فى مذكراته الصادرة قبل وفاته بأسابيع قليلة عام 2002، وتحت عنوان «الصراع العربى الإسرائيلى»، خصَّص الفريق عبدالمنعم واصل فصلاً منها عن «صمود السويس» أمام العدوان الإسرائيلى أثناء «الثغرة».
يقول «واصل»: فور إعلان قرار الموافقة على وقف إطلاق النار اعتباراً من الساعة 1852 يوم 22 أكتوبر بناءً على قرار مجلس الأمن، سارعت كل من القوات المصرية والقوات الإسرائيلية بنشر قواتها، لكسب المزيد من الأرض قبل موعد وقف إطلاق النار ووصول قوات حفظ السلام الدولية، ولكن إسرائيل كان لها فيما يبدو هدف أكثر أهمية من مجرد الاستيلاء على المزيد من الأرض للأهداف التكتيكية العادية، لقد كانت تسعى إلى الاستيلاء تحديداً على مدينة السويس، ولكن لماذا مدينة السويس؟.. الهدف لسببين، الأول: إن مدينة السويس هى أكبر وأقدم مدن منطقة القناة وأكثرها شهرة عالمية، فهى تلك المدينة التى ارتبط اسمها باسم ذلك الشريان المائى الحيوى (قناة السويس)، والاستيلاء عليها سيصبح خبراً إعلامياً عالمياً سهل التخيُّل لا يحتاج من المستمع أو القارئ إلى مراجعة خريطة المنطقة لمعرفة مكان الخبر، كما أن له تأثيراً إيجابياً على الروح المعنوية للجيش والشعب الإسرائيلى الذى يتوق إلى خبر سارٍّ يعوضه عن الأخبار السيئة بالخسائر الفادحة اعتباراً من السادس من أكتوبر، وحتى أثناء معارك الثغرة والقتال غرب القناة، رغم النجاح الإسرائيلى فى تحقيق أهداف عبور قواته إلى غرب القناة.
والسبب الثانى - كما يقول واصل - هو أن الاستيلاء على مدينة السويس سيتيح للقوات الإسرائيلية إحكام حلقة الحصار على قوات الجيش الثالث شرق القناة، وبالتالى يتعاظم الضغط على هذه القوات وعلى القيادة المصرية مما قد يؤدى إلى استسلامها أو استخدامها ورقةَ ضغطٍ رابحة فى مفاوضات ما بعد وقف إطلاق النار، وبذلك تثبت إسرائيل مرة أخرى أنها قد استعادت زمام الموقف، فتستعيد ثقة الغرب، علاوة على استعادة ثقة الجيش والشعب الإسرائيلى فى حكومته وقيادته العسكرية التى كانت قد فقدت لقب «الجيش الذى لا يُقهر».
ويؤكد «واصل» أن أبطال الجيش الثالث الميدانى وشعب مدينة السويس كان لهم رأى آخر؛ فعلى جانب قوات الجيش الثالث لم تنته المعركة بحصار قوات الشرق، وإنما كانت البداية لمسلسل طويل من الإغارات والكمائن بالقوات المتيسرة التى تحيط بالعدو من جميع الأجناب، ولم تمر ليلة واحدة منذ بدأ العدو فى التوغل فى نطاق الجيش الثالث إلا وكان قد تعرض لإغارة من عناصر الصاعقة ومجموعات اقتناص الدبابات التى كانت تدفعها قوات الجيش فى الشرق والقوات التى على اتصال بالعدو غرب القناة، والتى كان يقودها ضباط من جميع الرتب فى مهام انتحارية داخل المناطق التى كان العدو قد وصل إليها، وكثيراً ما كان العدو يضطر إلى تجميع قواته تحت ستار الليل، لحمايتها من هذه الإغارات التى كثيراً ما كانت تعود بدبابة إسرائيلية سليمة أو أسير من الإسرائيليين.
ويضيف: فى صباح يوم 24 أكتوبر، وبناءً على أوامر قائد الفرقة 19 المشاة العميد يوسف عفيفى، التى تقع مدينة السويس فى قطاع مسؤوليتها، عبر قائد اللواء الخامس المشاة إلى مدينة السويس، وتم فتح المخازن وتوزيع السلاح والذخيرة على أهالى المدينة، وبدأ فى تنظيم المقاومة الشعبية، ولكن القوات الإسرائيلية كانت أسبق فى الوصول إلى المدينة والبدء فى اقتحامها، ونجحت المدرعات الإسرائيلية فى الوصول إلى مبنى المحافظة ومحاصرته، وقام القائد الإسرائيلى بإذاعة النداءات للقوات والشعب المسلح بالاستسلام، ومنع إراقة الدماء، وصعد أحد الجنود الإسرائيليين إلى مبنى المحافظة محاولاً إنزال العلم المصرى من عليه، فى اشارة إلى انتصار القوات الإسرائيلية فى الاستيلاء على مدينة السويس، ولم يطق الجنود المصريون المنتشرون حول المبنى هذا المنظر، وأطلقوا عليه النار فسقط قتيلاً، وبعد لحظات انطلقت دعوة الجهاد من مئذنة جامع الشهداء بالسويس بصوت الشيخ حافظ سلامة، فانطلق جنود الجيش والشرطة وأفراد المقاومة الشعبية يهاجمون الدبابات حول مبنى المحافظة، ويدمرونها فى شجاعة أسطورية فاضطرت القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب بعيداً عن مبنى المحافظة.
وفى الوقت نفسه حاولت القوات الإسرائيلية اقتحام السويس من ناحية منطقة المثلث التى يتقاطع فيها طريق المعاهدة مع طريق السويس - القاهرة، فواجهتها قوات المقاومة الشعبية، ودمرت لها العديد من الدبابات، فانسحبت إلى خارج المدينة مُخلِّفة وراءها عدداً كبيراً من القتلى والجرحى والأسرى.
وخلال هذه المعارك البطولية دأب العدو على استخدام مكبرات الصوت والمنشورات من الطائرات لدفع القوات والشعب إلى التسليم، وكان الرد فى كل مرة هو المزيد من الهجمات الانتحارية على قواته والمزيد من الخسائر من القتلى والجرحى والمعدات المدمرة والمحترقة فى مشاهد تعكس الوطنية والفداء للمواطن المصرى الأصيل.