هبْ أن ترامب تراجع عن قراره، هل انتهت المشكلة؟ بل هبْ أن حلم الدولة الفلسطينية قد تحقق وقامت جنبا إلى جنب بجوار إسرائيل، مفتقدة- كما نعلم- كل وسائل القوة والاستقلال، هل عمّ السلام العالم وأصبحنا سعداء؟
قرار ترامب– يا أصدقاء- لم يكن منشئا للمشكلة، ولكنه كان كاشفا لحقيقة أوضاعنا المتردية. هذا– وليس القدس- هو ما يستحق النقاش.
■ ■ ■
تمر الأمم، كل الأمم، بدورات من القوة والضعف والتقدم والانحدار. ونحن بلا شك فى قاع المنحدر، فمن المسؤول هنا؟ وعلى من نلقى الملام؟
قد تختلف أراؤكم لكن الأمر بالنسبة لى محسوم. المسؤول الوحيد بالنسبة لى هو الحاكم الذى يملك السلطة التنفيذية والقادر على تحويل الأحلام إلى حقيقة ملموسة، ويُطاع حيث أمر، ولديه سلطة القرار.
لا يعقل أن ألقى المسؤولية على شعب معدوم الحيلة. إننى أعلم أن لدينا رغبة عارمة فى التطهر تتنكر فى جلد الذات. ولكن ما الذى تطلبه من شباب يغامرون بحياته من أجل الوصول لأوروبا؟ معظم الشعب يعملون فى أكثر من وظيفة، ولئن لمتهم على قلة اكتراثهم بالشأن العام فأنت غير منصف. ما الذى تطلبه من فقراء يأكلون من اليد إلى الفم مباشرة؟ ليس عدلا أن نلوم من يخشى عنف السلطة، فتطلب منه أن يُسجن أو يموت.
الملام، كل الملام، على الحكام الذين امتلكوا إمكانيات دولة فلم يهتموا سوى بإجراء الصفقات لدوام حكمهم على حساب شعوبهم. يسترضون مراكز القوى العالمية إما بالتنازلات الاستراتيجية الكبرى أو بالصفقات المالية الهائلة، من لحم شعوبهم الحى طبعا، على أمل الإبقاء عليهم وغض الطرف عن ممارستهم العنيفة مع شعوبهم. والعالم- الذى يزعم أنه حر- يغض الطرف ويعقد الصفقات.
■ ■ ■
ما يجرى ترتيبه الآن فى المنطقة أكبر من القدس! بل هى صفقة قرن. لاحظ أن «الصفقة» تعنى تنازلات متبادلة، جسيمة بقدر جسامة أن تستحق وصف «صفقة قرن»! فهلّا أخبرونا ما هى الصفقة بالضبط؟ أم أن الشعب لا شأن له بها، مثلما لا يدرى الابن من أين يحصل أبوه على مصاريف البيت؟!
ما يحدث الآن مريب فعلا. هل هى صدفة أن يثير كاتب كبير الشكوك حول الإسراء ومكان- ومكانة- المسجد الأقصى الذى أُسرى إليه الرسول، فيزعم أن القدس لم تكن لها أهمية عند المسلمين؟ وأن الذى بنى المسجد الأقصى هو عبدالملك بن مروان ليصرف المسلمين عن الحج للكعبة، وقت تنازعه مع عبدالله بن الزبير، فانتحل حديث «لا تشد الرحال إلا للمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا؟».
وهل هى صدفة أيضا أن يطلق النعوت القاسية على قائد عسكرى ارتبط اسمه بتحرير القدس زاعما أنه أحقر رجل فى العالم؟ أنا لا أهتم ذرة بالدفاع عن صلاح الدين، الذى لا أدرى فعلا هل هو رجل جيد أم سيئ؟ ولكنى أتعجب من توالى الصدف بخصوص مسألة «القدس» بالذات، فإن كانت صدفة فعلا فحق لى أن أتعجب! وإن لم تكن صدفة فحسرتاه على المثقفين.
■ ■ ■
ويبقى اليقين لديّ أن إسرائيل ذاتها إلى زوال. وأن مكر الليل والنهار نهايته محتومة. الأرض لشعبها الذى يحمل الآن- وحده- راية الجهاد. فلسطين ستعود لأهلها، ولكن فى أجيال قادمة. لا تتعجبوا من هذه الثقة فلقد أخبرنا التاريخ أن الممالك الصليبية استمرت زهاء ثلاثة قرون، ثم انتهى الأمر بطردهم مثلما يطرد الجسد العفيّ الجسم الغريب.
«وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ». صدق الله العظيم.