■ أثارتنى كثيراً قضية السلبية التى يعتنقها الكثير من المسلمين، والاتكالية التى يجاهرون بها معتمدين على قضية شفاعة رسول الله سيدنا محمد للمسلمين أجمعين
لا أستطيع تخيل أن يخرج العصاة من النار ويدخلون الجنة لمجرد الشفاعة.
■ كنت أتساءل: كيف يكون هناك فى النهاية وأمام العدل الإلهى واسطة أو «فيزا كارت» و«كوسة» لدخول الجنة.
■ هل يعقل أن يتوسط الرسول للعصاة والزناة والقتلة من المسلمين ليدخلهم الجنة ويساوى بين الصالحين؟!
■ يجب أن يتخلى المتصوفون عن مقولتهم الاتكالية «افعل ما تريد وصلى على الشفيع»، ففيها منتهى الاتكالية وإباحة ارتكاب المعاصى.
مصطفى محمود
مشكلته الحقيقية التى كانت تثير الآخرين ضده أنه كان طموحا.. مغامرا.. منقبا.. مكتشفا.. رائدا فى كل شىء، بداية بظهور الفكرة إلى تنفيذها.. هذه باختصار صفات اكتسبها عالمنا الكبير الدكتور مصطفى محمود.. لم يقبل مجرد تلقى الدين بالوراثة، أراد أن يبحث ويكتشف ويفكر ويخرج بنتائج جديدة لم يصل إليها أحد من قبل.. نتائح جعلت نفوس الكثيرين تحمل له الضغينة، وهنا يقول مصطفى محمود: «دائما كنت أتمرد على المسلمات خاصة الدينية، فكيف أتلقى الدين بدون تفكير، وقد وهبنا الله عقولا ميزنا بها على جميع مخلوقاته،
وبالفعل أثارتنى كثيرا قضية السلبية التى يعتنقها الكثير من المسلمين، والاتكالية التى يجاهرون بها على قضية شفاعة رسول الله سيدنا محمد للمسلمين أجمعين حتى يخرج العصاة من النار ويدخلهم الجنة وكنت كثيرا أفكر فى هذه القضية وأقول: كيف يكون فى النهاية، وأمام العدل الإلهى، واسطة أو فيزا كارت لدخول الجنة، وهل يعقل أن يتوسط الرسول للعصاة والزناة والقتلة من أمته ليدخلهم الجنة ويساوى بين الصالحين».
ثم صمت بعض الوقت، وقال: «قبل أن أدخل بكم فى عمق القضية يجب أن أحدثكم كيف بدأت الفكرة.. وهى بالفعل راودتنى عندما حضرت أحد الموالد والحضرات الصوفية، ووقع على مسامعى صوت أحد الدراويش يردد (افعل ما تشاء وصلى على اللى هيشفعلك).. أذهلتنى العبارة فخرجت من اندماجى بترديد الأوردة الصوفية وسألت الناس فى الحضرة عن هذا الكلام، وترتب عليه مناقشة طويلة فى هذا السياق، علمت من خلالها أن الاتكالية عند البشر لا حدود لها، وفى نفس الوقت كان يجول بذهنى موضوع الآخرة والحساب والجنة والجحيم وأهوال القيامة وأنا أطالع مشاهد الشتات والتهجير والتجويع والمطاردة لتسعمائة ألف من مطاريد كوسوفا والامهات تبكى والاطفال كالتماثيل المشدوهة تحملق فى الفراغ فى رعب،
وأتساءل: أيخطر بذهن هذا الرجل المجنون «ميلوسوفيتش» فكرة الآخرة والحساب ام يظن فى عمى التعصب أنه سوف يكافأ على طرده للمسلمين الكفرة - بحسب اعتقاده - وتطهيره للأرض من أرجاسهم، وأنه سوف يؤجر على عمله بالجنة.. إن الرجل مسيحى أرثوذكسى وقد فعل الكاثوليك فى إسبانيا عند سقوط الحكم الاسلامى بالمسلمين أسوأ بكثير مما فعل، فقد أحرقوا المسلمين أحياء وهذه هى أوروبا التى تتشدق بحقوق الانسان والتسامح الدينى والعلم والحرية والفن والثقافة الرفيعة وجال بخاطرى الكثير من الأفكار..
