المصريون الحقيقيون يختارون الرحيل بهدوء وسط أحداث صاخبة، لعلهم يختارون هذا الصخب ليضربوا المثل عن العيش بخفة، فكما رحل سيد درويش وملايين المصريين ينتظرون عودة الزعيم سعد زغلول ورفاقه من المنفى، اختار «سيد درويش الكاريكاتير» موعد رحيله ومصر تنتظر أول انتخابات بعد الثورة بكل ما فيها من تكتلات وانشقاقات وضرب فوق وتحت الأحزمة.
عاد أحمد إبراهيم حجازى، إلى حى «العجيزى» بطنطا، بعد أن غادره طفلا وهو مجرد «كفر» صغير بجوار خط السكة الحديد، حيث سكن والده قائد القطار، عاد بهدوء يليق بالدراويش الحقيقيين بعد أن فقد أى أمل بإصلاح الأوضاع فى مصر، ولم يترك لأحد الفرصة فى ظل «زحمة» الفترة الانتقالية ليعرف وجهة نظره فى ثورة يناير، وهل انتصرت الثورة لما كان يؤمن به وينحاز له الشعب.
حجازى وبهجت عثمان ومحى اللباد قرروا فى عهد السادات وبعد عمر من رسوم الكاريكاتير اعتزال الحديث للكبار بعد فشل الرهان عليهم، وقرروا جميعا بداية السلم من أوله، الحديث للمراهقين، عمل حجازى فى دار «الفتى العربى» ليخاطب برسومه الفتيان، الجيل المقبل الذى ساهم مع الجيل الذى يليه فى صنع أعظم ثورات مصر عبر التاريخ.
صلاح عيسى، الكاتب وزميل حجازى فى دار الفتى العربى، يحكى عن «درويش الكاريكاتير» بالقول: حجازى بدأ رساما للكاريكاتير الاجتماعى، لأن الكاريكاتير السياسى ذبل بعد ثورة 1952 بسبب اختفاء الصراع الحزبى ورؤية رسامى الكاريكاتير السياسية التى كانت تقترب بصورة أو بأخرى من رؤية السلطة، لكن الأمر لم يسلم من بعض انتقادات.
يحكى عن واقعة تعليق عبدالناصر على أحد رسوم حجازى الاجتماعية، بالقول: خرجت مجلة صباح الخير بغلاف من رسوم حجازى عليه فتاة تبدو من بنات الذوات أمام دولاب ملابس فيه رجال تختار منهم ما يناسب فستانها، وقال «عبدالناصر» فى خطاب تأميم الصحافة: «دا مش المجتمع المصرى»، ويضيف عيسى: أعتقد أن ذلك كان فهماً خاطئاً من عبدالناصر لرسوم حجازى، لأن الأخير كان يقاتل مع عبدالناصر فى نفس الخندق.
انتهى عهد عبدالناصر بكل ما فيه، وعبر الجيش المصرى القناة، وبدأ السادات فى مشروعه السياسى، الذى اتضح أول تجلياته فى الاحتفاء المبالغ فيه بزيارة الرئيس الأمريكى نيكسون، لكن الصورة ازدادات وضوحا بالذهاب إلى إسرائيل والخطابة فى الكنيست، فقرر حجازى هجرة الرسوم الاجتماعية.
عن قرار «حجازى» اعتزال الرسوم الاجتماعية، يضيف «عيسى»: عقب زيارة السادات للقدس وجد حجازى واللباد وعثمان أنفسهم أمام خيارين إما التحول لمسايرة التغيير السياسى الذى لحق بالبلاد وبالسياسة المصرية أو اللجوء لحل بديل، وكان البديل بالنسبة لهم جميعا، وحجازى واحد منهم، مخاطبة الأطفال والمراهقين للمساهمة فى تشكيل وعى جيل جديد، لعله يكون قادرا على القيام بحمل التغيير الذى فشل جيلهم فى تحقيقه ومحاولة للهروب من رؤية أمل الأمة العربية ينهار، وقرروا أن المناخ الموجود فى الصحافة لا يسمح لهم بالعمل السياسى فاتجهوا للرسم للأطفال، ويبدو أن ما أرادوه تحقق أخيرا على يد الشباب، الذى طالما خاطبوه برسومهم.
