فى فبراير الماضى، أُعلن تراجع رسمى من الحكومة ممثلة فى وزارة النقل عن تطبيق الزيادة المرتقبة آنذاك على أسعار تذاكر قطارات السكك الحديد، الشبكة الكُبرى الرابطة بين محافظات مصر العليا والسفلى، وقلبها العاصمة المعروفة لمرتادى القطارات بمحطة مصر، بيد أن التأجيل لم يبدل من ملامح خُطة الزيادة، إذ إنها تعود مرة أخرى مُحددة بإطار زمنى سقفه نهاية العام الدراسى الجارى، ليبدأ الطلاب على وجه الخصوص عامهم الجديد بالتعريفة الجديدة.
«المصرى اليوم» خاضت تجربة الارتحال مع أحد قطارات السكة الحديد المكيفة فى رحلة قصيرة شرقى الوجه البحرى، أوصلتنا إلى محطة «بنها» ولمسنا خلالها بعضا من مشكلات المواطنين مع استخدام خدمات السكك الحديد وطموحاتهم فى تعديلها على نحو أكثرعملية.
يمكن أن تبدأ تجربة المواطن مع سكك حديد مصر قبل التحرك من منزله تجاه محطة القطار، إذ يوفر الموقع الإلكترونى خاصية الاستعلام عن الرحلات المختلفة بمجرد تحديد المستخدم لمحطة القيام ومحطة الوصول والتاريخ، وهو الطريق الذى تخيرته «المصرى اليوم» قبل مغادرة الجريدة، إذ استهدفت القطار رقم 971 القادم من الوجه القبلى والمتجه إلى محافظة بورسعيد، والذى من المفترض أن يستقر إلى رصيف «محطة مصر» فى الساعة 1:45 من المساء، وتكلفته من القاهرة إلى بنها للفرد الواحد 15 جُنيهًا لا غير.
على خلاف الموقع الإلكترونى، تجاهل موظف السكة الحديد القطار المذكور تمامًا حال طلب المُحررة تذكرة قطار من القاهرة إلى بنها، ولم يتم الحجز إلا بعد أن ذكرته بوجود القطار رقم 971 على موقع سكك حديد مصر.. أمام مكتب الاستعلامات تسأل محررة الجريدة من أى رصيف ينطلق القطار إلا أن الموظفة تنظر للتذكرة باهتمام ثم تردها: «لأ القطار دا بيتأخر علشان جاى من قبلى، روحى مكتب الناظر شوفى لو ممكن ترجعى التذكرة»، رغم ذلك قررنا انتظار القطار لاختبار المدى الزمنى لتأخره.
أخيرًا فى تمام الواحدة والثلث وثلاث دقائق أعلنت الإذاعة الداخلية أن القطار رقم 971 لن يصل بموعده، بل سوف يتأخر حتى الثالثة عصرًا، بواقع تأخير رسمى قدره ساعة و15 دقيقة، فى واقع الأمر، استقر القطار أخيرًا على رصيف رقم 9 فى الثالثة و20 دقيقة، ولم يبارح المحطة سوى فى الثالثة و45 دقيقة تمامًا بتأخير ساعتين.