هل من المعقول أن مثل هؤلاء السفاحين سينعمون بالشفاعة ويدخلون الجنة لو أنهم من أمة الاسلام؟ وعكفت على دراسة القضية بشكل علمى منهجى بحثى فى القرآن وفى كل كتب السيرة والسنة والاحاديث الصحيحة، ووجدت أن رواة الأحاديث أجمعوا على أن النبى قد نهى عن تدوين الأحاديث، وجاء هذا النهى فى أكثر من حديث لابى هريرة وعبدالله بن عمر وزيد بن ثابت وأبى سعيد الخدرى وعبدالله بن مسعود وغيرهم».
وأضاف المفكر الكبير: (وفى كلمات أبى هريرة يقول فى قطعية لاتقبل اللبس «خرج علينا الرسول ونحن نكتب أحاديثه فقال ما هذا الذى تكتبون.. قلنا أحاديث نسمعها منك يا رسول الله.. قال.. أكتاب غير كتاب الله.. يقول أبوهريرة فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه بالنار». وأبوهريرة نفسه هو الذى قال فى حديث آخر: بلغ رسول الله أن أناسا قد كتبوا أحاديثه فصعد المنبر وقال «ما هذه الكتب التى بلغنى أنكم قد كتبتم.. إنما أنا بشر فمن كان عنده شىء منها فليأت بها.. يقول أبوهريرة.. فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه بالنار».
كما أن هناك حديثا للرسول متفقا عليه حيث قال «لا تكتبوا عنى غير القرآن ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه» وفى رواية لابى سعيد الخدرى قال «استأذنت رسول الله عليه الصلاة والسلام أن أكتب حديثه فأبى أن يأذن لى»، أما عبد الله بن عمر فقال «خرج علينا رسول الله عليه الصلاة والسلام يوما كالمودع وقال: «إذا ذهب بى فعليكم بعدى بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه». وأبو بكر أول الراشدين روت عنه ابنته عائشة فقالت «جمع أبى الحديث عن رسول الله وكان خمسمائة حديث فبات ليله يتقلب كثيرا فلما أصبح قال.. أى ابنتى هلمى بالأحاديث التى عندك فجئته بها فدعا بنار وأحرقها»،
أما ثانى الراشدين عمر بن الخطاب فقد صعد المنبر وقال «أيها الناس بلغنى أنه قد ظهرت فى أيديكم كتب فأحبها إلىّ أحسنها وأقومها فلا يبق أحد عنده كتابا إلا أتانى به فأرى رأيى فيه، فظن الناس الذين كتبوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يريد أن ينظر فيها فأتوه بكتبهم فجمعها وأحرقها وقال أهى أمية كأمية أهل الكتاب ثم كتب إلى الانصار من كان عنده من السنة شىء فليتلفه».
ويواصل د. محمود: (كان خوف عمر أن يحدث ما حدث لأهل الكتاب من تأليه الانبياء وتقديس كلامهم فيتحول مع الوقت إلى وحى له شأن الوحى الإلهى، وكهنوت كما حدث فى الأديان الأخرى، ثم كان الخوف الأكبر من الأحاديث الموضوعة والمدسوسة والاسرائيليات. فهناك الحديث الذى ينسب لرسول الله والذى ورد فيه أن موسى فقأ عين ملاك الموت عندما حضر ليقبض روحه فهل هذا كلام معقول..
وهذا يدل على أن هناك أحاديث مدسوسة وإسرائيليات كثيرة ويجب تطهير الحديث منها والتى من بينها أحاديث الشفاعة، والدال على هذا ذلك أن الإمام البخارى لخوفه وتشككه فى كثير من الأحاديث لم يدون من أربعمائة الف حديث جمعها إلا أربعة الاف حديث فقط، وهو نفس الخوف الذى كان فى قلب أبى حنيفة الذى لم يصح عنده سوى سبعة عشر حديثا من مئات الألوف، وبعد دراستى لتلك المعلومات ودراستها جيدا والتأكد من صحتها قلت فى ذلك الوقت: إذا كان هذا الشك والخوف طارد عقول وقلوب كبار أئمة الحديث، فإن من الطبيعى أن يكون عندنا أضعاف هذا الخوف، وأيقنت أنه يجب ألا أقبل من الأحاديث ما يناقض القرآن الكريم، لأن القرآن هو التشريع الأول والسنة هى التشريع الثانى، فإذا ناقض الثانى الأول يصبح حكم الثانى خاطئا والتنفيذ للأول، وهذا بالطبع ليس إنكارا للسُنة ولكن غيرة على السنة وخوفا عليها من الوضاعين والمتقولين الذين قوّلوا الرسول عليه الصلاة والسلام ما لم يقل ).
