يبدو المستقبل السياسي للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على المحك، بسبب الأحداث المتسارعة منذ وصوله إلى المكتب البيضاوي، قبل نحو عام. فيما الرجل الذي جاء رئيسًا وسط عاصفة غير مسبوقة من الرفض في الشارع الأمريكي، خاصة النخبة منه، ما زال يمارس «ثقافة الإنكار» غير عابئ بالنار المشتعلة من حوله محليًا، والنار التي يود إشعالها من أدنى الكوكب في كوريا الشمالية إلى أقصاه في فنزويلا، فضلا عن «قرارات لا تغتفر» مثل قراره بنقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس المحتلة.
«نار وغضب.. داخل بيت ترامب الأبيض»، يبدو عنوان الكتاب في نصفه الأول من نوعية الكتب المثيرة، لكن المثير في الأمر حقا هو أن يتوقف مصير رئيس أكبر دولة في النظام العالمي على كتاب، في قضية تشبه فضيحة «ووترجيت»، فقبل حوالي 44 عامًا، أطاح تحقيق صحفي بـ«واشنطن بوست»، أعده الصحفيان «كارل برنستين» و«بوب وود ورد»، بالرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية، ريتشارد نيكسون.
«المصري اليوم»، تحاول في سلسلة من المقالات يكتبها الإعلامي المصري المقيم في أمريكا، عزيز فهمي، قراءة ما بين سطور الكتاب، آملة أن تقدم للقارئ عرضًا وافيًا لـ«محنة» الرئيس الخامس والأربعين، فضلا عن الأسئلة التي يطرحها الكتاب واستقبال المواطن الأمريكي لما ورد به من اتهامات تخص «ملياردير العقارات» والانتخابات الرئاسية التي أوصلته إلى سدة الحكم في أمريكا، ومدى تأثيره على تحقيقات المدعي العام روبرت مولر، في دعاوى التدخل الروسي في انتخابات 2016.
بوابة «المصري اليوم»
تناولنا في المقالتين السابقتين بعض الأدلة المتوفرة لدى المحقق المستقل مثل شهادات مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلن ومسؤول الحملة الانتخابية لترامب جورج بابادوبولوس، وهي أقل بكثير من الأدلة المتوفرة لدى المحقق المستقل والتي لم يكشف عنها حتى الآن.
ومن القضايا الأخرى التي كشف عنها محامي الرئيس ترمب أن المحقق المستقل موللر حصل على كل رسائل البريد الإلكتروني لفريق الانتقال الرئاسي (وهو الفريق الذي عمل من نوفمبر 2016 حتي يناير 2017 لكي يعد لاستلام الرئيس المنتخب الحكم)، وأعتبر أنصار الرئيس ترامب أن ذلك لم يكن قانونيا ويثبت أن المحقق المستقل تجاوز السلطة المخولة له، وأن ذلك مبرر قانوني كاف لطرد المحقق المستقل وإنهاء التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات، فتحرك المشرعون الديمقراطيون والجمهوريون وأوضحوا بشكل حاسم أن طرد المحقق المستقل قبل إكمال التحقيق خط أحمر لا يجب أن يتخطاه الرئيس ترامب، فهدأت العاصفة إلى حين. ولكن هذا الحدث كشف أن حجم الأدلة المتوفرة لدى المحقق المستقل أكبر بكثير من شهادات الجنرال فلن وجورج بابادوبولوس. كما يكشف أن خطة الرئيس النهائية هي التخلص من المحقق المستقل ووقف التحقيق، ولكنه لا يعرف حتى الآن كيف يفعل ذلك.
ويحضرني هنا التنبؤ الجسور الذي قدمه البروفسور ألن ليكتمان أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في واشنطن، الذي تنبأ أثناء الحملة الانتخابية بأن ترامب سيفوز بالانتخابات على عكس كل استطلاعات الرأي التي أكدت أن هيلاري كلينتون هي التي ستفوز بالبيت الأبيض، ولكن ليكتمان تنبأ أيضا بأن الرئيس ترامب سيتم إقصاؤه عن الحكم وشرح هذا التنبؤ بناء على تاريخ ترامب قائلا «إن ترامب طوال حياته العملية هرب من المساءلة أو المحاسبة باللجوء إلى إعلان إفلاسه مرة أوالخروج من صفقة ما مرة أخرى، ولكنه لن يستطيع فعل ذلك في البيت الأبيض بسبب جملة القوانين التي تحكم علاقة البيت الأبيض بمؤسسات الدولة الآخرى.» وحدد ليكتمان ثماني مسارات قد تنتهي بإقصاء ترامب عن الحكم كان أهمها التحقيقات المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية واحتمال تواطؤ حملة ترامب مع المجهود الروسي، موضحا أن هناك كثيرا من الدخان حول هذه التحقيقات، ومن وجهة نظره فإن هذا الدخان يثبت أن هناك نارا مازالت تحت السطح.
