محاولة تفسير مشاعر غير معتادة

أيمن الجندي الأحد 03-12-2017 21:58

على عكس الكثيرين حولى، لم أشعر بحزن ولا أسف على وفاة شادية. نوع من عدم الاهتمام تحيَّرت فى تفسيره. خصوصاً أننى من عشاق فنها البديع، ولاسيما الغناء. ولطالما انتشيت بأغانيها حتى كدت ألمس السماء. أغانٍ من قبيل «بحبك وأضحى فى حبك أعز الحبايب»، و«أحبك أوى». ناهيك عن روائعها مع بليغ الذى تستحق فيه كل أغنية مقالاً مستقلاً لإبراز جمالياته. مثل «غاب القمر يابن عمى»، التى أذوب- بمعنى كلمة «أذوب»- حين أسمعها. فلماذا يا ربى لا أكترث لوفاتها ولا أشارك الجماهير الغفيرة الحزن والأسى؟

■ ■ ■

بل أكثر من هذا! كاتبى الصوفى الجميل «أحمد بهجت»، لم أشعر أيضاً بأسى عندما انتقل إلى الحياة الأخرى. برغم ارتباطى العاطفى والإنسانى به، وحقيقة أنه كاتبى المفضل. لاحظ أن مشاعرنا لا تخضع لعقولنا. فنحن لا نقرر أن نفرح أو نحزن. ولكن تدهمنا المشاعر بلا حيلة لنا. فإذا كانت غير معتادة حاولنا البحث عن تفسير.

■ ■ ■

والتفسير الذى وجدته أن هؤلاء العظام قد أكملوا مهمتهم. كانت حياتهم منتجة بكل معنى الكلمة. وقد حققوا فيها ما لا يحققه الرجل العادى. شادية مثلاً انسحبت من عالمنا وهى على مشارف الخمسين من عمرها، بعد أن أمتعتنا بفنها البديع ثلاثين عاماً. وكذلك كاتبى المحبوب «أحمد بهجت». لقد اكتمل مشروعه الأدبى قبل أن يموت بعشرين عاماً. فماذا يطمع أبناء الفناء فى أكثر من هذا؟ أن تنجز مشروعك، وتترك بصمتك، وتروى بذرتك، وترعى شجرتك، ثم تشاهدها وقد أثمرت والناس يتذوقونها ويثنون عليها؟ ماذا يريد ابن الفناء أكثر من هذا؟

■ ■ ■

الأولى بالرثاء من يمتلك الوهج ولم تمكنه الحياة من أداء رسالته. من ضاع عمره دون أن يكمل مشروعه. من لم تطاوعه الأقدار فمات وهو يشعر بالحسرة. هذه الحال لم تكن بالتأكيد حال هؤلاء الأحبة الذين انتقلت أرواحهم- راضية مرضية بإذن الله- إلى الرفيق الأعلى.

وهناك أيضاً جانب آخر يتعلق بـ«شادية». وهى انسحبت بإرادتها لتتذوق مسرات الطاعة، وتتبتل فى عبادة خالقها. هى اختارت وينبغى أن نحترم اختيارها. ولعل غيبتها الصغرى هوَّنت علينا غيبتها الكبرى.

■ ■ ■

أما الذى أحزننى بحق، واعتصر قلبى بمعنى الكلمة، فهو تلك الصورة التى تداولتها وسائل الاتصال الاجتماعى لفاتنة عصرها «آمال فريد»، بعد أن عصف الزمان بملامحها.

هذا هو الأمر الذى يثير الأسى حقاً. معركتنا مع الزمن التى تنتهى دائماً وأبداً بالهزيمة. الزمن غالب، الزمن منتصر. الزمن ملك عادل يساوى بين الوجوه، كأخيه الموت، لا يجامل أحداً على حساب أحد.

■ ■ ■

«إيمان»، فتاة أحلامى منذ أن شاهدتها بابتسامتها ذات الغمازتين، وعبدالحليم يغنى لها: «أنا لك على طول خليك ليا». والساحرة الآسرة تطل من شرفة العوامة على النيل الخالد، الذى لم يشهد حسناً كحسنها منذ عصر «كليوباترا». الليل والقمر والأمواج المتلاطمة، وتلك الكيمياء الساحرة التى تحيل لون النيل إلى فضة! ليالى كليوباترا تعود، وزورق يطفو على سطح النيل، أحمد رمزى يجدف، وعبدالحليم يغنى للحسن والأنوثة وفاكهة الحياة حين تتجمل أمام أعيننا، والفاتنة تضىء الليل بل الكون بأسره بابتسامتها، ثم يغلبه الشوق والدهولة فيقف فينقلب القارب بمن فيه، تضحك الفاتنة فيضحك معها الكون كله.

هذا- والله- هو الشىء الذى يثير الشجن، وليس وفاة شادية. أن نشهد زوال السحر وغروب الحسن وتحوُّل الحسناء إلى امرأة عجوز، ونحن لا نملك لها سوى التحسر والأسى.

aymanguindy@yahoo.com