بعضُ من حكايات مشجعي الزمالك.. ماذا تبقى من تجربة السجن؟ (فيديو)

كتب: رضا غُنيم الجمعة 22-12-2017 17:20

في زيارة لمنزله بمنطقة الخصوص بالقليوبية قبل نحو شهر كانت غرفة كريم رجب تتزيّن بـ«تي شيرتات» الزمالك، وحدها تعبّر عن شغف وجنون الشاب العشريني بكرة القدم، مدرجات «التالتة يمين» والحديث عن أحوال فريقه مكون رئيسي من شخصيته. الآن خَلت الغرفة من أي شيء يشير إلى أن ساكنها من مشجعي الكرة.

عيناه تضيقان، يُصاحبها إحمرار الوجه، يلوّح بنظره يميناً إذ يجلس والده، ويساراً جاء أصدقاؤه لزيارته، يحاول السيطرة على دموعه، ينطق كلمات متقطعة: «أنا.. أنا خسرت..»، يصمت ثوان، ثم يستعيد حديثه وهو يسحب أنفاسه بصعوبة: «أنا خسرت أهم شيء في حياتي. خسرت تشجيع الزمالك، وصلونا لإننا نفكر مرة واتنين وتلاتة قبل الذهاب للمدرجات».

«كريم» واحد من بين 237 مشجعاً ألقت قوات الأمن القبض عليهم، مساء 9 يوليو الماضي، عقب مباراة الزمالك وأهلي طرابلس الليبي في بطولة دوري أبطال أفريقيا بملعب «برج العرب» بالإسكندرية، وجرى إحالتهم للمحكمة العسكرية بتهمة «الإتلاف والتخريب العمدي، والتعدي على رجال الشرطة ومقاومتهم اثناء ممارسة عملهم». بقى مع زملائه نحو 6 أشهر محبوسين احتياطياً على ذمة القضية، قبل الإفراج عنهم مساء السبت الماضي.

فور عودته إلى منزله من سجن الحَضرة بالإسكندرية، أزال «كريم» كل ما يتعلق بالزمالك في غرفته، عدا «تي شيرت» احتفظ به شقيقه الزملكاوي الأصغر «حمبوزو»، واتخذ قراراً بعدم الذهاب لتشجيع فريقه من مدرجه المفضل «التالتة يمين»: «أنا مش بكرّه الزمالك. بس البهدلة اللي اتعرضت ليها، وإني أشوف أبويا مكسور لأول مرة في حياته، ودموعه بتنزل قدامي، وأمي تتعب أكثر من مرة، وكانت هتُصاب بجلطة في المخ، وأخويا الصغير كان بينام على رصيف مديرية أمن الإسكندرية. كُل دا يخليني أبطل تشجيع من المدرجات، حتى قدام التليفزيون مبقاش فيّ طاقة. أنا فقدت جنوني وشغفي بالكرة. أفقدونا متعة التشجيع. خايف أروح ماتش تاني أتحبس بسببه. الكرة مبقتش للجماهير».

قبل مِحنة الحبس كانت الكرة كل شيء في حياة «كريم». منذ أن كان في السادسة من عمره وهو حريص على متابعة مباريات الزمالك، كان يفضّل فريقه على الأصدقاء والعمل، يتحدث في كل جلساته عن أخبار الفريق ومستقبله: «الزمالك عملي مشاكل كتير مع أصحابي. لأنه هو حياتي، كنت بعيّط لما بنخرج من أي بطولة».

تشجيع الزمالك ليس الخسارة الوحيدة التي فقدها «كريم» بعد الحبس، خَسر نصف حياته، وفق تعبيره. الشاب مُصاب بمرض الصَرع، وفي زنزانته لم يتعاطى الأدوية اللازمة للعلاج، ما أثر بالسلب على صحته: «برة السجن المفروض باخد أدوية الصبح وبالليل، في السجن كنت باخد مرة واحدة، وكانوا بيدوني الدواء البديل مش الأصلي، ودا عمل تأثير رجعي على صحتي. كنت بنام نصف اليوم، ولما بصحى مكنتش بعرف أقف على رجلي».

