ها أنا ذا ألبى الدعوة الكريمة التى وجهتها «المصرى اليوم» لكتاب الرأى فيما نتمناه لبلادنا فى العام الجديد الذى يشهد انتخابات رئاسية. أمنيتى بسيطة جدا، ولكنها فى الحقيقة صعبة جدا، وهى (أن نصبح دولة طبيعية)!
■ ■ ■ ■
أستأذنكم أن ألجأ إلى السرد، لتفهموا ما الذى جعلنى أتمنى أن نصبح دولة طبيعية. الحكاية أننى شاهدت فيلماً تسجيلياً عن حرب أكتوبر. لا أستطيع أن أصف لكم زخم المشاعر. يا إلهى! كان يوم ٦ أكتوبر بالفعل هو يوم فخار وعزة وطنية. المصريون الذين رفضوا هزيمة ٦٧ صمموا على محو العار، حتى إن كانوا يقاتلون إسرائيل التى لا تُقهر! نخبة الشعب اليهودى الذكى الحافل بالإنجازات وجوائز نوبل. خلاصة كل صيارفة المال الذين يتحكمون فى العالم. إسرائيل الابنة المدللة لأعظم إمبراطورية شهدها التاريخ: أمريكا.
■ ■ ■ ■
هؤلاء الفلاحون المصريون على جانب القناة الغربى كانوا يعرفون ما يفعلون جيدا. بعد الترهل والفساد والقيادات الفاشلة المنشغلة بتوافه الأمور، تولى زمام الأمور قادة عسكريون محترفون، كلهم شباب وغيرة وفتوة. والخطة التى وضعوها كانت تضع فى الحسبان تفوق الطيران الإسرائيلى الكاسح.
الخطة كانت كما يلى: دفاع جوى على الشاطئ الغربى للقنال يضمن تحييد الطيران الإسرائيلى. فلا يتبقى إلا عبور الجنود القناة، أيا كانت الخسائر، ثم التمسك بالأرض. حينئذ، ومع شل الطيران الإسرائيلى، لا يصبح أمام العدو إلا خياران كلاهما مر. إما المواجهة التى يرحب بها المصريون لأنهم لا يبالون بالموت فى سبيل غسل العار، وإما تطويل أمد الحرب بما يترتب عليه من شلل الاقتصاد الإسرائيلى تماما، نظرا لاستدعاء الاحتياطى الذين هم كل تعداد إسرائيل تقريبا.
■ ■ ■ ■
المفاجأة العظمى كانت فى أداء القوات عند عبور القناة. أكثر التوقعات تفاؤلا كانت لا شىء بجوار ما تحقق بالفعل. العبور تم بسلاسة والخسائر لا تُذكر. القوات ركبت الإسرائيليين بالمعنى الحرفى والمجازى للكلمة. وكأنه تدريب يا أخى! كانت دموعى تنهمر وأنا أشاهد هؤلاء الجنود السمر، الفلاحين الجدعان الذين يشبهونك ويشبهوننى. أشاهدهم وهم يضحكون غير مصدقين من هشاشة العدو، الذى ظنوه لا يقهر. ويرفعون العلم هاتفين لمصر! لم تشهد البلاد لحظة عز مثل هذه اللحظة. إلى هذا الحد ظُلم المصريون بهزيمة يونيو. كانوا ينتظرون قائدا كالشاذلى يقودهم، يشع حماسة ورجولة، ويذهب إلى الخطوط الأمامية غير مبال بحياته، ويضع لهم خطة حرب تدربوا على تنفيذها مئات المرات، حتى صاروا يحاربون وكأنهم يتنفسون. إلى هذا الحد نحن ضحايا القيادات الفاشلة!
■ ■ ■ ■
هناك وجهة نظر تقول إن كل أخطاء حرب أكتوبر نشأت من تدخل السادات فى العمل الحربى الذى لا يفهم دقائقه، وإجباره رئيس الأركان على أفعال يعلم مسبقا أنها كارثية. ليس مهما تفصيل هذه الأخطاء، المهم النتيجة: وهى خدش الانتصار العظيم بعبور الإسرائيليين إلى الضفة الغربية للقناة وحصار الجيش الثالث، ما أجبر السادات إلى قبول ما لم يقبله فى بدايات الحرب: صار هو الذى يسعى إلى وقف القتال بأى ثمن.
■ ■ ■ ■
والذى حدث بعد ذلك كان أكثر إيلاما من الثغرة. وأعنى به استغلال السادات لسلطته المطلقة كرئيس للجمهورية، حين زعم- على خلاف الحقيقة- أن الشاذلى عاد منهارا من الجبهة، وكان فاشلا، فاضطر إلى عزله. ولم تتح للشاذلى طبعا فرصة الدفاع عن نفسه.
نحن الآن أمام وجهتى نظر مختلفتين فى إدارة الحرب. لو كنا دولة طبيعية لكان التصرف الطبيعى أن يتم التحقيق فيما حدث- بعد انتهاء الحرب- مثلما تفعل إسرائيل التى تقدم مسؤوليها للمحاكمة، ليدقق المحققون «هل ارتكبوا أخطاء أم لا؟» وهل يمكن تلافى الخطأ مستقبلا، ببساطة لأنهم يعتبرونهم- مثلما العالم المتقدم جميعا- خدما عموميين وليسوا زعماء ولا سادة؟
لكن هذا لم يحدث عندنا، وكيف يحدث والسادات كان يعتبر نفسه (كبير العائلة المصرية)! فهل تحدث مثل هذه الرعاية الأبوية القبلية فى دولة طبيعية؟
■ ■ ■ ■
أقول بوضوح: لن تتقدم مصر إلا إذا أصبحت دولة طبيعية.
دولة طبيعية تعنى أنه لا أحد فوق المساءلة. وأن رئيس البلاد هو خادم عمومى للشعب يرتجف من المساءلة. دولة طبيعية تعنى أن يتملق الرئيس الناخبين للحصول عل فترة ثانية، ويظل قلقا غير واثق من النتيجة حتى اللحظة الأخيرة.
دولة طبيعية تعنى ألا ينفرد الرئيس بالقرارات الكبرى باعتباره العالم بكل شىء، بل يحدث حوار مجتمعى واستشارة أهل التخصص. دولة طبيعية معناها أن يختفى هذا الوصف المقيت (جهات سيادية) لأنه لا سيد إلا الشعب. دولة طبيعية تعنى دستورا ينظم العلاقات بين كل الجهات فلا تصبح جهة، كائنا من كانت، فوق المحاسبة. دولة طبيعية لا يمكن أن يُطلق فيها العنان للحبس الاحتياطى، يُجدد بلا نهاية، حتى أصبح عقوبة فى ذاته.
باختصار: دولة طبيعية تعنى ببساطة عكس كل ما يحدث فى مصر حالياً.
■ ■ ■ ■
لم تكن ثورة يناير فى الصميم إلا تطلعاً لأن نصبح دولة طبيعية، ولذلك تم إجهاضها بقسوة غير طبيعية.