من بين الجلوس على رصيف 9، أسرة موجه مادة الفيزياء، محمد مختار إذ قرر وزوجته استقبال أحد الأقارب القادمين من صعيد مصر فى المحطة الرئيسية، إلا أن الأمر انتهى بهم وبصغير عمره لا يتجاوز 7 سنوات لمدة تصل لساعتين، فيقول الأب الخمسينى: «إحنا جايين هنا نستقبل ناس قرايبنا من الصعيد، بس للأسف قاعدين فى المحطة من ساعتين، لكن دا مش وضع دائم»، إلا أن الموجه يؤكد أن تأخيرات مواعيد القطارات ليست دائمة بل إنها ترتبط أغلب الأحيان بمواسم الإجازات والأعياد الدينية والمناسبات: «الموضوع فى أغلب الأحيان بيعتمد على كثافة الركاب، وإحنا أكيد نتمنى الخدمة تبقى مميزة طول الوقت لكن وارد تحصل ظروف». تتحرك أسرة «مختار» تجاه أحد الأبواب لاستقبال أقارب طال انتظارهم، فى حين تهرع سيدة أربعينية إلى القطار، تتزاحم بين مسافرين وصلوا للتو، تتحين فرصة مناسبة للدخول داخل القطار ومن ثم البحث عن مقعدها الوثير بالدرجة الثانية المُكيفة، تُدعى السيدة نجلاء، ويرافقها فى مشوارها القصير للبحث عن الكرسى صغيران لا يتجاوز عمر كل منهما 10 أعوام، أخيرًا، تجد ضالتها فى ثلاث كراسىّ متجاورة بالعربة رقم 8 حيث استقرت مع صغيريها.
تحتفظ نجلاء بتذاكر القطار بين يديها بحرص، كانت قد وصلت إلى القاهرة منذ بضعة أيام قادمة من بورسعيد للاحتفال مع أختها بعيد القيامة المجيد، وها هى فى طريق العودة إلى منزلها مع الصغار مرة أخرى، أما عن تكلفة الرحلة فتحاول حسابها، 33 جُنيهًا لتذكرة كاملة من القاهرة إلى بورسعيد، 27 جُنيهًا لنصف التذكرة لكل من الطفلين بإجمالى 87 جُنيها للقطار المُكيف 971.
«السفر عمومًا مكلف»، تؤكد الأم قبل أن تكمل حديثها، موضحة أن تمكنها من زيارة أختها فى القاهرة جاء من قبيل الصدفة، بسبب عدم تمكنها عادة من توفير النفقات اللازمة للسفر ما يجعله فى مرتبة متدنية من أولوياتها، ويسترعى التفكير والتخطيط غير مرة: «السفر يعنى تذاكر القطار، وبعد كده المواصلات ومصروف الإيد، أنا شخصيًا مش هعملها تانى».
فى رحلة الذهاب قبل بضعة أيام فى القطار الاعتيادى غير المكيف تمكنت «نجلاء» من الحصول على مقعدها بسعر أنسب لميزانيتها المتواضعة، فقط 15 جُنيها، لكنها تتشكك فى قدرتها على السفر مجددًا فى حال رفع الأسعار وتقول: «إحنا كمان عندنا مصاريف السكن والإيجار ودى غالية فى بورسعيد، ومصروف المدارس والدروس للأولاد، هنجيب منين للسفر».
لم تكن «نجلاء» ضيفة 971 الوحيدة المتجهة إلى الوجه البحرى، إذ كان هناك عشرات آخرون يحتلون مقاعد عدة فى عربات القطار بمختلف درجاتها، تعلو فيما بينهم اللكنة «الصعيدية» المميزة، فتشى بأصول أغلب المسافرين، المسترخين على المقاعد من جهة أخرى وأمام كل ثنائى تمتلئ الحقائب الصغيرة فى ظهر المقاعد ببقايا الطعام، أغلفة الحلوى والبسكويت، تقوت بها المسافرون واستعانوا بها على طول طريقهم من الصعيد إلى الدلتا نهاية بمحافظة بورسعيد.
لا يُستغرب أن يمر كذلك بين المحطات الفاصلة بعض من الباعة الجائلين، يعرضون أكواب الشاى البلاستكية الساخنة، الوجبات السريعة حاضرة كذلك، لكن على طريقة «محطة مصر»، وهى المكونة من أرغفة الخبز المدعومة بأوراق الجرجير الطازجة والنضرة، بيد أن كل ذلك لا يلفت نظر شاب نحيل، يحتل أحد مقاعد العربة رقم 7 وينشغل تمامًا بقراءة ملحوظات مكتوبة على دفتر ملاحظات خاص به، مقرونا بقلمين باللونين الأحمر والأزرق.
