الابنة إيناس تكشف أسراراً فى حياة سيد مكاوى: «كان هاوى طيران» و«كابينة القيادة» مكانه المفضل

كتب: شريف عارف الإثنين 11-06-2018 03:42

كثيرون لا يعلمون أن الموسيقار الشيخ سيد مكاوى، كان أحد المغرمين بعلوم الطيران والفضاء، وأنه فى كل رحلة له خارج مصر كان يصر على الجلوس لساعات مع قائد الطائرة داخل كابينته، ويدور الحديث حول الطيران والجديد فى علومه!

ربما يكون ذلك سراً من أسرار حياة «مسحراتى مصر» الذى حّلق بعشاق ألحانه إلى سماء الطرب، ليقدم للموسيقى العربية 2800 لحن من روائع النغم على مدى أربعة عقود منذ أن احترف التلحين وحتى رحيله.

الابنة إيناس مكاوى اختصت «المصرى اليوم» باستقبال وحوار خاص فى بيت «مسحراتى مصر» الشيخ سيد مكاوى.. لتكشف عن أسرار جديدة فى حياة الأب والصديق.. «فنان الشعب»..

فى منزل ابنته «إيناس» كل شىء له علاقة بالفنان الكبير. صور فى كل مكان. أغلفة دواوين أشعار لحنها وتغنى بها. تماثيل من النحاس والصلصال.. والعود الخاص به فى «حجرة المسافرين» – كما كان يحلو له أن يطلق عليها.. فى هذا المكان بدأ الحوار:

■ فى البداية قد يكون تقليدياً لو تحدثنا عن علاقة الأب والابنة.. ولكنك دائماً ما ترددين لفظ «صديقى».. كيف كانت أبعاد هذه الصداقة.. وكيف نشأت؟

- لا أعرف لها توقيتاً محدداً، فأنا لم أتعامل معه يوماً كأب. كنت صديقته فعلاً.. أقرأ له وأستمع إلى مشروعات ألحانه، وكثيراً ما كان يستشيرنى فيها، ويهتم كثيراً برأييى وكنت أعتز بذلك.. لا أعرف بداية معينة لشكل هذه الصداقة، ولكنى أربطها دائماً بواقعة، كان بطلاها هو وأنا. فقد كنا نسير وهو متأبطاً ذراعى على كورنيش الإسكندرية، لا أعرف من يمسك بيد الآخر ليعبر الطريق.. طال الطريق وتنوع الحديث واكتسب ندية اختفت فيها فوارق السن والخبرة.. كان لقاء مختلفاً بحق، ومن يومها أصبحت مستشارة له تقريباً فى كل شىء.. وربما «كاتم أسراره»!

■ كيف؟

- كنت أدرك طبيعة علاقته بالناس، حتى الخاص منها. كانت له خفة ظل غير مسبوقة وحضور روح تطغى على المكان، وحكمة ووطنية عميقة ارتبطت بطين الأرض، وسمات الحارة الشعبية و«جدعنة ولاد البلد»..

■ وهل كان يستشيرك فى ألحانه الجديدة؟

- فى أحيان كثيرة. كان يردد دائماً «لا أعرف أين أنتهى.. وأين تبدأ إيناس؟!».. كان يحب الاستماع لآراء الناس عموماً.. للقريب وربما الحاضر.

■ هل كانت له طقوس معينة أو مكان ما؟

- دائماً ما يكون «العود» رفيقه. هو قريب منه لا يفارقه، وفى جيبه «كاسيت صغير» لتسجيل الخواطر.. إنما هو دائماً ما كان يحب أن تكون أعماله بين الناس.. مع الأصدقاء والأحباب.

■ كثيرون ينظرون إلى الشيخ مكاوى الملحن والمطرب.. ولكنهم لا يعلمون جزءاً مهماً من حياته وهو قارئ القرآن الكريم.. ما الجديد الذى لا نعلمه؟

- ربما لا يعلم البعض أن الشيخ سيد مكاوى، كان عضواً فى لجنة اعتماد الأصوات بالإذاعة وإجازتها، وأن له تسجيلات للقرآن الكريم بصوته لعل أشهرها «قصار السور».. وفى تلاوته تجد رسماً لمعانى الكلمات ودلالاتها. ففى سورة «الضحى» تجده يظهر معالم الضعف فى قوله تعالى «ألم يجدك يتيماً» ثم القوة فى قوله «فأغنى»..