ويتابع: «بالفعل خرجت من القرآن بمجموعة من الآيات تؤكد صحة أفكارى واجتهاداتى تجاه قضية الشفاعة، والتى ليست مباحة للجميع وهناك شروط لتطبيقها، وكانت هذه الآيات هى «لله الشفاعة جميعا ـ ما من شفيع إلا من بعد إذنه» يونس، «وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولىّ ولا شفيع» الأنعام، «يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا» طه، «فما تنفعهم شفاعة الشافعين» المدثر... إلى آخره من الآيات التى تثبت أن الشفاعة موجودة ولكن لها شروط وضوابط وأهمها أن الله يعطيها لمن يشاء وينزعها ممن يشاء وأن الرسول سيتشفع، ولكن لن يكون بين المتشفع لهم زانٍ أو قاتل أو سارق، وخرجت بكل هذه الحقائق الموجودة فى القرآن والسنة فى كتاب حمل عنوان «محاولة لفهم الشفاعة» والذى لاقى ما تلاقيه معظم كتاباتى الفكرية من هجوم من فئة المتزمتين أصحاب العقول المتحجرة والرجعية وكالعادة ألصقوا الفتوى من فوق منابرهم السلفية بتكفيرى للمرة الثالثة، وكانت أسبابهم فى هذه المرة أننى طاعن فى السنة ومنكر لها.
ويستطرد: (لكن الشىء الغريب والعجيب أنه فى بداية طرحى للفكرة والكتاب فى الأسواق ساندنى وأيدنى شيخ الأزهر، محمد سيد طنطاوى، من خلال مجموعة مقالات نشرت فى جريدة «الأهرام» أثبت فيها أن كتابى يحمل حقائق دينية نغفل عنها جميعا تستحق البحث والدراسة التى يتكاسل عنها الان معظم علماء المسلمين، ولكنى بعد ذلك فوجئت بعاصفة شديدة وهجوم عنيف من التيارات الدينية ومن بعض علماء الأزهر وأئمته وكأن السنوات تعود بى إلى الوراء،
وأيقنت أنه مازال الازهريون يعتقدون أنهم هم المكلفون بأمور الدين والتفسير والاجتهاد وما إن قامت الدنيا كلها ضدى حتى هرب الشيخ طنطاوى شيخ الأزهر وتركنى فى الساحة وحدى وسحب تأييده لى وكأننى كفرت بالله سبحانه وتعالى ولم يتدبر هؤلاء المتذمرون والمعارضون لى ما هو المقصود بالضبط من هذا الكتاب، وفسر البعض أننى منكر لوجود الشفاعة من أساسها كما قلت.. وانفجرت الردود فى وجهى من جميع الاتجاهات حتى تجاوزت المؤلفات التى ترد على كتابى الاربعة عشر كتابا،
ولكن أشد ما أحزننى أن الكثير من الذين هاجمونى لم يقرأوا الكتاب من الاساس وذلك كان واضحا وظاهرا من ردودهم غير المنصفة وكان من بينهم الدكتور يوسف القرضاوى، فرغم أننى أحبه وأقدر مكانته الدينية إلا أنه هاجمنى دون أن يقرأ الكتاب حيث اكد هو والاخرون أننى انكرت الشفاعة والحقيقة أننى لم أنكر الشفاعة ولكنى أقول إنها مشروطة بضوابط).
