شاركت لينا عطا الله، مدير تحرير الموقع الإنجليزي لـ«المصري اليوم»، مؤخرًا في قافلة أمواج الحرية التي انطلقت يوم الجمعة، الرابع من نوفمبر، حاملة المساعدات الطبية إلى قطاع غزة المحاصر، وقد ألقت القوات الإسرائيلية القبض على الزميلة في نفس اليوم، وكذا بقية مرافقيها، وهم 27 صحفيًا وناشطًا من جنسيات مختلفة، ولكنها عادت إلى مصر بسلام يوم السبت الخامس من نوفمبر بعد الإفراج عنها.
ضمت القافلة قاربين أحدهما كندي والآخر آيرلندي، وكانت تهدف لجذب الأنظار للحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007.
وفيما يلي شهادة لينا عطا الله على الأحداث:
في صباح يوم الجمعة، وعلى متن القارب «تحرير»، جلس الجميع أمام شاشات أجهزة الكمبيوتر لإمداد العالم بالأخبار أولًا بأول عن سير قافلة المساعدات، قام ديفيد هيب، أحد منظمي الرحلة، بعمل مدخل ضخم لمركزنا الإعلامي المتنقل، قبل أن يعلو صوته معلنا، وسط تصفيق من باقي الأفراد، أن القارب صار على بعد 50 ميلًا من غزة.
في الليلة السابقة، كان الجميع يتوقع تدخلًا إسرائيليًا في أي لحظة، فلإسرائيل سوابق عدة فيما يتصل بمهاجمة سفن التضامن مع غزة عند المياه الدولية، وعادة ما يحدث ذلك على بعد 100 ميل بحري من القطاع.
ولكننا استيقظنا بدلًا من ذلك على يوم مشمس، واكتشفنا أن أجهزة الاتصال لدينا تعمل بكفاءة، وصار لدينا اعتقاد بأننا على وشك الوصول إلى غزة. وأمضى الناشطون النصف الأول من ذلك اليوم في تزيين القارب بأعلام ولافتات وأعمال فنية تعبر عن التضامن مع غزة.
إلا أن ذلك الشعور بالحماس لم يذهب عنا حالة الترقب للتدخل الإسرائيلي، حيث عمل الناشطون على صنع لافتات تحمل عبارات بالإنجليزية والعبرية مثل «هذه قرصنة» و«هذا اختطاف»، تحسبا لأي هجوم.
كنا محقين في عدم الإسراف في التفاؤل. فمع دخول فترة الظهيرة شاهدنا في الأفق ثلاث سفن حربية إسرائيلية، لقد حانت اللحظة، عندها بدأ بعض الناشطون والصحفيون في إلقاء المعدات في البحر، خوفا من أن تستخدم إسرائيل المعلومات المخزنة عليها لتوريط ناشطين آخرين ممن لم يتواجدوا على متن القارب.
وبعد قليل، زاد التواجد الإسرائيلي حول القارب، ورأينا ما لا يقل عن 15 سفينة أربع منها كانت سفنًا حربية، وأما البقية فخليط من زوارق صغيرة ومدافع مائية. بداخل الزوارق الصغيرة، وقف العشرات من الجنود الإسرائيليين مصوبين بنادقهم تجاهنا. في تلك اللحظة انقطعت وسائل الاتصال بيننا وبين العالم الخارجي.
بدأ قبطان القارب «تحرير»، إيهاب لطيف، في تلقي الرسائل اللاسلكية من البحرية الإسرائيلية التي استفسرت عن منظمي القافلة ووجهتهم. رد لطيف بأن القافلة متجهة إلى غزة، محذرًا القوات من أن أي محاولة لاعتقال الطاقم ستكون غير قانونية. وحينما كرر الجنود الإسرائيليون سؤالهم عن وجهة القافلة، رد لطيف، وهو شاعر:«الخير للبشرية».