المشاغبة جزء من تكوين فنان الكاريكاتير، ورغم التوقف عن الرسوم السياسية، إلا أن «حجازى» لم يتوقف عن المشاغبات من وقت لآخر، يتذكر «عيسى» واقعة عن السادات: عام 79، كنا بنطلع مجلة الثقافة الوطنية طلبت منه «رسمة»، جاءنى بصورة شخص ذى شارب يأكل على طبلية وضعها فوق ترابيزة سفرة فخمة، ويعلق على الحائط «لمبة جاز» رغم الثريات الفاخرة المعلقة فى السقف، وكتب تعليقا: «شايفين أخلاق القرية»، وكان هذا الشخص أنور السادات، فطلبت منه تغيير شارب الرجل حتى نخرج من تشبيهه بـ«الرئيس المؤمن».
لم يمر وقت طويل على هذه الواقعة حتى عاد للكاريكاتير الاجتماعى والسياسى بإلحاح من مجموعة حزب التجمع، مسلحين بحلم صحيفة تعبر عن الجماهير، يقول «عيسى»: عندما بدأ الإعداد للإصدار الثانى للأهالى فى 1982 بذلنا محاولات قوية وضغوط شديدة عليه للعودة الى رسم الكاريكاتير بعد توقف اختيارى، اشترك معى فى هذه المحاولة حسين عبدالرازق، وتردد حجازى قليلا ثم تحمس عند صدور أعداد الأهالى، وعند رؤية الخط السياسى للصحيفة حسم أمره بالعودة لرسم الكاريكاتير السياسى.
عن حجازى الرسام الصحفى وعاداته، يقول: «عملنا سويا من 79 حتى 81 فى دار الفتى العربى الفلسطينية، تحت قيادة الفنان عدلى رزق الله وبصحبة علاء الديب ومحى اللباد وفى هذه الفترة تعرفت على حجازى بشكل مباشر، مكتبنا كان فى حى جاردن سيتى، هو كان معاه المفتاح ويذهب للعمل فى الـ5 صباحا، وعند وصولنا جميعا فى العاشرة، نجده يلملم أرواقه زأقلامه ويستعد للذهاب».
ومرت أوقات استمتع فيها الشباب الصغير والأطفال برسوم حجازى، قبل أن يأخذ قراراً بالرحيل عنهم، أو العودة إلى طنطا، ترك شقته الإيجار لصاحبها دون أن يتقاضى «خلو الرجل» المعروض عليه والذى كان يساوى ثروة فى منتصف التسعينيات، زاهدا فى كل شىء، اعتراض حجازى كما يرى صلاح عيسى كان رؤية مفادها أن هذا العصر لا توجد فيه إمكانية للمقاومة وتحديدا عبر فن الكاريكاتير، كان يملؤه إحساس بالصدمة وشعور بالاكتئاب وعدم الاكتراث بما يحدث فى المجتمع من تغيرات ربما لم يستطع تحملها.
حجازى قرر العزلة بعيدا عن الجميع، والجميع قرر احترام رغبته فى العزلة، عدا فنان وحيد، حامد العويضى، تلميذه وصديقه وابنه الفنى، بذل العويضى محاولات متكررة حتى وفاته فى إثناء حجازى عن قراره بالاعتزال، لكن محاولاته تحطمت على صخرة تصميم الفنان الكبير، ولم ييأس العويضى، جمع أصول أعماله من الأرشيف وطبعها فى كتاب «حجازى.. فنان الحارة المصرية»، وذهب إليه فى طنطا بالكتاب طالبا منه كتابة مقدمة، لكنه رفض، وعندما قرر أصدقاؤه الاحتفال معه بوصوله إلى سن المعاش قال لهم فى اتصال هاتفى يحكيه صلاح عيسى: قال لنا: انتو بتحتفلوا بإيه، وبمين، أنا ما عملتش حاجة ومش عاوز حاجة».