وفي هذا السياق، أي العوامل الأربعة سالفة الذكر: شهادة الجنرال فلن وبابادوبولوس وشهادة ستيف بانن المرتقبة وحيازة المحقق المستقل لكل إيميلات فريق الانتقال الرئاسي، فإن كل هذه العوامل تعكس أن السحب السوداء تتكاثف فوق البيت الأبيض وتنذر بقرب التصادم بين الرئيس ترامب والمحقق المستقل موللر الذي بدأ يقترب بتحقيقاته من عائلة الرئيس ترامب والدائرة المقربة منه فهو يريد أن يستجوب الآن كل من ابن ترامب الذي اجتمع مع المحامية الروسية ومع صهر ترامب جيريد كوشنر الذي شارك في هذا الاجتماع في يونيو 2016 أثناء الحملة الانتخابية.
بحثنا في المقالة الأولى أن طرد رئيس المباحث الفيدرالية جيمس كومي هو الذي ادعى إلى تعيين المحقق المستقل موللر بصلاحيات أكثر على عكس ما تمنى الرئيس ترامب. والسبب في طرد رئيس المباحث الفيدرالية أن وزير العدل جيف سيشين الذي يشرف على عمل المباحث الفيدرالية، اضطر أن يعزل نفسه عن التحقيقات في التدخل الروسي في الانتخابات لأنه كان أحد المسؤولين في الحملة الانتخابية الذين كذبوا على الكونغرس وادعوا أنهم لم يلتقوا بالسفير الروسي أثناء الحملة الانتخابية، وعندما اتضح عكس ذلك اضطر أن يعزل نفسه عن التحقيق وهو الأمر الذي احتج عليه الرئيس ترامب بشدة علنا بل أرسل محامي البيت الأبيض في محاولة يائسة لثنيِ سيشين عن هذا القرار.
والسبيل الوحيد الآن أمام الرئيس ترامب لإيقاف التحقيق هو التخلص من وزير العدل جيف سيشين وتعيين وزير آخر يكون قادرا على التدخل في التحقيقات وإيقافها. وبدأ الرئيس ترامب وأنصاره في الكونغرس هذه المسيرة منذ فترة فبدأوا في انتقاد وزير العدل سيشين علنا ووصفه بالضعف والتلميح بقرب التخلص منه.
ولكن تغيير وزير العدل بآخر يقوم بإنهاء التحقيق في التدخل الروسي بشكل تعسفي ستكون له عواقب كارثية ووخيمة على الرئيس ترمب، لأن الانتخابات البرلمانية النصفية في نوفمبر من هذا العام أصبحت على الأبواب، والإنهاء التعسفي للتحقيق في التدخل الروسي قبل إكمال التحقيق سيصبح الموضوع الرئيسي للحملات الانتخابية البرلمانية وسيؤكد فوز الديمقراطيون بالأغلبية على الأقل في مجلس النواب إن لم يكن في مجلسي النواب والشيوخ لأن الشعب الأمريكي تاريخيا لا يحب أن تتركز السلطات في يد حزبِ واحد كما هو الحال الآن، حيث يتحكم الجمهوريون في البيت الأبيض ومجلسي النواب والشيوخ.
فسبيل الشعب الأمريكي لتحقيق التوازن في الانتخابات النصفية هو نزع الأغلبية البرلمانية من الحزب الذي يسيطر على البيت الأبيض ويمنحها للحزب الآخر، وهذا ما حدث في أول انتخابات نصف برلمانية عام 1994 في عهد الرئيس بيل كلينتون الديمقراطي حين منح الشعب الأمريكي الجمهوريين الأغلبية البرلمانية، وسيعني ذلك أن الشعب الأمريكي سيمنح الأغلبية البرلمانية للديمقراطيين في الانتخابات القادمة، وستكون الأغلبية الديمقراطية آنذاك قادرة على إعادة فتح ملف إنهاء التحقيقات بشكل تعسفي قبل إكمالها، وستتهم الرئيس ترامب بأنه أعاق مجري العدالة، وهي جريمة إن ثبتت فإن عقابها الإقصاء عن الحكم، لأن الكونغرس هو السلطة الوحيدة القادرة على عزل الرئيس في نظام الحكم الأمريكي. وينسجم ذلك تماما مع تنبؤ البروفسير ليكتمان بأن الرئيس ترامب لن يتمكن من الهروب من المساءلة، كما فعل طوال حياته العملية، بسبب جملة القوانين التي تحكم علاقة البيت الأبيض بباقي مؤسسات الحكم، أي أن الرئيس لن يتمكن من الهروب من المساءلة إذا أقدم على إنهاء التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات قبل إكماله وسيدفع ثمنا باهظا لذلك.
وفي هذا السياق فإن كتاب «نار وغضب في البيت الأبيض» لن يقضي على حكم الرئيس ترامب، ولكنه قد يكون عامل مساعد في زيادة مصداقية تورط حملة الرئيس ترامب في التواطؤ مع المجهود الروسي للتدخل في الانتخابات، لمصلحة ترامب، بسبب تصريحات ستيف بانن في هذا الكتاب وما قد يقوله للمحقق المستقل. ومن ثم فإن ستيف بانن والمحقق المتستقل هما اللذين بيدهما القضاء على حكم الرئيس دونالد ترامب وليس كتاب «نار وغضب في البيت الأبيض».