■ فيما تتمثل روعة سيد مكاوى الإنسان؟

- فى أنه «السند» ليس لى فحسب، ولكن لكل الوسط الفنى والمحيطين به. لقد قدم العديد من المواهب والأصوات الجديدة ومنها أصالة ولطيفة ولحن لهما أول لحن دون مقابل.. ورغم ذلك لم يسانده أحد فى بداية مشواره. كانت حياته صعبة وربما مستحيلة ليس فى كف البصر فحسب ولكن من حيث النشأة، ورغم هذا تجاوز كل ذلك دون تأثير سلبى فى نفسه. هذا العظيم كان يغضب حينما يتم تقديمه فى الحفلات بقول «الموسيقار الكبير».. كان يصر أن يُقدم باسمه فقط ويقول: «قولوا لهم يقولوا سيد مكاوى وبس»!

■ حتى لقب «فنان الشعب»؟

- هذا اللقب على وجه التحديد كان يغضبه، لأنه يرى أن فنان الشعب الحقيقى هو «سيد درويش».

■ هل ترين أنه امتداد لمدرسته؟

- بكل تأكيد.. هو يعتبر أن سيد درويش هو أستاذه الكبير الذى تعلم منه، حتى إن كثيرين يعتقدون أن ألحاناً لمكاوى هى من إبداعات «سيد درويش»..!

■ مثل ماذا؟

- لحن «الصحبجية».

■ بعد الطرب والألحان والغناء.. ما الهواية التى كانت مفضلة لديه؟

- الطيران..!

■ كيف؟

- فى حلقة مهمة من برنامج «أوتوجراف» للإعلامى طارق حبيب رحمه الله.. سأله إن لم تكن الموسيقار.. ماذا كنت تهوى أن تكون فرد بهدوء «طيار»!.. تعجب الجميع من هذا الرد. فقد كان أبى شغوفاً بالطيران، وغالبية قراءاته كانت فى علوم الفضاء والطيران، وفى كل رحلاته إلى الخارج كان المكان المفضل له هو الجلوس مع «قائد الطائرة» فى كابينة القيادة لجزء كبير من الوقت وبعدها يعود للجلوس فى مقعده بين الركاب!

■ هل شاهدت ذلك بنفسك؟

- نعم.. كنا فى رحلة إلى لندن.. وطلب من قائد الطائرة أن يجلس معه فى «الكابينة»، وظلا يتحدثان فى علوم الطيران والفضاء، وفوجئ القائد بغزارة معلوماته.. وبعد مرور بعض الوقت عاد ليجلس فى مقعده، وهنا جاء القائد وسأله «كيف عرفت هذه المعلومات.. التى تبدو مستحيلة لك؟» فرد عليه: «أنا المستحيل نفسه»!

■ هل كان قارئاً مولعاً بالكتب؟

- فوق ما يتصوره العقل. لقد كان له قارئ يحضر إليه بصفة مستمرة وفى توقيتات محددة، ولكنى فى أحيان كثيرة كنت أقوم بهذا الدور.. وعلمت أنه فى بداية حياته كان يشترى الكتب «مشاركة» مع أصدقائه من سور الأزبكية، والطريف أنه كان يدفع نصيب فردين (نصيبه هو)، ثم نصيب من سيتولى القراءة له!.. ولذلك كنت أحب أن أسمع عنه من أصدقائه.. ولا أكتفى بما عاصرته.

■ مثل من؟

- توأمه صلاح جاهين.. ولكن الكاتب الكبير حسن فؤاد كان له رأى آخر، كان يردد دائماً أن نجاح سيد مكاوى كان نجاحاً لنا جميعاً. كنا نرى فيه عبقرية غير مسبوقة تستحق الدعم والتقدم.. كان سابقنا لعمره وعصره وكنا نطلق عليه لقب «العجوز الصُغّير»، لأنك وأنت تستمع إلى ألحانه، كأنك تستمع إلى موسيقى عمرها مئات السنين.

■ وإلى أى مدى انعكس ذلك على الواقع الموسيقى؟

- قبل سيد مكاوى لم يكن هناك «موسيقى للإعلانات» مثلاً.. أصبح الإعلان أغنية خفيفة الدم والروح والمعنى.. وتحولت أغانى الإعلانات إلى تيمة يرددها الناس فى كل مكان.. معه أصبح لتيترات المسلسلات الإذاعية شكل ومضمون جديدين، وعنصر جذب.

■.. وربما ذلك ما حدث مع «الليلة الكبيرة» كأول أوبريت للعرائس؟

- هذه حقيقة.. وهل كان هناك مسرح عرائس قبل «الليلة الكبيرة».. دعنا من هذا الأوبريت العظيم.. ولكنى أتحدث عن تأسيس مدرسة فى الألحان والغناء للعرائس.. وهو ما لم تعرفه مصر من قبل..

