه التوكيلات، مما ألهب نفوس المصريين، بل مضت سلطات الاحتلال فى غطرستها، فمنعت الوفد من السفر إلى بريطانيا، لعرض المسألة المصرية فى 29 نوفمبر 1918.
وأخذ زعماء الوفد يخاطبون دول العالم ويعرضون القضية المصرية.
وفى 13 يناير 1919 كان أول خطاب جماهيرى وشعبى لـ«سعد زغلول»، رتب له «حمد الباسل»، وكان خطاباً طويلاً جداً، وأخذت سلطات الاحتلال تضيق الخناق على اجتماعات الوفد وسعد زغلول يتحدى والاحتلال يحذر، إلى أن هاجم «سعد» المحتل فى عقر داره، أو بالأحرى فى اجتماع عقده الإنجليز أنفسهم فى جمعية الاقتصاد والتشريع فى السابع من فبراير 1919.
وفى 6 مارس استدعى «واطسون»، قائد القوات البريطانية فى مصر، رئيس الوفد وأعضاءه لمركز القيادة بفندق سافوى، فى ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حالياً)، وحذرهم جميعاً مما يفعلون، ومن إعاقتهم تشكيل وزارة جديدة بعد استقالة رشدى باشا.
لكن «سعد» تحدى، ورأى أن مطالب «الوفد» مشروعة، ولم يمض سوى يومين حتى تم اعتقال «سعد» وصحبه كل من حمد الباسل، ومحمد محمود، وإسماعيل صدقى، غير أن هذا لم يرهب باقى رجال الوفد، بل أشعل حماستهم، واجتمع الوفد فوراً برئاسة وكيله على شعراوى باشا، وقرر الجميع السير على نفس النهج، وفتحت صفية زغلول بيت الأمة لاجتماعات الوفد الذى أرسل أعضاؤه مذكرة احتجاج على الاعتقال، لكل من السلطان العثمانى ورئيس الحكومة البريطانية، لتندلع شرارة الثورة، ويبدأ الطلبة حمل أول مشاعلها، فى نفس يوم نفى الزعماء، ففى التاسع من مارس، كان طلبة المدارس العليا أول من أظهر رد الفعل الشعبى الغاضب، على نفى قادة الوفد، فأضرب طلبة الحقوق أولاً عن الدراسة، ثم ذهبت مجموعة منهم إلى عبدالعزيز باشا فهمى، لاستشارته فغضب وثار فى وجوههم، وطلب منهم أن يتركوا رجال الوفد، ليعملوا ويقوموا بالمهمة، وانصرف الطلاب غاضبين وثاروا دون انتظار، حتى إن ناظر مدرسة الحقوق الإنجليزى (والتون) حاول إثناء الطلبة ففشل، فاستعان بنائب المستشار البريطانى الأكبر سناً لعل الطلاب يتأثرون به، فإذا به يزيد الطين بلة، عندما قال لهم اهتموا بدروسكم، ودعوا السياسة لآبائكم فاستشاطوا غضباً، وزادت حماستهم، وردوا عليه بقولهم: «لكنكم سجنتم آباءنا ولا نريد أن ندرس القانون فى بلد يداس فيه القانون»، وانضم إليهم طلبة المهندسخانة (الهندسة)، ثم طلبة مدرسة الزراعة والمدارس الثلاث التى تقع فى محيط الجيزة، وانضمت إليها طوائف الشعب، واعتقل الإنجليز 300 طالب، ولم يستطيعوا تفريق المظاهرات، إلا مع حلول الليل.
وما إن طار الخبر لأماكن أخرى فى مصر إلا وسرت عدوى الثورة فأضرب الطلبة فى المنيا وأسيوط، وخرجوا فى مظاهرات احتجاج، لكن لم يحدث ما يكدر وهج الثورة.
وعلى وجه السرعة تألفت لجنة أخذت على عاتقها توجيه الطلاب واسمها «لجنة الطلبة التنفيذية العليا»، وتولى رئاستها إبراهيم عبدالهادى، وحسن يس، وانتقلت القيادة إلى الشارع المصرى، وكان الإنجليز حكموا مصر لثلاثين سنة فى يسر وسهولة، فتم الرد على ذلك بقوة فى أيام معدودات حتى قضى الأمر.
وفى الحادى عشر من مارس، بدأ يتوالى إضراب الطوائف والهيئات، فأضرب عمال الترام، وفى أثرهم سائقو الحمير، ثم المحامون وأغلقت المتاجر، وقرر الإنجليز أن يبطشوا بالمتظاهرين حتى لا تتفاقم الأمور، وبدأوا بوضع الملصقات التحذيرية على جدران الأبنية.
وفى الثانى عشر من مارس، اندلعت مظاهرات حاشدة فى طنطا انطلقت بإضراب طلاب المعاهد الدينية فى طنطا وتبعهم باقى طلاب المدارس وقطع المتظاهرون السكة الحديد بين طنطا وتلا.