«كريم»، 22 عاماً، التحق بالعمل في إحدى شركات توكيل الملابس قبل نحو عام، وتدرج فيها حتى وصل إلى خدمة العملاء، لكن خضوعه للمحاكمة، وحبسه لنحو 6 أشهر، أفقده الترقية التي كانت تنتظره: «بسبب السجن خسرت كل اللي كنت بخطط ليه، خسرت مستقبلي، كنت هاخد منصب أفضل في شغلي، لكن رجعت أبدأ من الأول، رجعوني 8 شهور ورا، ولسه هعمل مقابلة من جديد».

«خرجت من السجن ملقتش الناس اللي بحبها»، يحكي «كريم» عن علاقة عاطفية مع فتاة أحبها، وكان ينتوي خطبتها، دون ذكر مزيد من التفاصيل: «البنت اللي بحبها أهلها بَعدوها عني لما دخلت السجن».

لايزال «كريم» تائهاً في حياته الجديدة، كوابيس السجن تراوده في أحلامه، لم يستوعب حتى الآن أنه خارج الزنزانة، يجلس ساعات في غرفته يفكر فيما جرى في الأشهر الماضية، لماذا سُجن 6 أشهر بتهمة لا يعرف عنها شيئاً؟، لماذا خسر نصف حياته بسبب تشجيع الزمالك: «وأنا نايم بحس إن فيه حد هيقولي قوم عشان نصلي، صوت أمين شرطة صاخب وهو بيشتمنا. اللي حصل كان صعب، أول مرة أدخل قسم شرطة، واتبهدل، وأنام مع 40 شخصاً في غرفة واحدة. نفسي أرجع لحياتي تاني بكل تفاصيلها وحكايتها، أخرج مع أصحابي، وأستقر في الشغل، وأرجع أحب الماتشات تاني».

من محافظة السويس، اعتاد محمد عادل قطع مئات الكيلو مترات إلى المحافظات الأخرى لتشجيع الزمالك من مدرجات «التالتة يمين»: «عمري ما هَنسى أبويا وهو ياخدني الاستاد. من صغره في حبه بيعلمني. قالي يا ابني الزمالك هو حياتنا». وَرثه والده حُب القلعة البيضاء، وأسس قبل سنوات «تجمع زملكاوية السويس»: «في أي مكان دايماً وياه».

يعيش «محمد»، 25 عاماً، في بيت زملكاوي، لا تفوته مباريات الفريق الأبيض، حكاياته وأخباره ومستقبله محور حديث الأسرة، لكن تحوّل الهتاف في المدرجات من مُتعة يمارسها الشاب منذ 12 عاماً إلى كابوس أدخله السجن 6 أشهر.

في منزله بمنطقة العبور بالسويس، استضافنا الشاب العشريني مرتدياً «تي شيرت الزمالك»، لايزال محافظاً على هويته، تتزيّن جدران غرفته بصوره مع عدد من لاعبيه المُفضلين، و«تي شيرتات» الزمالك: «بشجع كرة وأنا عندي 8 سنين. الزمالك جزء من حياتي بروح وراه في كل مكان».

شَغف التشجيع من مختلف الملاعب المصرية لم يعد موجوداً لدى «محمد»، السجن قَتل الجنون بالكرة: «عمري ما هبطل تشجيع الزمالك، وإحنا جوا السجن كنا بنفرح لما يكسب، ونزعل في حالة الخسارة. 12 سنة بلف وبسافر ورا الفريق، لكن شغف الذهاب للمدرجات مبقاش موجود، الكرة في مصر مبقتش كرة، حرمونا من التشجيع، هبعد شوية لحد ما الوضع يستقر. إزاي أفكر أروح ماتش وأنا بدل ما أطلع فرحان أو زعلان أدخل السجن!».

احتفالات عدة بخروج مشجع الزمالك بعد فترة حبس 6 أشهر، استقبله رفاقه بالهتافات «دولا. دولا. أوووووه دولا»، لكن تلك الفرحة قد يقطعها السجن مجدداً خلال الأسبوعين المقبلين، حال عدم سداده ما يقرب من 20 ألف جنيه، اقترضهم من أحد البنوك.