على إثر ذلك، عرضت علينا القوات الإسرائيلية إرسال فرد واحد لتفتيش القارب والتأكد من خلوه من الأسلحة، ووعدونا بأن نمر إذا لم يجدوا سلاحًا على متنه، وقوبل هذا العرض بارتياب من جانب النشطاء، بالرغم من أن بعضهم رأى فيه فرصة للدخول إلى غزة. إلا أن طاقم القارب الأيرلندي رفض العرض بشدة.
وفيما اقتربت منا السفن الإسرائيلية بشكل أكبر، فوجئنا بالقارب الأيرلندي يتحرك باتجاهنا ويصدمنا بقوة، ما أدى لتحطم منطقة الصعود الخاصة به، خمنا أن يكون ذلك نوعا من المقاومة في وجه محاولة القوات الإسرائيلية الصعود عنوة إلى سطح القارب، ولكن تعذر علينا الاتصال بالطاقم الآخر لمعرفة السبب الحقيقي.
عندئذ، سحب الإسرائيليون عرضهم، وطالبونا عبر اللاسلكي بأن نتوقف عن التحرك، وقالوا إنهم سوف يصعدون على متن القوارب قبل أن يصطحبونا إلى ميناء أشدود الإسرائيلي. وما إن رفض طاقمنا الانصياع لهم، حتى قام الجنود بتصويب مدافع المياه المالحة باتجاهنا وأغرقونا بها. كان هيب قد حذرنا قبلها بدقائق قائلا:«استعدوا للحصول على حمام مياه».
استمرت التحذيرات الإسرائيلية عبر اللاسلكي، وطالبتنا قوات البحرية بإزالة الشباك التي أحطنا بها القارب كنوع من الحماية. أصبح الوضع على متن القارب غير مستقر وسادت أجواء الخوف، ولكن لفت أنظارنا طيف جميل في السماء قمنا بتصويره بالكاميرات، في لحظة أبعد ما تكون عن الواقع.
لاحقًا، تغلبت علينا القوات الإسرائيلية، فاصطدمت سفنها بقواربنا وبدأ الجنود في الصعود إلى متنها قبل أن يصيح عدد منهم وهم يأمروننا بأن نجثوا على ركبنا ونرفع أيدينا إلى الأعلى. فيما قام جندي آخر بتسجيل لقطات فيديو للموقف. واقتحمت مجموعة من الجنود مركزنا الإعلامي في الطابق الأسفل من القارب، ولا أذكر في أي وقت بالتحديد وضع العلم الإسرائيلي على القارب.
قام الجنود، بعد تفتيشنا، بوضعنا في الجزء الأسفل من القارب إلى جوار بعضنا البعض. علمنا حينها أن القارب يتم بالفعل تحريكه باتجاه أشدود. سألنا أحد الجنود ما إذا كنا في حاجة إلى شيء، فأجابه لطيف بأننا نريد استعادة القارب، وهو الرد الذي تجاهله المجند.
سمح لنا الجنود فيما بعد بأن نذهب واحدًا تلو الآخر لجمع أمتعتنا من مخزن السفينة. لم أجد أي أجهزة كمبيوتر أو إلكترونيات، فيما وضعت الأمتعة في أكوام في فوضى تامة، بينما استلقى الجنود على الأرضية. صارت تلك البقعة مكان إقامتنا للأيام الأربعة الماضية، ففيها أكلنا ونمنا وزاولنا أنشطتنا، كان هذا المشهد مزعجًا لنا إلى حد ما.
وصلنا إلى ميناء أشدود بعد مرور ساعتين. ولسوء الحظ، لم أدر ما حل بباقي الركاب، حيث تم استدعائي أولًا. تبادلت نظرات مليئة بالألم مع باقي أفراد الطاقم عندما اصطحبني الجنود للخارج، وكأننا نتساءل أي مكان قد يجمعنا لاحقا؟.
في طريقي للخروج من القارب، انهالت ومضات آلات التصوير علي من قبل الجنود الإسرائيليين. كان المكان الذي اصطحبنا إليه عبارة عن بقعة بلا ملامح قيل إنها معسكر لاعتقال المهاجرين غير الشرعيين. تم تفتيش ملابسي، فيما صودرت متعلقاتي كآلة تصوير الفيديو، وكتيب المذكرات، والذاكرة المؤقتة، والهاتف المحمول، وجهاز التسجيل.