وبدأ الأزهر فى القاهرة يبرز فى المشهد من جديد، وفى 14 مارس (الجمعة)، خرج المصلون من مسجد الحسين بعد صلاة الجمعة حتى أطلقوا عليهم النار، فسقط 12 شهيداً، وجرح 24.
وقال الإنجليز إن الغوغاء أطلقوا النار على نقطة عسكرية فى قسم السيدة زينب، واندلعت المظاهرات فى قليوب، وقام المتظاهرون بإشعال النار فى محطة قليوب للسكة الحديد، فأحرقوها عن آخرها.
وفى 15 مارس وصلت الثورة صعيد مصر، فشهدت محطات الجيزة والبدرشين والحوامدية وبولاق الدكرور والواسطة مظاهرات حاشدة، وبدأ المتظاهرون يلاحقون الإنجليز فقتل آرثر سميث، كبير موظفى السكة الحديد، وأضرب المحامون الشرعيون، وفى السادس عشر من مارس، كانت مصر تستقبل الأسبوع الثانى من الثورة فخرجت التظاهرات النسائية.
ويبقى هناك معلم مهم من مظاهر هذه الثورة، هو مشاركة النساء، ففى 16 مارس خرجت النساء لأول مرة فى التاريخ الحديث لمشاركة الرجال فى جهادهم، وخرجن من خدورهن، وتعرض الإنجليز لهذه المظاهرة النسائية الحاشدة عندما وصلن بيت الأمة فصوبوا البنادق نحو صدورهن، فما كان من إحداهن إلا أن تحدت رئيس القوة الإنجليزية، وطلبت منه أن يطلق النار عليها.
كانت المظاهرة الكبرى فى السابع عشر من مارس، حين جرب الإنجليز الملاينة وسمحوا بسير المظاهرات، بل سار الحكمدار (راسل) فى سيارته على رأس المظاهرة الحاشدة، وما عليها من نظام غير أنه كان هناك من أراد أن يكدر صفو المظاهرة، وأن يوقع فتنة فأطلقوا الرصاص من بعض النوافذ، فسقط قتلى لكن الشعب الرائع أفسد الفرصة على المتآمرين، فنحى جثث شهدائه وواصل المسيرة الجبارة فى سلام ومنع الإنجليز أى مظاهرات فى اليوم التالى. ولعل أروع ما أبرزته ثورة 1919 تلك الملحمة الوطنية بين الأقباط والمسلمين، إذ ظن الإنجليز قبل ذلك، أنهم شقوا هذا الصف الوطنى بالإيقاع بين الأقباط والمسلمين، فإذا بهم يرون ذلك التلاحم وهذا الهتاف الرائع «يحيا الهلال مع الصليب» و«الدين لله والوطن للجميع» وهى هتافات من ابتكار الضمير الوطنى المصرى، صاغتها الإرادة الوطنية بتلقائية وبلا تصنع.
وعلى الجانب الآخر، اشتدت المظاهرات فى الإسكندرية، وسقط فيها 16 شهيداً و24 جريحاً، وفى رشيد هاجم المتظاهرون مركز الشرطة وأحرقوه، وهرب مأمور المركز ليعود بقوات بريطانية لقمع المظاهرة.
واعترفت سلطات الاحتلال بأن فى مصر ثورة عبر تقارير لجنة ملنر، فأوفدت بريطانيا إلى مصر اللورد اللنبى فى 21 مارس.
وأعلنت مدينة زفتى بالغربية استقلالها فى 18 مارس، وتم تأليف لجنة برئاسة يوسف الجندى، لحكم المدينة ووضع مأمور المركز نفسه بكل قوات البوليس، تحت تصرف اللجنة الحاكمة، التى راحت تباشر مهام الدولة المستقلة بل صنعوا علماً خاصاً بها. وفى القاهرة تحركت مظاهرة من بولاق قاصدة الأزهر، وواجهها الإنجليز وقتلوا من قتلوا، وفى التاسع عشر من مارس وقعت معركة فى الفيوم، حينما وقع صدام مسلح بين البدو والجيش الإنجليزى، وكان البدو قد قرروا الانتقام لاعتقال زعيمهم حمد الباسل ونفيه، وعامل الإنجليز البدو معاملة الأعداء فى المعركة، ورأوا أنه يتعين إبادتهم، وفى هذه المعركة استشهد نحو 400. وفى بورسعيد، فى 21 مارس، سقط فى المواجهات 7 شهداء و17 جريحاً، وحين علمت جموع الشعب بتعيين «اللنبى» مندوباً سامياً، وهو الذى تنخلع القلوب لوحشيته وفظاظته، زاد هذا من تحديهم وإصرارهم على مواصلة الثورة مادامت إنجلترا عمدت لترهيبهم.