ويوضح محمود: (كانت الردود الغاضبة والعائبة تتزايد كل يوم على الاخر وأنا لم أفهم سببا واحد لهذا الغضب فالله بكرمه فتح لنا باب التوبة لنتوب عن ذنوبنا ونتطهر من أوزارنا وجعل هذه التوبة ممدودة إلى النفس الأخير فلا يغلق بابها إلا ساعة الحشرجة، فالله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، هو وحده صاحب الكلمة فى ذلك اليوم، لم يتخذ له وكلاء ولا مساعدين، وهو مالك يوم الدين كما نقرأ فى فاتحة الكتاب فى كل صلاة فلا يمكن أن يشاركه أحد فى ذلك اليوم،
وأيقنت أنى مهما قلت وحاولت أن أوضح حقيقة ما أعنيه فإن هواة الجدل سيتكلمون إلى آخر الدهر ولكن دون جدوى، ووجدت أن موضوع الشفاعة أصبح الشعرة التى يتمسك بأهدابها المذنبون والمجرمون، وأحلاما يتعلق بها كل من قعدت به همته عن الطاعة وأنا لا أريد عذابا لأحد بالعكس فأنا مثل غيرى من أهل الذنوب ألتمس الخروج من أهوال هذا اليوم ولكنى وجدت أن القرآن لا يفتح بابا إلا ويسده فهو يقول «ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له» وهو كلام عن الملائكة ولكن ماذا يقول القرآن بعد ذلك «حتى إذا فُزّع عن قلوبهم» لهول الموقف، وقول الملائكة: «قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير»،
إذن لا مفر فى هذا اليوم يوم الفزع الاكبر عن الحق ولا إذن إلا بالحق، وفى مكان آخر يقول عن الملائكة «ولا يشفعون إلا لمن ارتضى»، وبذلك عاد فأغلق الباب وجعله مقصورا على أهل الرضا أى المرضىّ عنهم، أى تحصيل حاصل لأن المرضى عنهم ناجون بحكم ما فعلوا فى حياتهم من خير، والحسنات كما يقول القرآن يذهبن السيئات، وحظ الملائكة هو تشريفهم، وحظ كل من يقوم بهذه الشفاعة هو تشريفه، فهو الذى سيقوم بالتهنئة ويضع النيشان على صدر صاحب النصيب ولكن هذا النصيب هو لا شك واصل لصاحبه لأنه حقه، وهذا يوم الحق الذى لا يتم فيه شىء إلا بالحق).
ويواصل: (دائما كنت أتعجب من الرافضين والمستنكرين فأنا مثلهم من أهل الذنوب ومحتاج لقشة أتعلق بها فى هذا اليوم الذى تشيب من هوله الولدان، ولكنى لا أستطيع أن أخدع نفسى ولا أستطيع أن أحرف معانى الآيات القرآنية لأخرج منها بما يرتاح له قلبى ويشفى فزعى، فإن الحق أحق بأن يقال وأولى بأن يتبع وإن كان لا يصادف الهوى ووجدت أنه يجب علينا أن نواجه هذه الحقيقة المؤلمة يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا تنفعها خلة ولا شفاعة،
والله يربط هذا القانون باسمه الإلهى فى سورة السجدة فيقول «الله الذى خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من من دونه من ولىّ ولا شفيع أفلا تتذكرون ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع» والنفى هنا قطعى لاى نوع من ولىّ أو شفيع، هذا القطع الذى يرتجف له القلب فزعاً والذى لا تملك له إلا السجود مبتهلين أن يفتح لنا الله بكرمه وفضله باباً للتوبة ماذا نملك أمامه سوى الاستغفار وطلب العفو والصفح والعزم على التطهر من كل إثم، وعلى عدم العود إلى المخالفة أبدا؟
وما حفزنى اكثر على إخراج كتاب الشفاعة حديث رسولنا العظيم الذى قال فيه «من يترك العمل يتكلم على الشفاعة يورد نفسه المهالك ويحرم من رحمة الله».. كان خوفى من هذه الاتكالية هو حافزى الأول والاخير وما كتبت وما خضت هذه المعركة الشرسة إلا ابتغاء مرضاة الله، ويعلم الله أنى أتكلم الآن وأقول الحقيقة، فلم أقصد الاساءة إلى الدين أو الرسول كما صورونى للناس فقد عشت عمرى كله أحمل راية الدفاع عن الدين).
وينهى المفكر الكبير الحديث عن قضية الشفاعة قائلاً: (ابتعدت بعد ذلك عن الساحة الإعلامية والجدلية الفلسفية والفكرية لاسباب صحية بحتة.. ابتعدت بعد هذا الصراع والجدل عن الساحة وهذا جعل المعارضين لفكرى يرددون إشاعات بأننى عندما اكتشفت خطئى اعتزلت الحياة الاجتماعية خشية مواجهة المجتمع، وهذا غير صحيح فلو يعرفوننى جيدا لعرفوا أننى من أوائل المعترفين بأخطائهم إذا وقعت للتطهر منها، وأننى أقول إذا كنت ابتعدت عن الساحة بجسدى فإن أفكارى وكتبى ستظل موجودة دائما، وأننى لم أتراجع عن موقفى الذى اتخذته تجاه قضية الشفاعة حتى الآن).