كان الجنود قد صادروا جهاز الحاسوب والكاميرا قبل نزولي من القارب. وكنت قد تفاوضت مع الجنود على استعادة أشيائي أو على الأقل المفكرة التي سجلت فيها الأحداث لحظة بلحظة، ولكن باءت محاولاتي بالفشل. ولم أفلح سوى في الاحتفاظ بكتابين كان الجنود يريدون مصادرتهما أيضا.
كان تفكيري في ذلك الوقت منصبًا حول باقي النشطاء، والذين كانوا قد تعهدوا بمقاومة محاولات إخراجهم من القارب بصورة سلمية، حيث اتفقوا على ألا يغادروا القارب إلا إذا جذبهم الجنود عنوة. أثناء خضوعي للتفتيش، سمعت أصداء صيحات هيب تتردد في أروقة منشأة الاعتقال، حيث ظل ينادي على باقي النشطاء يسألهم إن كانوا يستطيعون سماعه، إلا أنني لم أسمع أحدًا يجيب نداءه.
اصطحبني الجنود إلى مكان آخر، حيث استجوبني ضباط الشرطة الإسرائيلية لمدة نصف ساعة قبل أن يقوموا بتصويري ويحصلوا على بصمات أصابعي. وسألني المحققون عن تاريخي المهني، والمنظمات التي سبق لي العمل لديها، كما استجوبوني عن الطريقة التي انضممت بها إلى قافلة المساعدات وكيف تعرفت على باقي النشطاء المشاركين. وفيما كنت أجلس في مواجهة ضابط التحقيق، شاهدت في المرآة انعكاسًا لقدمي قبطان القارب، جورج كلونزاس، واللتان كانتا مقيدتان بأغلال حديدية.
سألني المحقق ما إذا كنت على علم بأنني كنت متجهة إلى منطقة عسكرية مغلقة؟ فرددت بالإيجاب، وأشرت إلى أنني كنت أقوم بتغطية محاولة النشطاء لكسر الحصار على غزة، فابتسم الضابط وأخلى سبيلي. قادني بعدها اثنان من الدبلوماسيين العاملين بالسفارة المصرية إلى منفذ طابا البري، وعبرت المنفذ بسلاسة ودون أدنى ضرر.
قبل أن تبحر القافلة مباشرة، كنت أجلس مع هيب في مكتب بميناء فتحية بتركيا، وهناك، بعثت برسائل بريد إلكتروني في اللحظات الأخيرة. خلال انشغالي بذلك، سمعت هيب مصادفة وهو يتحدث إلى ابنه عبر برنامج سكايب ويخبره بأنه يحبه، مما أشعرني بالقلق، فلم أفكر في أن أقوم بالمثل. سألته: «هل تعتقد فعلا أننا في حاجة إلى أن نتصل بذوينا ونعبر لهم عن حبنا قبل أن نبحر في رحلتنا؟» فأجابني، نحن مطالبون بذلك في أي وقت، في الوقت الذي كنت أكتب فيه تلك المقالة، كان هيب ولطيف لايزالان رهن الاعتقال في إسرائيل.
كنت قد نجحت في إقناع الإسرائيليين بعدم مصادرة كتابين كانا بحوزتي. أحدهما كان بعنوان «عبور المتوسط» لكاتبه لين تشامبرز. وحينما قام المجند الإسرائيلي بإزالة العلامة التي تركتها عند نقطة توقفي في القراءة، عدت بسذاجة لأثني طرف الصفحة لتمييزها. تقول بعض السطور في تلك الصفحة «لقد صار البحر المتوسط مجالًا لتجربة صورة جديدة من صور صنع التاريخ»، ربما كان يقصد بذلك محاولات اقتحام المياه الدولية في سعي لتغيير الوضع القائم.
مترجم من الطبعة الإنجليزية لـ«المصري اليوم»
www.almasryalyoum.com/en