نظراً لاستخدام الصيادين البدائيين فى غابات الأمازون لسمها فى طلاء رؤوس سهامهم الصغيرة التى يطلقونها بالنفخ عبر عُقل القصب المجوفة، فتُسقط الطرائد مشلولة كما تسقط الأحجار، وهى تسمية سطحية النظرة لكائنات تستحق إمعان النظر، وتستدعى أسئلة كثيرة تُحاكم ميراث الخوف البشرى؟
!
..
عندما تتحول الزعانف إلى أقدام
.
.
نزوح المقهورين من بيت الماء
»!
!
عصر الخوف الكبير الثانى
يشارف العصر «الديفونى» على نهايته ليبدأ العصر الكربونى أو الفحمى، وتتعاقب وراءه العصور، فتكثر فى الأرض التى ينحسر عنها البحر نباتات السرخس العملاقة والصنوبريات المخروطية، وتنتشر النباتات البذرية ذات الزهور، تأخذ جميعها كربون الجو وهى تقوم بعملية التمثيل الضوئى، وينتقل هذا الكربون إلى أجساد الحيوانات التى تقتات على أوراق الأشجار وثمارها، ثم إلى أجساد حيوانات أخرى تتغذى على لحم الحيوانات آكلة النباتات. تزداد النعمة على البر بعد البحر، فتولد النقمة على اليابسة، مُمثَّلة بزواحف طاغية وجبارين رُباعى الأقدام ذوى أنياب قاتلة وأسنان تمزق، وطيور جوارح تهوى مناقيرها من السماء لتطعن وتخطف ثم تنهش. فماذا تفعل البرمائيات العزلاء من ضفادع وسلامندرات وحفارات أنفاق، وهى لا مخالب لها ولا أنياب؟ إنه سؤال عصر الخوف الكبير الثانى- على البر، بعد الخوف الأول- فى البحر. فكيف يهدهد الضعيف خوفه؟
أولاً، يتضاءل حجمه لقلة ما يأكل وهو لا يسعى فى الأرض بحرية، إذ تستطيل فترات اختفائه عن أعين المفترسين التماساً للنجاة. يهوى حجم الضفدعة من حجم بقرة إلى حجم فأر، وهذا لا يحدث بين يوم وليلة، بل على امتداد فترة تقدر بملايين السنين، فالأحفوريات التى توالى ظهورها فى الطبقات الرسوبية المختلفة، تقول بأن الضفادع السامة الضئيلة ظهرت منذ 40- 45 مليون سنة فقط، مقارنة بمئات ملايين السنين التى ظهرت فيها الضفادع الأولى العملاقة، غير السامة، وغير الملونة. وهنا توقفنا الأسئلة أمام حكاية السم والتلوين فى تلك الضفادع المدهشة، التى لم تكف عن التغيُّر، بدليل ترديد العلماء أن الأحدث منها صار إلى ما هو عليه منذ 2.5 مليون سنة فقط. كيف، ولماذا؟
!
!
يُقدَّر أن ظهور الضفادع السامة الملونة بدأ منذ 19 مليون سنة كما تُرجِّح الحفريات، لكن يكفى للإجابة عن سؤال تلوينها معرفة أنها تنتشر فى الغابات المدارية المطيرة فى أمريكا الوسطى والجنوبية. غابات كثيفة عالية الرطوبة ودافئة. تتزاحم أشجارها السامقة ذات الهامات الوارفة والمغطاة جذوعها وفروعها بالنباتات المتسلقة. دغل نباتى على الأرض يصعد متزاحما متلاصقا متداخلا فلا يسمح إلا بمرور الشح الشحيح من ضوء النهار. وتكون عتمة. وفى العتمة يتحرك مفترسون جوَّابو آفاق من كل زاحف وماش وطائر وقافز. وليس أهون على المفترسين ولا أدعى للتسلية- بين وجباتهم الثقيلة الصعبة- من ابتلاع ضفادع مُنمنمة خائفة، دون مقاومة، وبسرعة خاطفة كما فى لعبة سهلة. فماذا لو أن هناك وسيلة تقول للمفترسين جميعا: «إذا التهمتنى ستفقد حياتك»؟
وكانت تلك الألوان الصارخة هى الوسيلة. لكن، ماذا عن المفترسين الذين لا يرون الألوان كالزواحف؟ هنا تتطور الألوان فتتزود بنقوش واضحة من خطوط أو زخارف بدرجات من الألوان نفسها أو ألوان مُغايرة تميزها عيون الزواحف الكليلة وعيون المفترسين المصابين بعمى الألوان. وقد أثبت البحث العلمى أن ضفادع كل منطقة من مناطق عيش هذه الضفادع تتسم بلون معين، أو لون ونقش مُعينين، وكان تفسير هذا التمايز يقول بأن تطور وتنوُّع ألوان ونقوش الضفادع السامة حدث بفضل تنوع الطعام الذى تلتهمه ويكون مختلفا كثيرا أو قليلا فى كل منطقة تعيش فيها. كما أن ضغوط المفترسين على هذه الضفادع فى مناطق عيشهما المشترك، ثبَّتت ما تطور من ألوان وزخارف تتوارثها الأجيال، فتغدو «علامات إنذار مسجلة» فى كل منطقة، تُحجِّم تغول المفترسين فى افتراس الضفادع أبناء منطقتهم، كما تقلل نفوق المفترسين من أبناء المنطقة بسم ما يلتهمونه من هذه الضفادع. فعندما تعرف جوارح ولواحم منطقة معينة أن ضفادع منطقتهم ذات لون «الأحمر الفراولة» تقتل من يلتهمها، يتكون لديها ارتباط شرطى يحذرها من التعرض لها. أما غزاة المنطقة من مفترسين آخرين فيقودهم جهلهم وغزوهم إلى حتفهم. وكأن تلوين هذه الضفادع السامة نوع من الإنذار يحذر المفترسين من أبناء أوطانهم حتى لا يتمادوا، ويقود الغزاة إلى حتفهم. فأى مغزى وأى عبرة؟
خوف الضفادع وخوف البشر
!
.
!
.