أنيس منصور «يعود إلى السماء»

«مهما أنجزت فى الدنيا.. فهناك دائما من هم أفضل منك».. و«يموت بلا شرف من عاش بلا مبدأ».. و«لا مستقبل لمن يضيع الحاضر حزنا على الماضى».. كانت هذه آخر «مواقف» الكاتب الصحفى، والأديب، والمترجم، والفيلسوف، أنيس منصور. فبالتزامن مع قراءة الملايين لعمود «منصور» الأسبوعى «مواقف» فى جريدة الأهرام، كان مؤلف «الذين عادوا إلى السماء» و«وداعاً أيها الملل» يلفظ أنفاسه الأخيرة داخل مستشفى الصفا عن عمر يناهز 87 عاماً بعد صراع مع المرض.


يقول عبدالحميد شعير، الصحفى بجريدة الأهرام، وزوج الكاتبة الصحفية منى رجب، ربيبة الراحل أنيس منصور، لـ«المصرى اليوم»، إن صاحب «أعظم مائة فى التاريخ» أصيب مؤخراً بالتهاب رئوى حاد وآلام فى الظهر، تم على إثرها نقله إلى غرفة العناية المركزة، نظراً لتدهور حالته الصحية، ومع عوامل السن تدهورت الحالة حتى لاقته المنية الجمعة وسط أبنائه «منى وعلا وجعفر».


حفظ «منصور» القرآن الكريم فى سن صغيرة فى كُتّاب القرية، وكان له فى ذلك الكُتّاب حكايات عديدة حكى عن بعضها فى كتابه «عاشوا فى حياتى»، وفى دراسته الثانوية كان الأول على كل طلبة مصر حينها، وهذا تتمة تفوقه فى السنين السابقة، التى اشتهر فيها بالنباهة والتفوق حتى إنه إذا جاءت حصص اللياقة البدنية كان المدرسون يقولون له - كما ذكر فى كتابه «عاشوا فى حياتى»: «بلاش كلام فارغ، انتبه لدروسك ومذاكرتك، الأولاد دول بايظين»، لأنهم كانوا يرون فيه مستقبلاً باهراً وشخصية فريدة.


كانت بدايات مؤلف «زمن الهموم الكبيرة» فى عالم الصحافة فى مؤسسة أخبار اليوم، وكان يقول عن هذه البداية: «كانت بدايتى فى العمل الصحفى فى أخبار اليوم، وهذا بالضبط ما لا أحب وما لا أريد، فأنا أريد أن أكتب أدباً وفلسفة، فأنا لا أحب العمل الصحفى البحت، فأنا أديب كنت وسأظل أعمل فى الصحافة»، وبعد فترة من العمل فى «أخبار اليوم» تركها «منصور»، وتوجه إلى مؤسسة الأهرام فى مايو عام 1950 حتى عام 1952، وكان يكتب بالإضافة إلى عموده فى «الأهرام» مقالات فى جريدتى «الشرق الأوسط» و«العالم اليوم».


التحق «منصور» بكلية الآداب جامعة القاهرة برغبته الشخصية، ودخل قسم الفلسفة الذى تفوق فيه، وحصل على ليسانس الآداب عام 1947، وعمل أستاذا فى القسم ذاته، لكن فى جامعة عين شمس لفترة، ثم تفرغ للكتابة.


كان مؤلف «أعجب الرحلات فى التاريخ» و«من أوراق السادات» صديقاً مقرباً للرئيس الراحل محمد أنور السادات، وكان يقول عن صداقته بالرئيس الراحل: «السادات كان يطلعنى على أمور لا يعلمها الوزراء أنفسهم».


عُرف عن أنيس منصور أن له عادات خاصة فى الكتابة، فهو كان يكتب فى الرابعة صباحاً ولا يكتب نهارا، ومن عاداته أيضا أنه كان يكتب حافى القدمين ومرتديا البيجامة، كما عُرف عنه أنه لا ينام إلا ساعات قليلة جدا وكان يعانى من الأرق يخشى الإصابة بالبرد دائما، وقيل فى وصفه: «إن أنيس منصور يفكر وهو يكتب.. ويكتب وهو يفكر».