■ بمناسبة الحديث عن «الليلة الكبيرة».. «المسحراتى» تركت أثراً كبيراً فى وجدان المستمع ثم المشاهد المصرى والعربى.. لماذا اختار الشيخ سيد مكاوى فؤاد حداد ككاتب وليس توأم روحه صلاح جاهين؟

- مكاوى كان يعتبر «فؤاد حداد» أبوالعامية المصرية على الإطلاق، كان إجلاله له كبيرا، فقد رأيت ذلك بنفسى، فلو أنك رأيت وقابلت فؤاد حداد لوجدت أنك أمام «الرقة» متجسدة فى إنسان، لدرجة أنك تظن أنه إنسان بلا عظام كبقية عباد الله. تركيبة غريبة من الصعب أن تصادف مثلها. وكنت أستمع إلى مقولة جميلة يرددها والدى عن «حداد» قائلاً: «كلام فؤاد بيكبر قلبى».. وكنت ألاحظ هذا على أدائه وروحه وهو يلحن «المسحراتى». كان هناك تمازج بينهما، وكنت أرى ملامح السعادة تعلو وجهه، ورغم صعوبة الكلمات وعمقها، إلا أنها كانت لا تستغرق وقتاً طويلاً فى فكر سيد مكاوى، فهناك تيمة رئيسية معروفة لنا جميعاً وهو «..وكل شبر وحتة من بلدى.. حتة من كبدى.. حتة من موال».. أما التيمات الأخرى فى موسيقى الحلقة نفسها تشعر وكأن «مكاوى» هو مؤلفها وليس ملحنها.. يحفظها بسرعة يُحسد عليها.. كانت بينهما توأمة غريبة وتفاهم غير عادى..

■ وما أقرب حلقات «المسحراتى» إلى قلبك؟

- «حقيقة كتير».. فالسنوات طويلة وارتبطت بأذهاننا جميعاً، وأصبح لكل مستمع أو مشاهد ذكرى خاصة معها، ولكنى أتوقف أمام حلقة «كوبرى إمبابة» فلها ذكرى ومعزة خاصة عندى، فيها يصف «حداد» الكوبرى القديم وأصالته و«البياعين» الجالسين على مرسى الكوبرى.. وصفا بليغا وعميقا وتفاصيل كل بائع وكل سلعة.. وأذكر منها قوله «..ولقيت حديد الكبارى.. من الحنان يرمش»..

■.. ورغم كل هذا النجاح لم يكن الشيخ سيد مكاوى هو أول من غنى ولحن «المسحراتى».. ما القصة الحقيقية فى ذلك؟

- عندما فكرت الإذاعة المصرية فى نقل «صورة المسحراتى» من الواقع إلى الإذاعة، اختارت عدداً من الملحنين للقيام بهذا العمل، ويلحن عدداً من الحلقات..

■ كم كان عددهم؟

- أربعة أو خمسة ملحنين تقريباً..

■ وماذا حدث بعد ذلك؟

- الواقع أن فؤاد حداد كتب «المسحراتى» خصيصاً للإذاعة ولم تكن ديواناً، وإنما تحولت إلى ديوان مطبوع بعد نجاحها فى الإذاعة.. المهم أن الشيخ سيد عرض أن يلحن هذه الحلقات بالكامل ولاقت قبولاً جماهيريا كبيراً، مما دفع الإذاعة إلى إسناد المهمة له بالكامل.

■.. وماذا بعد وفاة «حداد»..؟

- كانت المرارة الحقيقية.. عندما لحن «مكاوى» بعض الحلقات من كلمات شاعر آخر.. وقتها كنت أشعر أنه غير مرتاح لها.. كان يعتبر أن المسحراتى الحقيقى قد مات.

■ ولكن حاول كثيرون استغلال نجاح «المسحراتى» فى تقليد العمل وتقديمه بصورة أو بأخرى؟

- هذه حقيقة.. وأذكر أن أحد الشعراء عرض على الموسيقار الكبير عمار الشريعى أن يكتب حلقات من «المسحراتى» ليقوم هو بتلحينها فرد عليه: «أنت مجنون.. لقد أغلق مكاوى وحداد الباب»!

■ بعد كل هذه السنوات من الرحيل.. ماذا تبقى من تراث سيد مكاوى؟

- تبقى أولاً وأخيراً حب الناس وجماهيره العريضة ومحبيه من المحيط إلى الخليج.. أذكر أننى كنت أصطحبه إلى دار الأوبرا قبل رحيله بفترة.. وجلسنا نستمع إلى فرقة الموسيقى العربية وهى تغنى «الأرض بتتكلم عربى»، وفوجئت بالدموع تنهمر من عينيه.. وسألنى بهدوء: «تفتكرى أنا حاعيش قد أيه»؟!.. كان سؤالاً غريباً..فرددت: «موسيقاك ستظل خالدة».