سامحونى

أيمن الجندي السبت 02-12-2017 21:12

برغم حبى لوطنى، وشغفى بتفاصيل الحياة المصرية، خصوصا تلك التى اختزنتها فى طفولتى، ونسجت دانتيلا ذكرياتى فيما بعد وحقيقة كونى مصريا، فإننى لم أكن «شوفينيا» قط ولم أتعصب لمصريتى. فدائما ما اعتقدت أن كل الناس خير وبركة، وأن الله وزع المواهب على جميع البشر، فكلنا عبيد الله وخلق من خلقه، ولا أحد منا أبناء الله وأحباؤه.

لذلك لم أتحرج قط من إبداء المديح بخصلة فى الشعوب الأخرى أثارت إعجابى. وهذه العادة الجميلة التى سوف أتحدث عنها اليوم شاهدتها عند أشقائنا السعوديين، فمسّت قلبى وأنارت روحى.

اعتاد الناس هناك، رجالا ونساء، عند تغيير العمل، أو قبيل القيام بالعطلة السنوية، أو أى شىء يستلزم الفراق، مؤقتا كان أو دائما، أن يمروا على الجميع قائلين له بصوت هامس: «سامحونى».

خصلة من خصال الخير ومراجعة النفس. فالسماح هو أثمن ما نطلبه من الذين نتعامل معهم. لأننا بالتأكيد ارتكبنا مظالم، أبسطها الغيبة والنميمة وذكرهم بما يكرهون. ناهيك عن المظالم التى ترتب ضياع حقوق الناس والاستقواء عليهم.

«سامحونى».. لا أدرى متى ترسخت فيهم هذه العادة الجميلة؟ ولا كيف سرت من جيل إلى جيل، ومن مكان إلى مكان كالنسمة المنعشة. «سامحونى».. هذه الكلمة تؤثر فىّ جدا، لأننى أدرى الناس أننا لسنا بالبطولة التى نزعمها أمام الآخرين وأمام أنفسنا. نحن فى الحقيقة أسوأ بكثير مما نبدو، ومما نحاول إقناع أنفسنا به. فى رحلة الحياة ارتكبنا مظالم، أسوأ ما فيها أننا نكتشف أنها بلا أى داعٍ. وأن الحياة كانت ممكنة بدونها. لكننا كنا حمقى، ولا نشعر بالأمان من المستقبل. وكنا نُؤتى من كل جانب. وكنا نشاهد الكل يظلم الكل. فانعقد فى ظننا أن الظلم شىء طبيعى.

الآن أفهم قوله تعالى «أحصاه الله ونسوه». الآن أفهمها تماما. أفهمها وأرتجف. الذاكرة لا تذكر كل التفاصيل، ومن المستحيل أن أستقصى كل حياتى يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وعاما بعد عام. تفاصيل يومية غاب عنى أكثرها. هل يذكر أى واحد فينا ما فعله مثلا يوم ٢١ يناير عام ٢٠٠٧؟ الله يذكر. الله يعلم. هذه هى «أحصاه الله ونسوه» فيا ويلنا منها.

الحياة اختبار عسير، ولا يمكن أن أزعم غير هذا. كانت النفس تهفو إلى التفوق. أن تشعر بالتميز. أن تكون الأفضل. «الأنا» اللعينة التى أوردتنا المهالك. وأحيانا كنا نستقوى على الأضعف. أو يتملكنا الزهو لشبابنا أو لنعمة منحها الله إيانا وبدلا من أن نشكره عليها عصيناه بها.

«سامحونى».. معنى جميل ليته ينتشر فى المجتمع المصرى. ليس فقط لأن طلب السماح هو أمر مرغوب بذاته، ولكن لأنه يكرس فى نفوسنا- بتكرار الموقف- أننا وإن ظفرنا بالسماح هذه المرة فيجب ألا نكررها فى العام القادم. حتى لا يتحول الأمر إلى كلمة نرددها دون أن تمس قلوبنا.

وأخيرا.. فإن نصيحتى للأجيال الجديدة وهم يبدأون حياتهم العملية أن يطمئنوا بالله، ولا يدفعهم القلق من الغد إلى التنازل. فكله مقدور ومسجل فى الألواح قبل أن تولد. وأن تقصيرك فى جناب ربك مغفور بإذن الله، لكن مظالم الناس هى التى تخيف، لسبب بسيط أنك لن تستطيع بعد ذلك الوصول إليهم، كى تهمس فى آذانهم، وأنت فى غاية من الندم، والدمع يترقرق فى عينيك، قائلا:

«سامحونى».