أجاد أنيس منصور عدة لغات بالإضافة إلى العربية، هى «الإنجليزية، والألمانية، والإيطالية»، واستغل هذه الإجادة فى ترجمة أكثر من 9 مسرحيات، و5 روايات، و12 كتاب لفلاسفة أوروبيين إلى العربية، كما ألف أكثر من 13 مسرحية باللغة العربية.


ترك «منصور» إرثاً كبيراً ومتعدداً من المؤلفات، منها «حول العالم فى 200 يوم، وبلاد الله لخلق الله، وأطيب تحياتى من موسكو، وأنت فى اليابان وبلاد أخرى، وفى صالون العقاد كانت لنا أيام، وأعجب الرحلات فى التاريخ». ويعتبر كتابه «حول العالم فى 200 يوم» الأكثر انتشاراً بين قرائه فى العالم العربى.


سافر أنيس منصور ودار الدنيا فى كل اتجاه، فكتب الكثير فى أدب الرحلات، وربما كان الأول فى أدب الرحلات، وحصل على العديد من الجوائز منها الدكتوراه الفخرية من جامعة المنصورة، والفارس الذهبى من التليفزيون المصرى 4 سنوات متتالية، وجائزة كاتب الأدب العلمى الأول من أكاديمية البحث العلمى، ولقب الشخصية الفكرية العربية الأولى من مؤسسة السوق العربية فى لندن، ولقب «كاتب المقال اليومى الأول» فى أربعين عاما ماضية، وله الآن تمثال فى مسقط رأسه مدينة المنصورة.


ونعى الدكتور مصطفى الفقى، أنيس منصور، قائلا: «إن منصور كان جزءاً عزيزاً من تاريخنا، وقطعة غالية ومكوناً أساسياً فى فكرنا»، واعتبر «الفقى» أن رحيل أنيس منصور بمثابة «طى لفصل كامل من حياة مصر الحديثة» موضحاً: «لقد ارتبطنا به عبر العقود الأخيرة مفكرا وكاتبا وفيلسوفا».


وتابع «الفقى»: «لن أنسى عندما كنت مستشاراً للسفارة المصرية فى الهند، وكنت أنتظر صدور مجلة أكتوبر لأتابع كتابه (فى صالون العقاد)، الذى كانت تنشره المجلة مسلسلا».


ونعت نقابة الصحفيين الكاتب الصحفى أنيس منصور، واصفة إياه بأنه أحد أهم الكتاب والصحفيين فى تاريخها الحديث، وأعلنت «الصحفيين» عزمها تنظيم حفل تأبين له عقب الانتهاء من انتخابات النقابة المقرر لها الأربعاء المقبل، وسط دعوات بإطلاق اسمه على بهو النقابة لتخليد ذكراه.


وقال صلاح عبدالمقصود، نقيب الصحفيين بالإنابة، إن «منصور» كان ومازال قيمة كبيرة للصحفيين، فهو واحد من أهم الكتاب فى مصر والوطن العربى وله العديد من الكتابات المهمة فى تاريخ الصحافة المصرية.


من جانبه، أكد مكرم محمد أحمد، نقيب الصحفيين، أن أنيس منصور كان واحداً من الكتاب القلائل الذين تمتعوا برشاقة فى الأسلوب والكتابة، لافتاً إلى أن ما قدمه منصور خلال مقالاته العشر الأخيرة يعد رحلة بداخل النفس البشرية فى محاولة اكتشافها، واصفا الراحل بـ«الفيلسوف».


ودعا «مكرم» جموع الصحفيين ومجلس النقابة المقبل لتخليد اسمه وإطلاقه على بهو نقابة الصحفيين ووضع اسمه على نصب تذكارى داخل النقابة تخليدا لدوره الصحفى.


وقال محمد عبدالقدوس، عضو مجلس نقابة الصحفيين، إنه كان صديقاً شخصياً للكاتب الراحل، وإنه رافقه طوال الأيام الأخيرة، مشيرا إلى أن الصحافة المصرية والعربية فقدت واحداً من أهم الكُتّاب تعد كتاباته لكل الأعمار.


«قد يجىء وقت يعجز فيه عن رفع الظلم.. ولكن يجب أن يكون هناك وقت للاحتجاج على ذلك».. تلك هى الوصية الأخيرة التى تركها «منصور»، أحد الفلاسفة العظام فى تاريخ مصر، فى «عموده الأخير بالأهرام».