مثل أي شاب لم تتوافر له وظيفة حكومية، حصل «محمد» على قرض من أحد البنوك، وأقام مشروعاً صغيراً «محل ملابس أطفال»، ليعيش من خلاله، ويُسدد أقساط القرض من هامش الربح، لكن مع دخوله السجن توقف المحل عن العمل، وتراكمت الديون: «فتحت محل ملابس أطفال، وكنت بشتغل كويس، وبتعامل مع تجار، لكن كله دا وقف مع الحبس، ولما تأخرت في سداد الأقساط البنك لجأ للقضاء».

غيابياً، صدر حكم ضد «محمد» بالحبس لمدة 6 أشهر لتأخره عن سداد القرض، لكن أُخلى سبيله بكفالة 500 جنيه، ومن المنتظر الاستئناف على الحكم خلال أسبوعين، مُطالب خلالهما بدفع نحو 20 ألف جنيه.

على وجهه تبدو علامات المرض، قطع والد «محمد» الحديث: «طول ما ابني جنبي هنعرف نسدد ديونا ونعيش كويّس». كان الأب قد أصيب بجلطة في المخ عقب إحالة نجله للمحاكمة، زيارات عدة لعدد من الأطباء، حتى استقرت حالته، لكنه سيتعاطى الأدوية طيلة حياته: «فرحتنا بخروج محمد كبيرة. لكن إحنا ابتهدلنا كتير».

بينما كان الشاب العشريني يَحكي عن معاناته داخل الزنزانة، كانت الأم بجواره تبكي، متذكّرة ما حدث للأسرة جراء تلك الأزمة. أُصيبت بمرضي السكري والضغط حزناً على نجلها الذي ظل قابعاً في السجن فترة طويلة: «كل لما يبقى فيه جلسة لابني، أروح المستشفى من كتر التعب»، تصف فترة الحبس بـ«الكابوس»، موضحة أن حال الأسرة تدهور كثيراً: «أخوه الصغيّر اتفصل من المدرسة عشان مكنش بيروح. كان بيجي معانا الزيارات، ويروح معايا المستشفى، وتوقفنا عن تجهيزات زواج ابنتي».

حكايات المعاناة، وفقدان الشغف بالكرة، لم يمنعا «كريم» و«محمد» من استعادة لحظات الفرحة التي مرّت بمشجعي الزمالك داخل السجن: «أكتر لحظتين فرحنا بيهم لحظة خسارة الأهلي من الوداد في نهائي أفريقيا، ولحظة فوز فريق اليد بالزمالك ببطولة أفريقيا. دا بجانب الحب اللي لقيناه من صحابنا في أزمتنا. مكنوش بيفارقونا».

عبدالرحمن الأنصاري، 16 عاماً، فقد والدته التي توفت عقب سماعها خبر تجديد حبسه 15 يوماً، بعد 4 أيام من القبض عليه. أخفى والده خبر وفاة الأم، حتى لا تسوء حالة طفله داخل الزنزانة: «عرفت الخبر بعد أيام من الوفاة. دي أسوأ لحظة في حياتي. أشعر بالذنب».

«بودي» اسم الشهر لـ«عبدالرحمن»، زار قبر والدته فور خروجه مساء الأحد الماضي: «أمي استريحت. بس كنت نفسي أشوفها قبل ما تموت».

في منزله بمنطقة كوبري القبة، جلس «بودي» في حالة ذهول، هو الآن متخبط، لم يستوعب «خَضة السجن، وشبح المحاكمة»، زاد من تلك «الخَضة» وفاة والدته: «الحمد لله إني خرجت. بس أنا بلا أم، هذا شيء قاسي جداً».

كلمات متقطعة ومتفرقة تخرج من «بودي»: «الزمالك.. التشجيع.. مجلس الإدارة.. مش هروح»، نجلس صامتين نحو نصف دقيقة، أن يستجمع أفكاره وتزداد عينيه بريقاً: «أنا مش هروح ماتشات للزمالك طول ما مجلس الإدارة الحالي موجود. هو اللي حبسنا».

خسر «بودي» عاماً من حياته، كان المفترض انتهاءه من دراسته في الصف الأول الثانوي، الآن عاد إلى الوراء: «هعيد سنة أولى تاني بسبب الشهور اللي قضتها ظلماً في السجن».