يدرس الشاب أحمد السيد بكلية الطب، ويقطن بالقاهرة قرب جامعته فيما يستخدم القطار للعودة لمنزل العائلة مرة أسبوعيًا أو كل 15 يومًا كما يوضح، تقطن عائلة أحمد بالقرب من محافظة «الزقازيق» تحديدًا قرية «ههيا»، يتطلب الوصول إليها من مقر سكنه بالقاهرة ركوب 4 وسائل مواصلات مختلفة، أيسرها رحلة القطار كما يوضح وتكلفتها الإجمالية 27 جُنيها.
«أنا أركب مواصلة من البيت للقطار، ومن القطار للمركز وأخيرًا للبيت، تذكرة القطار وحدها 20 جنيه من هنا للزقازيق»، يمكن أن يتحمل أحمد دفع ثمن التذكرة الحالى بيسر مرة كل أسبوعين، لاستقلال القطار والسفر بوسيلة مريحة إلى مسقط رأسه، لكن الزيادة قد تحمله أعباء إضافية حسبما يُضيف: «لو التذكرة غليت عن كدا هتبقى مرهقة».
رغم ذلك لا ينتوى أحمد التخلى عن استقلال القطار فى حال رفع سعر تذكرته، إذ يعتبر بالنسبة لظروفه الحالية وسيلة انتقال مثالية: «مثلا لو كان القطار جه فى معاده، كنت وصلت البيت الساعة 3، وكان هيفضل اليوم قدامى»، أهم مميزات القطار على الإطلاق السرعة، وبالتالى الحفاظ على وقت الطالب الثمين، إضافة لإمكانية ممارسة أنشطة داخل القطار كالاستذكار والمراجعة، يختتم الشاب حديثه: «لو الزيادة معقولة هفضل آجى بالقطار، على الأقل مش هروح منهك».
داخل العربة ذاتها، يجلس عمرو، طبيب بشرى مستغرقا فى النوم على مقعده، وسماعات الهاتف بأذنيه، فالرحلة معتادة بالنسبة للطبيب الثلاثينى، إذ يعمل فى القاهرة بينما يسكن وعائلته فى مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، مما يضطره إلى السفر بشكل يومى من وإلى القاهرة بالقطار، ما يكلفه ميزانية مستقلة: «فى وقت كان عندى اشتراك، كنت بستفيد منه وبدفع فى القطار حوالى 12، بعد الاشتراك بقيت أدفع حوال 19 جنيه».
يحاول الطبيب الشاب أن يعدد مزايا القطار عن غيره من وسائل المواصلات، فيقول: «أنا على الأقل قاعد هنا مرتاح، مفيش حد لازم فيا زى المواصلات، لأ مرتاح وكمان القطار مكيف، مفيش أى مواصلات مكيفة دلوقتى وكل دا بـ20 جنيه»، يدفع عمرو ضريبة الراحة من ميزانيته الخاصة، إذ يكلفه الذهاب والإياب يوميًا حوالى 1200 جُنيه شهريًا، مما يجعل أكثر الخيارات اقتصادية من وجهة نظره الانتقال للمعيشة بالقاهرة، يقول الشاب: «مهما كانت الزيادة صغيرة، 5 جنيه أو 10 جنيه، هتفرق فى الميزانية النهائية وهتبقى مزعجة».
انتهت رحلة «المصرى اليوم»، وفقًا لتذكرة السفر بمجرد دلوف القطار إلى محطة «بنها» بالقليوبية، فيما غادر عشرات الركاب القطار، إلى الرصيف، عبر آخرون من الجهة المقابلة إلى قضبان القطار الحديدية مباشرة أملًا فى اختصار الوقت غير عابئين باحتمالية ظهور قطار عن اليمين أو اليسار فى طقس مصرى مُعتاد، وأكملت محررة الصحيفة رحلتها لمدة 45 دقيقة أخرى حتى وصول قطار فى طريق عودته للقاهرة.